سبق أن فصلنا في مقال سابق بعنوان "لماذا تفشل الثورات في السودان" أسباب ذلك الفشل، والمقال موجود على صفحات النت لمن أراد الرجوع إليه، ولكننا اليوم نكتفي بنموذج حي من الواقع المعاش لنتعرف على بعض أسباب تخاذل أفراد الشعب السوداني عن الثورة، وهي حالة تنطبق مع الاختلاف النسبي على قطاع كبير من المتعاونيين مع الانقاذ، ف "سيوفهم" مع الانقاذ و"قلوبهم" مع الشعب. في سنوات الثمانينات كنا بالمدارس المتوسطة، ونحن في بدايات سنين الشباب، كان كثيرمنا يحلم بعالم مثالي، وكان من بيننا من هم مثاليون في كل شيء، ولكن مرت سنوات وسنوات و" جَرَى الوادِي فَطَمَّ على القَرِيِّ "أي "تجاوز الشر حده" ، وشابت رؤوس وطالت لحى وتغيرت كثير من الافكار ، وطال بنا الزمان وطاب المقام للبعض بداخل الوطن او بخارجه، وكل يغني على ليلاه بخير أو بشر،" وكان مما كان مما لست اذكره فقل خيراً ولا تسأل عن الخبر". من بين أولئك الأصدقاء المثاليين، كثير من المجتهدين الغير مجندين في صفوف التنظيمات الاسلامية لا من قريب ولا من بعيد، والذين وجدوا أنفسهم مع مجيء حكومة الإنقاذ في مفترق طرق، وكان الخيار واضح أما التعاون او الذهاب للصالح العام! برر أحد الاصدقاء الطيبين فساد ذلك الصديق القديم بأنه سعي واجتهد وعمل بالنهار ودرس بالليل بإحدى الجامعات عساه يحصل على عمل طيب ليخرج أهله من الفقر، ووفق بعد جهد جهيد وعناء شديد في الحصول على وظيفة معقولة، ثم جاءت حكومة الانقاذ، وتمكنت من جهة عمله، ولم يكن له بد من التعاون معها ولو من باب إتقاء الشر، وخشية ذهاب سنوات إجتهاده هدر الرياح! ولكن الإنقاذ أغدقت عليه بعض النعم من خلال بدل المهمات والسفر بالطائرات وهو الذي لم يكن يملك ولا يعرف كيف يقود دراجة "عجلة"، وأجزلت له العطاء فحصل على كم قطعة أرض وبعض المال، بعد أن كان ضمن من قال عنهم السيد مساعد رئيس جمهورية الإنقاذ د.الحاج أدم "قبل الانقاذ مافي مواطن عندو قميصين والان الدولاب مليان"، وهكذا جرته الإنقاذ وأغرقته قليلاً قليلاً في مستنقع الفساد "الخميرة تصحي الدقيق" !. ولم يكن يظن ذلك الصديق القديم كل ذلك السوء في الإنقاذيين، حتى وجد نفسه في خضم من الفساد لا ساحل له، وعلم ببعض التفاصيل التي يشيب لها الوجدان، ولم يصبح التعاون مع الانقاذ كما في الاول حباً في ذهب الإنقاذ بل خوفاً من سيف الانقاذ، وأنتهي بأن أصبح يخاف على نفسه وأهله من الانقاذيين فهو على علم بقدرتهم على البطش والتنكيل إن إستدعى الأمر، فالامر قد يصل للتصفيات الجسدية وفي أحسن الاحوال قد يبقى في إطار قضايا في المحاكم قد تلقي به ما بقى له من عمر داخل السجون. خاصة وإنه إستخدم من قبل الإنقاذييين في التصديق على كثير من المستندات ومرروا عبره كثير من الصفقات ولم يكن هو سوى "عبد المأمور". ومع مروركل يوم أصبح يغرق في وحل الفساد أكثر فأكثر، وخجلاً من الجيران الذين رأؤ تبدل الحال وظهور النعمة الغير مبررة عليه، ما كان منه إلا أن رحل إلى حي "برجوازي" للإختباء، خاصة وأن مجتمع الحي الجديد لا يستدعى منه كثيراً من الاجتماعيات فهو يخرج من قصره الصغير بسيارته المظللة لايراه احد ويرجع على نفس تلك الحال، وترك للخدم والحشم مضايقة الضيوف ووضع التكلفة مع الأهل حتى لا يزعجوه بكثرة الزيارات، بحجة أن السيد متعب و نائم أو في اجتماع عمل من خلال "الفيديو- كونفرس". قطع كل علاقاته القديمة وبدلها بعلاقات مع جهات إنقاذية تتفق في ما بينها على ضرورة الحفاظ على مكتسباتها، وأهمها أن لا عودة لعالم الفقر. يبقى القول من إيراد المثال أعلاه، بأن الاسباب قد تتعدد والصور قد تختلف ولكن يبقى مبدأ خيانة المباديء والقيم وفساد الروح الدينية والتربية الوطنية عند كثير من الناس هي من أهم أسباب بقاء الانقاذ طيلة ربع قرن. ثم نُذكِر ذلك الصديق القديم،بأن غالبية الشعب السوداني بعد مرور ربع قرن من الزمان مازالت على العهد، تكتفي باللقمة الحلال إن كانت "بامية بايتة" أو "موية فول"، ولم تبحث عن إمتطاء الفارهات الجياد، ولاتحلم بإستيراد "بطاح" ولا امتلاك المنازل، ولا إرتداء جلابية "زبدة"، ولا ترى في ذلك الأمر عيب، حتى لوأعتبر البعض أن ذلك الامر فشل في الحياة العملية . ولتلك الغالبية "تطييب خاطر" في قول رسول الله "ص" " يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" ويقول رسول الله صلى اله عليه وسلم "من بات وهو آمن في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". حتى لو وصف الشاعر أبوبكر يوسف إبراهيم تلك الغالبية بأنهم أناس طيبون وان ذلك الأمر مأساءة !!! في قصيدته "مأساتنا أن اللئام المترفين بذي البلاد... الحاصلين على المباهج من معناة العباد الحاصدين ثمار ما غرست سواهم دون اجتهاد... ونحن الحاضنين الجرح فوق الجرح في ليل السهاد النازفين دموعهم ودمائهم ... الحارقين سنينهم... القابضين على الرماد الصابرين على الظلام والضنك والباساء.... ينتظرون في ظلماتهم فجر الفرج ... فعساه يوما ينبلج"...... " ونظل نهذي في فراش الموت.. نحن الفائزون بلا ارتئاب... صبراً على هذا المصاب فلنا على الصبر الثواب... والظالمون لهم عقاب... المعتدون نصيبهم عذاب... والصبر مفتاح الفرج ان فاتنا سعد هنا في ذي الدنيا... يوم القيامة نبتهج". [email protected]