دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاهيم من اجل تدوين السودانوية (الحلال والحرام 4)
نشر في الراكوبة يوم 05 - 09 - 2013


مدخل: إلى النخب الصاعدة
أضاعت النخب السودانية السابقة الكثير من الزمن وهي تبحث عن تعريف لذاتها من خلال رؤى الغير وهو ما جعل الثقافة السودانية في حالة اللاتوازن طوال تاريخها الحديث، وجعلها تشهد الكثير الحروب والنزاعات إلى الآن نتيجة لعدم وجود استيعاب كلي للثقافة السودانية من قبل النخب التي اعتمدت اما على التدوين الغربي والرؤية الغربية بشقيها الماركسي أو الليبرالي أو الرؤية العربية بشقيها العروبي أو الإسلامي. وإذا كانت الرؤية الغربية أو العربية في جزئها العروبي تعبر عن فكر بشري قابل للمراجعة رغم تعاليها الظاهر ولا تشكل أزمة كبيرة في اعادة الاستيعاب، نجد في المقابل ان الرؤية العربية (الإسلامية) تعتبر ذاتها متعالية عن الواقع أو النقد وذلك لانها تعتبر انها رؤية ناطقة بلسان الإله ولذلك ليس لبشر الحق في نقدها وتسعي لتسكت صوت النقد بإلغاء الاخر تماما معنويا أو ماديا.
ولذلك هدفي الأساسي وأنا أركز نظري على النخب الصاعدة هو توضيح علاقة الفكر البشرى بالرسالات الإلهية وليس الدخول في معترك جانبي يلهيك عن الغاية الأساسية، ويجب ان تدرك النخب الصاعدة ان الفكر الحقيقي هو الذي يستوعب الواقع كما هو وليس الذي يتعالى على الواقع ولو كان بمسمي الهي فهو في الاخر يهرب من محاولة استيعاب الواقع ليس الا. اما عدم دخولنا في معترك جانبي مدخله اننا ندرك ان الحساب الاخروى ينبع من ايمان الفرد باشياء محددة وعمله من خلال ذلك الايمان ولكن حتى لو كان فعلك مطابق للصواب دون ايمان فهو فعل خالي من الجزاء (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)). فلا وجود لبشر مبرا من الحساب والعقاب حسب الرسالة الإرشادية الخاتمة فيما عدا الرسل نتيجة لعدم ترك مساحة الاختيار لهم فقد تم فرض الرسالات عليهم دون اختيارهم (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)). فإذا صبروا على تلك الرسالات (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)). وأوصلوها كان ذلك سبب عدم محاسبتهم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2))، اما ماعدا ذلك فالكل يخضع للحساب، فهل سمعت النخب الصاعدة في يوم ما إمام مسجد يقول ذلك، هل قال إمام مسجد بأنه يمكن ان يدخل الجنة أو النار، هل سمعت اما مسجد قال لا تتبعوني ولكن اتبعوا ما تقوله لكم انفسكم فانا لست بمنجيكم من العذاب إذا كنت على خطا. للأسف لا لأنهم لا يتبعون الإرشاد ولكنهم يتبعون الرؤية العربية ويفرضون عليك إتباعهم وعندما تسألهم هل أنا بناجي من العذاب إذا اتبعتكم يقولون لا ندري ولكن أيضا لا خيار لك غير اتباعنا، اما المتبجحون فيزايدون على الإله ويقولون نحن على حق (والفرقة الناجية وغيره من المزايدات). وذلك شان كل من يدعي الألوهية أو النطق بلسان الإله فلا فرق بينهم وبين فرعون يقولون لك نهديك إلى الرشاد ويدعونك إلى القتل والظلم باسم الله (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)).
فنحن عندما لا ندخل في نقاشات جانبية ندرك تلك البديهيات التي في الرسالات الإرشادية والتي لا يستطيع احد المزايدة عليها، فكل من يقول انا امتلك الحقيقية المطلقة هو شخص لا يجب مناقشته. وللاسف يدخل مدعي الرؤية العربية (الإسلامية) الإله معهم داخل رؤيتهم ومفاهيمهم تلك ونجد تلك الحالة بين الضيق واليسر فهم عندما يكونون على راس الناس يتجبرون باعتبار ان الله اورثهم ذلك، وعندما يضيق عليهم يقولون بمفهوم التقية الذي يعني الغش والخداع ولكن لا يعتبرونه مفهوم إنساني ولكن يقولون ان الله استخدمه في دعوته بين الضعف والقوة ولا يدركون ان الإله يتعالى عن ذلك، وان الإله لا يحتاج إلى الغش والخداع لتوصيل رسالته (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107))، أي ليس النخب التي تدعي حفظ الرسالة وتوصيلها ولكن حتى الرسول ليس له الحق في اجبار احد على فعل محدد بل عليه الإرشاد فقط. بل أكثر من ذلك تاريخيا عندما حاول الرسول استعمال ذلك المفهوم كجزء من الرسالة اثناء الحرب تم رفض ذلك المفهوم كليتا (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)).
هذا عن الرؤية العربية التي تدعي امتلاكها ناصية الحقيقية وتفرضها على كل الإنسانية باعتبارها ناطقة بلسان الإله، ورغم اختلافنا مع الرؤية الغربية ولكن نحمد لها قولها بالاستيعاب الإنساني ففي الاخر تدرك الرؤية الغربية انها نتاج فكر انساني ولذلك كل من يستوعب الفلسفة الغربية يدرك انها الآن في حالة سيولة وتحديدا في مركزها الايدولوجي وهو مفهوم العلم الذي كان يعتبر مقياس للفعل الإنساني، نجده انتقل من مرحلة الثوابت إلى مرحلة النسبية في الأشياء والمعرفة والقيم وتحديدا، أولا: في الفيزياء التي كانت تقول بقوانين نيوتن وتحركت إلى نسبية انشتاين ونظرية الكم بعيدا عن لكل فعل رد فعل، وثانيا: في الاحياء التي كانت تقول بالتطور والبقاء للاصلح والوعي واللاوعي كل ذلك تجاوزه علماء الاحياء إلى الهندسة الوراثية وتاثير الجين على الوعي والسلوك.
الحلال والحرام في الرؤية العربية:
ان التدوين النخبوي العربي للإله الذي استمده من داخل الوعي المجتمعي الذي ينظر إلى الإله باعتباره الإله السيد، هو الذي جعل النخب تستوعب مفاهيم الرسالة الإرشادية على ذلك الأساس المجتمعي فأصبح الإنسان عبارة عن عبد وفق مفهوم العبيد المجتمعي الذي لا اختيار له ويؤمر فيطيع. وذهبت النخب العربية بذلك الوعي لتستوعب المفاهيم التي جاءت في الرسالة الإرشادية وذلك بإعطائها قيمة حياتية إنسانية، فكل ما تقول به النخب يرجع إلى الوعي المجتمعي للحظة تاريخية محددة واستيعاب مجتمعي لمعني ومغزى الحياة الإنسانية، ولان السيد في تلك الذهنية يأمر فقط دون مسببات فليس من حق العبد على السيد الإتيان بأسباب محددة لأمر ما أو حتى البحث عن أسباب لتلك التعاليم، لذلك كان التدوين للإرشاد الإلهي باعتباره أوامر دون مغزى حقيقي بخلاف انها من الإله السيد، ورغم مخالفة ذلك للإرشاد في الدلالة على ارتباط الحياة الإنسانية بالأسباب (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) ولكنها الذهنية المجتمعية. فتم استيعاب الرسالة الإرشادية بعيدا عن المسببات إذا كان في العبادات أو المعاملات، وعملت النخب على استكمال تلك الرؤية من داخل تلك الفترة الزمنية وأصبحت تقيس الواقع بتلك الفترة لمعرفته، فالواقع الحقيقي بالنسبة للنخب هي الفترة الزمنية للرسالة.
الإرشاد والقيم الإنسانية:
يحاول الإرشاد الإلهي دفع الوعي الإنساني نحو استيعاب مغزى الحياة الإنسانية وذلك باستصحاب مفهوم الإله السيد أو الإله الفاعل الذي يأتي من المجتمعات حتى يقوده إلى مفهوم الإله المتعالي. فعند استيعاب كل ذلك تستطيع النخب ان تمارس دورها في ارشاد مجتمعاتها نحو مغزى الفعل وفائدته لدي الكل المجتمعي. فنجد ان الرسالات الإرشادية تأتي مستوعبة بعض القيم المجتمعية لمجتمع التحولات من اجل توحيد الترميز السلوكي للكل الثقافي أي توحيد مفهوم الخطأ والصواب وتوحيد كذلك العقوبة للكل الثقافي، وكذلك دفع المجتمعات لاستيعاب مرحلة تحولاتها الاجتماعية فتكون تلك القيم مقياس للكل الثقافي بعيدا عن المقياس الجيني (ونحن هنا نتحدث عن الرسالات الثقافية). فعندما جاءت الرسالة الموسوية اليهودية استوعبت بعض قيم مجتمع التحولات في التحليل والتحريم حتى تكون بداية لتعريف معني الإنسانية (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)) أي ان الرسالة لم تأتي بقيم من السماء، وكذلك من اجل دافع النخب للسير على طريق الاستيعاب. ولكن عندما جعلت المجتمعات اليهودية تعريف الإنسانية كما هو داخل الوعي الجيني ووقفت النخب عند تلك القيم دون ادراك مغزاها الإنساني لتسير مع التحولات الاجتماعية، جاءت الرسالة المسيحية خالية من تلك القيم واعادت تعريف معني الإنسانية ومعني الإله المتعالي بعيدا عن القيم المجتمعية أو المعتقدات.
الإرشاد والقيم العربية:
بدأت الرسالة الإرشادية المحمدية مع مجتمع التحولات المكي من داخل معتقداته ورؤيته النخبوية للحياة من اجل توحيد الترميز السلوكي للكل الثقافي الذي كان يفرق بين المجتمعات، وكذلك احتوت على خطاب نخبوى لاستيعاب معني الإنسانية والإله المتعالي. فبدات الرسالة من المتخيل المجتمعي للإله الذي كان عند العرب مستمدا من اليهود وعاداتهم ومعتقداتهم، فقد كان المجتمع القرشي للتأكد من صحة الرسالة يرجع إلى اليهود لاستيضاح صحة الرسالة من عدمها، ولذلك بدا الإرشاد بما هو معروف عند العرب واليهود حتى تتأكد المجتمعات بصحة الرسالة وبالتالي تستطيع الرسالة مواصلة الإرشاد، وحتى سعي المجتمع العربي إلى تحريم الخمر وسؤال الرسول كثيرا عن ذلك ناتج من تحريمه في الرسالة اليهودية. وتجاوزت الرسالة بعض القيم التي لم تكن لها دلالة اجتماعية على مرحلة التحولات الانية بالنسبة للمجتمع العربي (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)).
التحريم وفلسفة التحولات الاجتماعية:
(1) تحريم العلاقات الإنسانية الطبيعية:
ان مفهوم التحريم في الفكر العربي واليهودي نابع من مفهوم قيم الخلاص الإنساني التي تأتي من الإله، ويعني مفهوم التحريم ان هنالك قيم مضرة كلية كما يعني مفهوم التحليل ان هنالك قيم مفيدة تماما بالنسبة للإنسان من الطبيعة. وهو عكس ما اتت الرسالات الإرشادية لتوصيله فقد سعت إلى توصيل مفهوم التكامل بين الإنسان والطبيعة، فلا يوجد ما هو كامل في ذاته داخل الحياة بين الإنسان والطبيعة إذا كان ضار أو نافع، فالكمال الحقيقي هو للإله اما ماعدا ذلك فهي عبارة عن اجزاء تكمل بعضها بعضا. وهو ما سعت الرسالات الإرشادية إلى توصيله.
فقد بدأت الرسالة العربية باستيعاب ما تقوله المجتمعات بان هنالك تحريم كامل (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)، لتتدرج بالنخب ومجتمعاتها نحو غايتها الأساسية وهي التكامل الإنساني الطبيعي (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157))، بغض النظر عن مفهوم الطيبات والخبائث بين المجتمعات والثقافات. ففي الرسالة يختلف سبب استخدام القيم باختلاف ما يراد منها إذا كان للكل المجتمعي أو لفترة محددة أو غيره. فرغم بداية الاية السابقة في التحريم باستصحاب القيم المجتمعية الا انها في اخرها اوضحت ان تلك القيم ليست إلهية نهائية ولكنها إنسانية تتبع حاجة الإنسان (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)). وحتى يستطيع المتتبع للرسالة الإرشادية فقط دون النظر في الكون ان يصل إلى نفس النتائج إذا تجاوز الوعي المجتمعي لذلك لجأت الرسالة إلى الإرشاد من خارج الإطار المجتمعي عندما ذكرت اهل الكتاب (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)، ومن المعروف ان الرسالة المسيحية وهي من الكتب اتت لتتعالي على التعريف المجتمعي للإرشاد الإلهي كقيم إلهية واعادت تعريف القيم كقيم إنسانية (ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجّس الإنسان).
إذا حتى ما تقول به النخب العربية من انه حرام قطعي هو ليس بحرام في العلاقات الإنسانية الطبيعية حسب الإرشاد الإلهي ولكنه استيعاب لمرحلة تحولات اجتماعية فقط، اما الحرام الحقيقي هو ما يحس به الفرد ان له تاثير سلبي عليه حتى ولو كان محلل عند كل النخب، وكذلك الاسراف في الشيء باعتباره نافع تماما فهو من الأشياء الضارة للفرد. أي ان الحلال والحرام يرجع إلى الفرد والى سبب محدد وليس إلى الإله.
(2) الحرام في العلاقات الإنسانية الإنسانية:
في كل التدوين السابق لم يتم ربط مفهوم التحريم بالسبب الإنساني الذي جاءت الرسالات من اجله وكذلك في تحريم العلاقات الإنسانية فقد استوعبت النخب الإرشاد (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23))، كغاية دون ايراد سبب محدد لذلك التحريم، واعتبرت ان ذلك الإرشاد عبارة عن قيمة إلهية يريدها الإله في نفسها دون سبب محدد. ورغم مجيء الرسالات الإرشادية لتوضيح مغزى الحياة الإنسانية ومسبباتها الا ان مجاراة نخب المجتمعات للوعي المجتمعي جعل من تلك الرسالات جزء من تاريخ المجتمعات وليس رسالات إرشادية تستوعب الواقع وتتجاوزه في ذات الوقت.
فالارشاد الإلهي كما ذكرنا سابقا يرتبط بمرحلة التحولات التي توجد بها المجتمعات لذلك في كل مرحلة من المراحل يستخدم قيم مختلفة يتم اعادة استيعابها داخل الرسالات الإرشادية، فإذا كانت هنالك قيم تأتي من السماء لكانت قيم مطلقة لكل المجتمعات، ولكن المتتبع للتاريخ الإنساني يجد ان القيمة الواحدة تتنوع بين التحريم والتحليل حسب مرحلة التحولات التاريخية. فعند مرحلة التحولات الاولية كان الزواج يتم داخل ليس الاسرة الواحدة ولكن بين التوائم فيتزوج الأخ اخته التوئم كما تخبرنا الرسالات الإرشادية ولم يكن ذلك حرام بل كان يتم استيعابه داخل الرسالات الإرشادية، وحتى في الرسالة الإرشادية الخاتمة جاء ذكر لتلك المرحلة حتى تستطيع النخب استيعاب التحولات الاجتماعية بعيدا عن المطلق الإلهي الذي تقول به المجتمعات (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)).
فإذا ذلك التحريم لا يرجع إلى المطلق الإلهي ولكن يرجع إلى التحولات الاجتماعية التي تجاوزت فيها الذات الاجتماعية للفرد مرحلة الاسرة الواحدة إلى المراحل اللاحقة من العشائرية والقبلية والثقافية ولذلك جاء التحريم بشكل قطعي حتى لا تحاول المجتمعات الرجوع إلى قيم مراحل تحولات سابقة وتطبيقها على مرحلة التحولات الانية. فجاء التحريم في العلاقات الإنسانية بشكل التحريم القطعي كما تقول النخب العربية وليس كما في العلاقات الإنسانية الطبيعية التي تختلف باختلاف المجتمعات وكذلك باختلاف تحولات الافراد فهنالك من لا يستسيغ حتى ما تقول به المجتمعات بأنه حلال في الطبيعة. فالعلاقات الإنسانية الإنسانية تسير نحو استيعاب الإنسانية من خلال الوعي الجيني إذا توقفت النخب عن اعادة الاستيعاب لذلك نجد الآن التزاوج بين الثقافات الذي يعني اعادة استيعاب وفق الوعي الجيني. ففي مجتمعنا السوداني نجد ان التزاوج بلغ في المرحلة الانية اغلب ثقافات العالم (إذا كان من افريقيا أو شرق اسيا أو أمريكا اللاتينية) مما يعني اعتراف من يتزوج بإنسانيتهم من خلال وعيه الجيني فقط، لانه إذا رجع إلى الرؤية النخبوية التي تتحكم في الوسط وهي الرؤية العربية نجدها لا تعترف بإنسانية كل الثقافات فكل الثقافات كما تقول النخب العربية كفار وعلى الثقافة العربية اما ان يسلموا وفق مفهومها أو ان يقتلوا كما تقول اية السيف (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)).
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.