المرأة هي مرآة واقعنا الاجتماعي. فهي مسرح أزماتنا وبؤرة استقطاباتنا السياسية-الثقافية وصراعاتنا الوجودية. وذلك من واقع أن كل عناصر هذه الازمات تترك بصماتها عليها. تقدمت فتاة في العشرينات من عمرها واثقة النفس للعمل كمقدمة برامج بالتلفزيون السوداني. أدت المعاينة المطلوبة، ومن ثم تلقت اتصالاً في فترة لاحقة يفيد بنتيجة المعاينة. وكان الاتصال على النحو التالي: (لقد كان أداؤك في المعاينة رائعا، ولكن هناك مشكلة واحدة ربما تقف عائقا في حصولك على الوظيفة، وهي أن لونك غامق أكثر من اللازم!... ولكن عموما دي مشكلة بسيطة يمكن حلها. فقد درجنا في ادارة التلفزيون أن نقوم بتغطية تكاليف تفتيح لون البشرة لكل مقدمات البرامج والمذيعات العاملات لدينا). وفي حادثة أخرة مشابهة، وإن كان المجال مختلفا، تقدمت فتاة للالتحاق بكلية الشرطة. وأثناء المعاينة الروتينية والتي تمت بواسطة لواء شرطة امرأة، حيث تطلعت الى وجه الفتاة مليا ثم قالت (لونك غامق جدا، ممكن تفكي الحجاب حتى أرى طبيعة شعرك أو اذا كان في درجة سواد بشرتك!). المفارقة الساخرة أن كل ذلك يحدث في السودان والذي يمثل الأفارقة السود غالبية سكانه. إن مثل هذا الارتباك في تعريف الذات، كما هو واضح في تعريف السودانيين المرتبك لذواتهم والذي يتجلى عند التعامل مع النساء عند اخضاعهن لمزاج الأيدولوجية المهيمنة والتي قررت أن السودانيات يجب أن تكون بشرتهن شاحبة أو فاتحة أو مفسوخة لهو مسألة محيرة يصعب عقلنتها. إن إخضاع النساء للمماثلة في الزي والشكل بات من المسائل المألوفة في كل أنحاء السودان غربه وشرقه شماله ووسطه. فالايسكيرتات الطويلة المفارقة لجماليات التفصيل والبلوذات ذات الأكمام الطويلة القابضة والحجاب الذي يلتف حول الرأس كاشفا عن وجه فاتح/شاحب يناقض لون البشرة فيه لون الشفايف والجفون الغامقة قد صار هو المشهد المألوف لبنات السودان اليوم. العنصر الاكثر حيرة في مسألة تفتيح البشرة هي ما يعرف بالخلطة. وهذه الخلطة موجودة في كل المحلات عبر مدن السودان المختلفة. تاريخيا كانت هذه المحلات التي تبيع الخلطة تعرف بدكاكين العطارة وهي متخصصة في تجارة العطور والبهارات. ولكنها في خلال الخمسة وعشرين سنة الماضية تحولت إلى دكاكين خلطة مختصة تماما في تفتيح لون البشرة للنساء. وفى الغالب من يملكون هذه المحلات هم من الرجال، ولسبب ما غير مدعوم بأي حقائق علمية أو موضوعية، يسود اعتقاد راسخ بأن هؤلاء الرجال هم متخصصون في كل ما يتعلق بجماليات النساء. فعلى العكس من تجار العطارة التقليدين والذين اكتسبوا معارفهم عن طريق المهنة المتوارثة والمعرفة المكتسبة في الاعشاب الطبيعية ووظائفها، فإن تجار الخلطة اليوم كل بضاعتهم هي من الكيماويات ولذا يمكن تخيل الضرر الذي تحدثه في أجساد من يستعملونها. و تمشيا مع الظروف الاقتصادية القاهرة، فإن تجار الخلطة يبيعونها إلى النساء بمقدار المعلقة (قدر ظروفك)، كما هو الاصطلاح الشعبي السائد لمثل هذا النوع من التجارة. ولا يعرف حتى الآن على وجه الدقة المكونات الكاملة للخلطة، ولكن حسب معرفتي بناء التي اكتسبتها من حواراتي مع بعض اصحاب دكاكين الخلطة ومن يوردوا إليهم المواد المكونة لها فإن خلطات التفتيح قد تحتوى على قدر من الكيماويات والأدوية مثل المراهم المعالجة للأكزيما، ومراهم علاج البكتريا الجلدية التي تحتوى على نسب متفاوتة من الكروتيزون وسائل الأنسولين المعالج لمرض السكر الخ من الكيماويات التي لا يمكن أن تخطر على البال!. في قسم الأمراض الجلدية بمستشفى الخرطوم، هناك قسم معروف لمعالجة الآثار الجانبية الناتجة عن استخدام خلطة تفتيح البشرة. وقد تم افتتاح هذا القسم في عام 2000 ويمكنه أن يستوعب حوالي 15 حالة في وقت واحد. جل هذه الاصابات هي حروق والتهابات في الوجه نتاج هذه الخلطة محلية الصنع. في الخمس وعشرين عاما الماضية شهد السودان تحولات اجتماعية، سياسية وثقافية كبيرة. فالقطر الذي كان يوما ما يحمل سمات التنوع والتعدد الثقافي الغنى أصبح أسير لعقلية رافضة لهذا التعدد. وما انفصال الجنوب إلا شاهدا على فشل السودان في الاحتفاء وكيفية إدارة هذا التنوع الذي يزخر به نسيجه الاجتماعي. فتأثير ونفوذ دول الخليج بسطوتها الاقتصادية على السودان والسودانيين الفقراء لهو أمر كبير وخطير، خصوصا منذ أن عرف السودانيين طريق الهجرة الاقتصادية لهذه الدول. فالسودان قطر متعدد الأعراق والثقافات والاديان، ولكن في إصراره على التعامي عن هذه الحقيقة التاريخية بفرضه نسخة متعسفة من الاسلام السياسي، المستوردة من الجزيرة العربية والمحمل بثقافة اهلة التميزية المعزولة، فقد جعل من الشقاق الاجتماعي هو الديدن وانتهى بالتنوع إلى لعنة. حيث اشترط على السودانيين من قلب افريقية أن يجافوا ثقافتهم المحلية وأن ينبتوا ويتغربوا عن ذواتهم وصار على النساء الغامقات خلقة الله أن يتحولن إلى نساء فاتحات حتى لو أدى الأمر لأن يدفعن أرواحهن الغالية فداء للبياض. النساء هن مرآة مجتمعنا. فأزمة المجتمعات تتجلى بوضوح في وضعهن الاجتماعي المريع. فإضافة للخضوع والاحتقار الذي ينقص عليهن حياتهن فهن مطالبات بالاستجابة للتصورات الشائهة للإسلام وشيزوفرنيا الذات المتشظية، والمفروضة بواسطة الطغمة الاسلاموية الحاكمة، والتي تجرم انخراطهن في الحياة العامة وتتحكم في تفاعلهن الاجتماعي وتعرضهن للتعذيب والجلد. الأدهى من ذلك –كما هو ماثل اليوم- هو تعريض صحتهن للخطر ودفعهن لمسائلة مفهوم الأنوثة والجماليات لديهن ذلك المفهوم الذى توارثته نساء السودان عبر قرون من خلال ثقافتنا الغنية ومقايضة كل ذلك بمزيد من الخضوع والانسلاخ من جلودهن. إن سياسة الاستيعاب القسري التي يمارسها نظام الاسلام السياسي والايدولوجيات المتحالفة معه، قد بدأت تمارس فعلها في الحقيقة منذ ثلاثة عقود من الزمان. حيث لم تجد المقاومة الكافية من المجتمع لأنه تم تسويقها على أنها "الاسلام الصحيح". وهي سياسة في مجملها مجافية للواقع التاريخي للمسلمين السودانيين. فالثقافة السودانية ثرة بطقوسها وجمالياتها إلا أننا كسودانيين يبدو أننا على وشك أن نفقد خصوصيتنا الثقافية، تارة من خلال التشكك في جدواها "أخلاقيا" أو من خلال الإكراه المتعمد والعنف المرسوم من قبل السلطة السياسية وهذا هو الضياع بعينه والتشظي الحتمي والانبتات المدمر. هالة الكارب [email protected]