(العصافير التي أوغلت في دمنا/ وإنسربت بإتجاه الروح هي نفسها/ العصافير التي نزحت من خيام الريح/ وإنكسرت غناء في الظهيرة) أحمد أبو حازم. (في المشغل الروائي "النص والنص الموازي" دراسة في الخفاء ورائعة النهار) كتاب فخيم، صدر عن مركز عبادي للدراسات والنشر، حوى بين ضفتيه دراسة نقدية تطبيقية للروائي والناقد والمسرحي عثمان محمد أحمد(عثمان تراث) عن رواية الروائي فيصل مصطفى (الخفاء ورائعة النهار) وألقى خلالها الضوء وعميقاً على ثنايا هذا العمل الروائي بمنهجية نقدية صارمة تميِّزت بشمول وافر. ولا غرو إذ، أن المؤلف عثمان تراث باحث متعدد الغوايات، فهو فاعل ثقافي منذ ستينيات القرن المنصرم، على مستوى بلادنا، واليمن الشقيقة التي يقيم بها منذ التسعينيات، وناقد له العديد من الدراسات والكتابات النقدية، ومخرج مسرحي متمكن، سودان وأخرج عدداً من نصوص يوسف إدريس وتوفيق الحكيم لجماعة "المسرح الجامعي"، و"عمل في البندر" وغيرها، من أعمال ونصوص مسرحية. وعوداً لدراسته النقدية عن رواية فيصل مصطفى، القيم الآخر باليمن الشقيقة، نجد بأن عثمان قد تناول الرواية بوعٍ نقدي عالٍ، عبَّر عنه الناقد العراقي د. حاتم الصكر في تقديمه للكتاب قائلاً" أن الكتاب(يعد إحتكاكاً نقدياً برواية عربية حديثة بمقتربات نقدية ما بعد بنيوية، تستفيد من جماليات التلقي وآليات التأويل، وتقدم نموذجاً متقدماً لإستيعاب النصوص السردية) وهو ما يعضده رأي المؤلف –نفسه- حين أشار إلى أن "رواية "الخفاء ورائعة النهار" ليست رؤية حكاية(حدوتة). إنها رواية تفاصيل وتكنيك، إن الأهم فيها ليس هو ما تحكيه، أو ما تقوله، بل كيفية هذا الحكي". وإنقسمت فصول الكتاب، على مستويات نقدية متعددة، حفرت عميقاً في بنية وفضاءات الرواية، حيث تناول الفضل الأول (العتبات النصية) وإبتدرها عثمان تراث بتحليل وتناول أغلفة الكتاب الثلاثة الأولى من ناحية التشكيل والهندسية البصرية، فضلاً عن تحليل الغلاف الخلفي، وفي هذا الجانب، يدلف "تراث" في الفن التشكيلي بمعرفة صميمة، حيث يورد بأن التصميم الأمامي للغلاف (يُصنف ضمن بنية الفن التشكيلي التجريدي، ورغم أنه حمل بعض ملامح المدرسة التشكيلية الطبيعية، إلا أن هذه الملامح جاءت ضمن بنية تجريدية أشمل جعلت الكتابة النصية، الواردة في هذا الغلاف، جزءاً من تلك البنية له مساهمته الواضحة في تجريد العمل التشكيلي) مضيفاً:(إذا اعتبرنا أن انضباط سلويت الرجل الواقف، ومحاكاته للواقع، يشكل أوضح سمة طبيعية في تصميم الغلاف، فأن تلك السمة، إضافة إلى اكتسابها بعدها التجريدي ضمن البنية التجريدية الأشمل، فهي تكتسب، في حد ذاتها، بعداً تجريدياً من خلال إتخاذها لشكل السلويت، الذي يفتح الأفق واسعاً لإرتحال خيالات المتلقي إلى ما يمكن أن تكون عليه ملامح ذلك الرجل، وحتى اتجاه جسده، وأسباب ودلالات وجوده في هذا الشكل، وفي هذا المكان الخيالي). وفي ذات الفصل عمد المؤلف إلى إستكشاف هوية الرواية حيث أن الكاتب عمد إلى تعريف الرواية ب"رواية سودانية"، بجانب تحليل العنوان.وإشتغل الفصل الثاني، على (النص) الروائي، حيث تناول بتفصيل موجز التصنيف، تقسيم الرواية، والإستهلال، وفي الباب الثالث، إشتغل المؤلف "تراث" على(عناصر الرواية) من حيث الشخصيات، قصة والأحداث، اللغة والراوي، الزمن، المكان الروائي. ويرى عثمان تراث في إحدى مقولاته الواردة بالكتاب أن رواية فيصل مصطفى (لم تهتم بإبراز شخصياتها –بما فيها الشخصيات الرئيسية- وكأن لها وجودا طبيعياً، ولم تنقل صورة متكاملة لهذه الشخصيات، كما تفعل الكثير من الروايات حينما تحرص على تقديم وصف شامل ودقيق لشخصياتها: ملامحها، أشكالها، قاماتها، تاريخها، تكوينهم النفسي، أهواءهم، وهواجسهم.. إلى غيرها من التفاصيل الدقيقة) حيث لاحظ علو النبرة الآيديولوجية للرواية التي تعمل على حكاية أربعة من الشباب، شابان وفتاتان، في الفترة الوجيزة التي سبق استقلال البلاد، حيث تدور أجواء الرواية في أجواء مشبعة بالصراع الطبقي والنضال الوطني ضد أشكال الهيمنة الكولونيالية اقتصادياً وسياسياً، عبر شخوص الرواية الأربعة الرئيسية ك"حكيم" و"نورا" والشخصيات الثانوية الأخرى، في تناغم لا يتعارض مع إشارة عثمان تراث حول بناء شخصيات(الخفاء ورائعة النهار)إذ يشير الناقد الروسي ميخائيل باختين إلى أن "الإنسان المتكلم في الرواية هو دائماً صاحب آيديولوجيا بقدر أو بآخر، وكلمته هي دائماً قول آيديولوجي، واللغة الخاصة في الرواية هي دائماً وجهة نظر خاصة إلى العالم تدعي قيمة اجتماعية" [باختين: الكلمة في الرواية، ترجمة: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 1988]. وفيصل مصطفى قاص وروائي وصحفي سوداني مقيم باليمن، منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الفائت، يهتم في أعماله بالإشتغال على التاريخ الاجتماعي للسودان، وله أكثر من (300) عمل قصصي نشرت بالصحف والمجلات اليمنية ك(الثورة) و(26 سبتمبر) و(معين) و(اليمن الجديد ) صدرت الطبعة الأولى ل(الخفاء ورائعة النهار) في 1988م، و(حكيم وعطاء وروضه يعبرون النيل) 2002، صنعاء، ونصوص سردية بعنوان:(شجرة هجليج) الهيئة المصرية العامة للكتاب2007، القاهرة. والطبعة الثانية ل(الخفاء ورائعة النهار) عن مركز عبادي للدراسات والنشر 2013، صنعاء. وستصدر له مجموعة نصوص سردية بعنوان:(انشقاق) عن الهيئة العامة لقصورالثقافة القاهرة وله مجموعتين قصصيتين: (الجليسان) و(الفجوة). وسبق وأن توقف الأديب الراحل الطيب صالح لدى رواية:(الخفاء ورائعة النهار) حيث قال:(لم يكتف المشهد الروائي السوداني بالتنويع على وتر الاتجاهات والمذاهب، أو اللجوء إلى التاريخ كحدث وإقناع. بل تخطى ذلك إلى التجريب وتجاوز النمط. ومن هذه المحاولات رواية "الخفاء ورائعة النهار" ل"فيصل مصطفى" والذي حاول أن يزاوج بين ما هو واقعي وما هو أسطوري في جدلية الظاهر والباطن للقبض على إشكاليات اجتماعية وأيدلوجية كالصراع مع المستعمر ووضع المرأة في مجتمع بطريركي، واعتمد لغة غير مألوفة زاوجت بين الشعري والدراميا، وحاولت ما استطاعت أن تخرج من جلباب الواقعية المهيمن على الرواية السودانية). وهو ما يذهب إلى فيصل مصطفى في حواره مع المصرية نهال قاسم، حيث قال عن (الخفاء): "كانت روايتي الأولى التي لجأت فيها إلى التاريخ كحدث، ومحاولة رؤية العالم من منظور مختلف، وقد لاقت هذه الرواية استحسان الكثيرون الذين وجدوا فيها خروجاً عن المألوف الواقعي التقليدي في المشهد السوداني، ومحاولة للتجديد والإبتكار إعتماداً على لغة نثرية غير مألوفة تمزج بين ما هو واقعي وأسطوري متخيل، وبين الشعري والسردي في تناغم جميل". إذن، نحن هنا مع كتاب/دراسة(في المشغل الروائي) إزاء حالة إشتباك متعدد الطبقات ما بين سفر الروائي فيصل مصطفى والشغل النقدي الرفيع لعثمان تراث، وهو درس نقدي جديد في حقل الدراسات التطبيقية، جدير بالتناول والتفصيل.. والإقتداء.