بعض الأحداث في معظم الأوقات وفي اغلب بقاع العالم وأقاليمه، تأخذ شكل الموج مداً وجذرا، هي اقرب ما تكون لصيحات الموضة يقترحها شخص أو جماعة ثم يتبناها آخرون فتروج وتعم وتنتشر انتشار النار في الهشيم، فقد عرفت عدة مناطق من العالم سلسلة أحداث تاريخية متشابهة وقعت بأسلوب تساقط أحجار الدومينو؛ فكانت ثورات التغيير في أوروبا الشرقية، والربيع الديمقراطي فيها وفي عدد من أقطار آسيا الوسطي وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق حين تساقطت الأنظمة الشمولية فيها وإنعتقت شعوبها من أغلال المعسكر الشيوعي/الشرقي تباعاً، ومن قبل شهدت أقطار أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ثورات التحرر من الاستعمار فنالت تلك الدول استقلالها بشكل متزامن وبمتوالية مضبوطة بشكل مذهل، وهو تزامن وانضباط وقتي أملته وقائع الحالات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها تلك الشعوب وحقائق التاريخ والقرب الجغرافي وإمكانات التواصل بينها.. هذه الرقعة من العالم (الوطن العربي) لم تكن استثناءا فمثلما نالت كل أقطارها استقلالها عن المحتل الأجنبي (بريطاني/ فرنسي)، في وقت متزامن وفي ظرف عقدين من الزمان بالتقريب (1950-1970م)، وهو ما يمكن أن نعرفه بأنه الموجة الأولي في التاريخ المعاصر لهذا الإقليم، كما بدت في ذات العقدين الموجة الثانية التي شهدت عملية الانقلاب علي الأنظمة الليبرالية والملكية في المنطقة (مصر، سوريا، العراق، كنماذج) وصعود موجة حكم الضباط الأحرار التي سادت في كثير من الدول العربية لثلاثة عقود في بعضها، إلي ست في أخري بينما نجت بعضها من ويلات هذه الحقب، وهذا محل التساؤل الذي تسعي هذه الدراسة خلف إستكناهه، ولمعرفة الأسباب التي وقفت خلف التباينات الطفيفة أو الفارقة التي ميزت بعض الأقطار عن الأخرى، وجعلت دروب بعض الشعوب متطابقة وبعضها متوازية والبعض متقاطعة، وهذا يشمل أيضا "مع التركيز" الموجة الثالثة، أي موجة إسقاط أنظمة حكم الحزب الواحد (والرجل الواحد) التي آلت إليها أنظمة انقلابات "ثورات الضباط الأحرار والتي عرفت علي نطاق واسع بمسمي "ثورات الربيع العربي/ الثورات الشبابية/أو ثورات مواقع التواصل الاجتماعي). الموجة الأولي: الاستقلال- التحرر:- تمثل عملية التحرر من الاستعمار"الغربي" نموذج مثالي؛ علاوة علي كونه الأول من حيث الترتيب؛ لدراسة نقاط التقارب والاختلاف بين الدول العربية وكذلك بين أقاليم الوطن العربي المختلفة (الشام، السودان ومصر، المغرب العربي، الخليج العربي). الملاحظة الرئيسية في هذه السلسلة هي اختلاف نمط الاستعمار في بعض الأقاليم عن الأخريات، فبينما كان الاستعمار مباشراً (استيطانياً أو غيره في بعض الأقاليم) كان الاستعمار غير مباشر في بعضها (الخليج تحديدا) حيث كان بنمط الانتداب أو الوصاية أو معاهدات الحماية، وفيما خضعت بعض الدول للسيطرة المباشرة للمستعمر عبر جيوشه وقوة سلاحه فيما خضعت شعوب بالوكالة مثل السودان حيث تم احتلاله بالوكالة (انجلترا عن خديوي مصر) وكان الحكم فيه ثنائياً اسمياً علي الأقل بينما كان الحاكم العام الانجليزي هو الآمر الناهي فعلياً، بينما تمتعت بعضها باستقلال نسبي ولم تتعرض لمحنة الاستعمار بعواقبه الوبيلة؛ مع العلم أن فيه فوائد على كون ضرره أكثر من نفعه أيضا "المملكة السعودية". بدأت هذه الموجة باستقلال أول قطر عربي (مصر) في 1919م، وتوالت سلسلة الأقطار التي لحقت بمد التحرر، فكانت عملية التحرر في بعض الأقطار شاقة ومكلفة دفعت الشعوب فيها أثمان باهظة مادياً (الجزائر) ونفسياً (مصر، سوريا..الخ)، بينما كانت سلسة في البعض الأخر؛ فقد استفادت تلك الأقطار من موجة إنهاء الحالة الاستعمارية، تلك الموجة التي سادت العالم عقابيل الحرب العالمية الثانية، كما انتفعت أكثر من كونها دولاً شحيحة الموارد قليلة النفع للمستعمر (تونس، اليمن، السودان)، بينما كانت بالنسبة للدول الخليجية أشبه ما تكون بإنهاء علاقة تعاقدية، فبريطانيا العظمي في الخليج كانت تقوم بمهمة الحارس أكثر من كونها المالك، ومستشارة لا حاكمة. ثمة دول عربية حسمت ملف الاستعمار ونظام الحكم في عملية واحدة وان استغرق ذلك زمناً طويلاً، ففي مصر مثلاً تم إنهاء الاستعمار وتوابعه - الجلاء- والنظام الملكي في الفترة ما بين الثورتين (1919-1952م)، كذا الحال في العراق، بينما في سوريا وليبيا مثلا تحقق الاستقلال أولا ثم أعقب ذلك الاستقلال الانقلاب العسكري علي الحكم الديمقراطي في الأولي وعلي الملكية في الثانية. وبما أن عملية التطور السياسي والاجتماعي أشبه ما يكون بسلسلة متكاملة، متى توافقت بداياتها تشابهت خواتيمها، وأينما حدث اختلاف في تلك البدايات فان طريق التطور يأخذ مسار مختلف في كل حالة عن الأخرى، لذا نجد أن دول الخليج ونسبة لاختلاف طبيعة الوجود الأجنبي فيها "الاستعمار" عن بقية الدولة، فقد اختلف مسار التطور السياسي ونمط الحكم فيها ولم تعرف ظاهرة الانقلابات العسكرية أو حكم الضباط الأحرار الذي عرفته معظم الأنظمة العربية. إن تحرينا الدقة فإن نمط معاهدات الوصاية والانتداب يختلف تحديدا في شيئين مهمين هما أولا عدم قدرة الأجنبي "المحتل" علي التدخل في تفاصيل شئون الإدارة الداخلية (علاقة الحاكم بالمواطن) خصوصاً ما يتصل منها بمسألة التعليم ومناهجه والقضاء الشرعي وشئون الثقافة والهوية...الخ، كما انه وان تدخل في المسائل العسكرية والأمنية (بحكم كونه الوصي الحامي) فإنه لا يتدخل في مسائل تكوين الآليات الوطنية العسكرية (جيش/شرطة) كسياسات التجنيد والتدريب و صياغة العقيدة العسكرية، وثانياً لا تكون له صلة مباشرة واحتكاك يومي بالوطنيين (الشعب) إنما علاقته عبر وسيط هو الحاكم الذي أبرمت معه معاهدة الانتداب لذا تقل ( وإن كانت لا تنعدم) مشاعر الاتحاد القومي (الوحدة الوطنية)، وما تستتبع من عداء للأجنبي "الغازي" ومن يقبلون التعاون معه بأي صورة أو قدر، وبذا يبقي الأجنبي ما شاء له الله البقاء ويغادر دون أن يترك أثرا ذا بال. فأول الاستثناءات والفوارق المهمة هي أن بلدان الخليج لم تكن مستعمرات صريحة. الموجة الثانية: انقلابات الضباط الأحرار :- بصورة عامة تزامنت وتداخلت موجة انقلابات (ثورات) الضباط الأحرار مع موجة التحرر من الاستعمار الأجنبي، وبالضرورة فان موجة التحرر هي الأسبق زمنيا إذا أخذنا كل دولة كحالة علي حدا؛ فمصر التي نالت استقلالها في 1919م شهدت انقلاب (ثورة) يونيو في 1952م، وليبيا التي استقلت في 1952 شهدت انقلاب (ثورة)الفاتح/القذافي في 1969م، وهكذا.. بينما إن أخذنا الدول التي كلتا هاتين الموجتين (كمنظومة) فقد نلحظ تداخلا قد يسبب لبسا في فهم تلكم الظواهر (الموجات) إلا انه وكما سبق لبس مفهوم فدول معينة شهدت الموجة (النقلة) الثانية قبل أن تلحق دولة/ أو دول أخري بركب الموجة الأولي. ومنظومة الدول التي اختبرت الموجة الثانية تشمل كل من (مصر، سوريا،العراق، ليبيا، اليمن، السودان، وموريتانيا) بنما نجت دول أخري وهي (الجزائر، المغرب، تونس،ولبنان، إضافة لدول الخليج العربي). وبملاحظة عابرة يتبين لنا أن الجزائر مثلاً تأسست مباشرة بعد التحرير كجمهورية –أي حكم حديث وغير تقليدي، وأيضا في وقت متأخر نسبياً؛ وإضافة لكونها دولة بترولية، وأيضا تونس الدولة المتطورة مدنيا تأسست بعد التحرير مباشرة كدولة جمهورية الحكم،فيما نجت المغرب (بحكم الجوار المغربي لها، وربما بفضل العناية الإلهية، والرعاية الغربية!!) من انقلاب شبيه بحركات الضباط الأحرار (انقلاب محمد أوفقير وثلة من الجنرالات) فيما لبنان التي تشترك مع سابقاتها في بعض السمات اختصت بطريق تطور مختلف هو طريق الحرب والدماء والدمار، لتبقي دول الخليج والتي نفرد لها مجالا أوسع لاحقا لكونها مناط بحثنا الرئيس في هذا المقال. الموجة الثالثة: ثورات الربيع:- الملاحظة المبدئية هي أن كل الدول التي شملتها الموجتين (الأولي والثانية) انضوت تلقائيا تحت مد الموجة الثالثة عدا عن استثناءات طفيفة ، أبرز تلك الاستثناءات وأهمها إن تونس التي نجت من موجة الضباط الأحرار كانت هي التي دشنت موجة الربيع ويمكن عزوة ذك لسببين، أولهما؛ أن حكم زين العابدين بن علي ارتكب ذات أخطاء أنظمة الضباط الأحرار (الاستبداد،الانفراد بالحكم، الفساد)، إضافة لفقدان المشروعية الأبوية التي كان يتمتع بها سلفه الحبيب بورقيبة، وثانيهما؛ هو إن تونس أيضا دولة قليلة الموارد وبالتالي باقتصاد هش وضعيف لا يحتمل الأخطاء الاقتصادية والإدارية والفساد.. ومن الدول التي (إلي ألان علي الأقل) استثنيت من موجة الربيع؛ السودان، والعراق.. فالدولتان شهدتا إحداثا مهولة أثرت علي استجابة شعبيهما للأحداث السياسية المحيطة (حرب إقليمية وأهلية وتدخل أجنبي في العراق، وحروب أهلية وانقلاب يحسب علي الإخوان والحركة الإسلامية وانفصال الإقليم الجنوبي في السودان..) بينما موريتانيا، وهي أيضا مستثناة إلي اليوم شهدت سلسة من الانقلابات فوق المعدل المعتاد كان أخرها في أخريات العقد الأول من هذا القرن. يستخلص من هذا العرض إن ثورات الربيع نتجت عن تفاعل عوامل عديدة هي: أولا: إن الاستعمار خلق أجواء وخلف خبرات وطنية تدفع نحو إيجاد إحساس وطني وميول سياسية تدعو للمشاركة في الشأن العام تصل لحد العنف أحيانا. ثانيا: إن حكم الضباط الأحرار وما صحبه من ظواهر أهمها الفساد المتفشي حول تلك الجمهوريات إلي (ملكيات جمهورية) أشبه ما تكون بالإقطاعيات. ثالثا: إن الاستبداد فيها لم يكن يستند إلي مبررات معقولة (الدفاع عن الوطن والتصدي للعدو ..) بل والمستفز أكثر لتلك الشعوب هو أنها كلها كانت محكومة بأنظمة أحزاب الواحد أو الحزب المهيمن مع وجود أحزاب ديكور وهي مع ذلك أحزاب تزعم أنها ديمقراطية فيما هي في الواقع أنظمة بوليسية وقمعية وفاسدة تقوم علي المحاباة والمحسوبية وخلقت طبقات سياسية-اقتصادية متميزة. رابعا: دول الربيع كلها تشهد وضع اقتصادي هش وبلا موارد حقيقية أو بموارد ضعيفة مع استهلاك المورد البشري (المورد الأهم) عبر سياسات التخويف والتشريد والتعذيب المنظمة. خامساً: جمهوريات الربيع العربي (في الغالب الأعم) دول ذات مجتمعات مفتوحة ومتباينة ثقافيا وعرقيا ودينيا ومذهبيا..الخ بالمقابل وعبر مقارنة دول الخليج العربي بدول لربيع نجد أن الخليج يختلف عنها في كل تلك العوامل الخمس التي حفزت علي الثورة والتظاهر والعنف ومن ثم التغيير السياسي للأنظمة الحاكمة، فدول الخليج: أولا: لم تتأثر بالاستعمار الأجنبي وما يزكيه من شعور قومي وحس سياسي وطني. ثانيا: أنظمة الخليج اقرب ما تكون إلي الملكيات الدستورية، فبرغم أنها ليست كذلك دستوريا ولا سياسيا إلا أن أسرها الحاكمة تسير الأمور بنهج اقرب إلي سياسات لحكم الرشيد ربما كان ذلك بفضل الجو الأبوي الذي يسود بين الملوك والأمراء ورعاياهم. ثالثا: لم تضطر أنظمة الخليج لاستخدام وسائل القمع والتعذيب ضد شعوبه. رابعا: وهذا هو الأهم، فان دول الخليج كلها دول نفطية ثرية لديها فوائض مالية كبيرة، ما خلق بيئة اقتصادية وتجارية يمكن أن تتفرغ فيها العديد من الرغبات. خامسا: مجتمعات الخليج مجتمعات متجانسة لحد بعيد عرقيا وثقافيا ودينياً، وبرغم القليل من الاختلافات المذهبية إلا أنها اختلافات غير عميقة الجذور ويمكن التعاطي معها بحكمة قبل أن تستغلها الجهات ذات المصالح داخليا أو خارجيا . إذا فان المخاوف التي يثيرها البعض من انتقال مد موجة الربيع إلي الخليج ليس لها ما يغذيها ولا ما يبررها لأن نهج التطور السياسي في الخليج يختلف عن سائر دول الربيع لاختلاف المنطلقات السياسية والمعطيات الوطنية في كل جانب.. وبالتأكيد هذا لا يعني أن تطمئن دول الخليج وتغط في نوم أو غفوة إنما دعوة لعدم الجزع ولعدم التعاطي بانفعال مع بلدان الربيع، فبالتأكيد لدول الخليج سيناريو مختلف وقد يحدث فيها ما لا يحمد عقباه أيضا إذا فشلت الأنظمة فيها عن الاستجابة للطموح الشعبي في الوقت الملائم ووصلت الأمور فيها إلي طريق مسدود. [email protected]