الناطق الرسمي للحكومة: قضية الأمة السودانية ضد دولة الإمارات لن تتوقف عند محطة المحكمة الدولية    ما هي "الخطة المستحيلة" لإيقاف لامين يامال؟ مدرب إنتر يوضح    ((منتظرين شنو أقطعوا العلاقات واطردوا سفيرهم؟؟))    تركيا تعلن استنكارها استهداف المرافق الحيوية ببورتسودان وكسلا بمسيرات المليشيا المتمردة    كيف سيواجه السودان حرب الصواريخ والمسيّرات؟!    494357480_1428280008483700_2041321410375323382_n    شاهد بالفيديو.. عريس سوداني يغمر المطربة مروة الدولية بأموال النقطة بالعملة المصرية وساخرون: (الفنانة ما بتغني بمزاج إلا تشوف النقطة)    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط سخرية الجمهور.. خبيرة تجميل سودانية تكرم صاحبة المركز الأول في امتحانات الشهادة بجلسة "مكياج"    شاهد بالفيديو.. أفراد من الدعم السريع بقيادة "لواء" يمارسون كرة القدم داخل استاد النهود بالزي الرسمي والأسلحة على ظهورهم والجمهور ينفجر بالضحكات    شاهد بالفيديو.. أفراد من الدعم السريع بقيادة "لواء" يمارسون كرة القدم داخل استاد النهود بالزي الرسمي والأسلحة على ظهورهم والجمهور ينفجر بالضحكات    عبد الماجد عبد الحميد يكتب: معلومات خطيرة    تشفيره سهل التحرش بالأطفال.. انتقادات بريطانية لفيسبوك    باكستان تجري تجربة إطلاق صاروخ ثانية في ظل التوترات مع الهند    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    ((آسيا تتكلم سعودي))    "فلاتر التجميل" في الهواتف.. أدوات قاتلة بين يديك    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالفيديو.. هدى عربي وحنان بلوبلو تشعلان حفل زواج إبنة "ترباس" بفواصل من الرقص المثير    المريخ يواصل عروضه القوية ويكسب انتر نواكشوط بثنائية    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    تشيلسي يضرب ليفربول بثلاثية ويتمسك بأمل الأبطال    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الجيش يوضح بشأن حادثة بورتسودان    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية و جوهر الدين و الرق و المسكوت عنه (19)
نشر في الراكوبة يوم 30 - 03 - 2014


من يحقد كمن يشرب السمّ وينتظر غيره كي يموت .....
مجتمعنا متخلف و يعيش التخلف في أبهى صوره و كلما مرت الأيام زادت الفجوة بينه و بين أغلب مجتمعات العالم . بالتخلف نقصد التأخر عن المجتمع الإنساني في الانتاج المادي و المعرفي ، مقاييس الانتاج المادي معروفة في عالم الاقتصاد و مقاييس الانتاج المعرفي كذلك معروفة من مساهمات العلماء في حلول مشاكل الإنسانية في كل مجالات المعرفة و الاكتشاف و الاختراع و التاليف و القراءة . لتخلف المجتمعات أسباب موضوعية ، منها التاريخي و الموقع الجغرافي و المناخ و شح الموارد و غيره من الظروف الموضوعية ، لكن الظروف الذاتية يمكنها تجاوز العقبات ، فاليابان مثلا تعاني من شح الموارد لكنها تجاوزت ذلك ، أما نحن فتتوفر لدينا موارد ضخمة لكن الظروف الذاتية تفعل فعلها فتجرنا للخلف لذا سينصب اهتمامنا على ظروفنا الذاتية التي سببت و لا تزال تسبب التخلف . نبدأ بملاحظة أن الأمم التي تخاف التساؤل و الشك و تستمريء حالة اليقين الخرافي الوهمي ستظل تراوح مكانها ، فالشك و التساؤل هو الذي يحث العقل على البحث و محاولة التفسير . عندنا سيطرة الخرافة و الفكر الخرافي لن تسمح برؤية الواقع و لا بحثه .
واحدة من عوامل التخلف هي مفهوم العلم . العلم يعرف بمنهجه العلمي ، فلا علم بلا منهج علمي و المنهج العلمي يمكن تعريفه باختصار بأنه : ملاحظة الظواهر و محاولة تفسيرها بوضع فرضيات ثم اختبارالفرضيات (و كل علم له وسائل اختبار للفرضيات ، فالعلوم التطبيقية من كيمياء فيزياء و غيرها ، لها وسائلها التي منها التجريبية و العلوم الاجتماعية لها وسائلها) و بعد الحصول على نتائج الاختبارات يتم فحصها و التحقق منها لإثبات صحتها و مدى معالجتها للمشاكل التي صممت لمعالجتها و تحقيقها للتنبؤات العلمية و إلا فيجب وضع فرضيات جديدة ثم اختبارها بالوسائل العلمية حتى الوصول لنتائج صحيحة يمكن تعميمها نظريا و نشرها ليتحقق منها العلماء في المجال المعين ... ليس في المنهج العلمي حقائق يعرفها البعض و لا يمكن للآخرين التوصل إليها ، أي لا غيب و لا تغييب و لا احتكار للحقيقة . لفظ العلم عندنا يعني العلم الشرعي ، فاغلب من يسمون بالعلماء عندنا لا يعرفون حتى تعريف المنهج العلمي ، يكفي أن يتمتع أحدهم بلسان فصيح و يحفظ قصص السلف و يحكيها بصوت متهدج مؤثر مع عبارات مثل : يا لله ، أرايتم كيف كان أولئك الناس ؟ سمّعوني الصلاة على النبي ... طبعا مع معرفة بعض الأحكام الدينية و حفظ آيات و أحاديث يحتاج إليها كعدة الشغل و يا حبذا لو ادعى أنه كان ملحدا أو ضالا فاهتدى و عرف عظمة الدين ... بعد عدة حلقات تلفزيونية و كتابات لا قيمة لها يصبح من ساكني القصور و ناكحي الحور و لاعنا للسفور و واعظا بزيارة القبور و داعيا للاستشهاد و قتل كل ملعون كفور ... ما كان يشغل سلفنا و ورثه الخلف الاهتمام بتفاصيل التفاصيل من الأحكام ، جاء في قصص السلف ما رواه إبراهيم بن الجراح في زيارته لمحي الدين الحنفي و الأخير على فراش الموت : ( أتيته أعوده فوجدته مغمى عليه فلما أفاق قال لي : يا إبراهيم أيهما أفضل في رمي الجمار ، أن يرميها الرجل راجلا أو راكبا ؟ .. وبعد الاجابة قمت من عنده فما بلغت الباب حتى سمعت الصراخ عليه)... يهتم مجتمعنا بفتاوى لعب النساء لكرة القدم و قال الشيخ حسبو و تكلم شيخ عبد الحي و أفتى علماء السودان بعدم سفر الرئيس و ... المستعربون عندنا ورثوا مرض العرب العضال الذي وصفه ابن خلدون : (اما العرب الذين ادركوا الحضارة بعد ان خرجوا من البداوة فقد شغلتهم الرياسة والقيام بالملك بدلاً عن القيام بالعلم وكانوا اهل الدولة وساستها اضافة إلى أن الأنفة العالية للفارس العربي تجعله يأبى أن ينتحل الصنائع والحرف والعلوم واحدة من هذه الصنائع فتركوها للموالي..) انتهى قول ابن خلدون ، و يمكن الإضافة له من عندنا : أنه شغلتهم الغزوات و الغنائم و السبايا عن التفرغ للعلم ، و لما لم يفهموه كفّروا كل من اشتغل به و نشروا قولهم : إنما العلم هو العلم الشرعي .
من يطالب بالتماهي مع مجتمع السلف فإنه ينشر ثقافة تجعل أشواق المجتمع تتعلق بالمستحيل ، لكن الخطورة أن العيش في الماضي يخلق حالة فريدة ، ففي ثقافة ذلك الزمن السلفي كان من الطبيعي للمجتمع أن يقوم أفراده بقتل الآخر الذي يفكر بطريقة مختلفة (كافر) ، و من الطبيعي نهب أمواله كغنائم و أخذ نسائه سبايا ، ثقافة ترى من الطبيعي أن يتكون المجتمع من عبيد و أحرار و لا يتحرج أشد رموزه ورعا من اقتناء العبيد و الجواري و ممارسة بيع و شراء الإنسان كسلعة يجب التأكد من صلاحيتها ، هي إذا ثقافة تجعل الفكرة و العقيدة أغلى من الإنسان ... الحالة الفريدة هي أن الشخص الذي يعيش في القرن الحادي و العشرين و يتنعم بخيراته و يستخدم منتوجات عقله الراقي ، المختلف تماما عن عقل الأسلاف ، يعيش جزء من عقله هنا و جزء منه هناك . الزمن الذي ينفقه مبدعو العصر ليس زمنه ، بل لا يمتلك عشر معشاره ، فعقله مشغول بطقوس و قصص الماضي (التي لم يحدث أغلبها إنما صنعها أهل الميديا في عصرنا) طقوس تستهلك جل يومه من اليقظة حتى لحظة النوم ، فلو وفّرتَ لمجتمع مثل هذا ، المال و أفضل مناهج التعليم و جلبت أفضل الخبراء فلن يخرج من التخلف حتى يعرف أن الدين ليس طقوسا كما عرفت ذلك أغلب مجتمعات الدنيا و أعادت تفسير الدين و تمسكت بالجوهر و فهمت المجاز من الحقيقي . بما أنه يحلم بالفتوحات و قتل الكفار و إجبار من يراهم هراطقة على الرضوخ و الإنكسار و بيع عقولهم في سوق النخاسة أو دحرجة رؤوسهم على النطع ، و يحلم بإذلال المفكرين المخالفين و سوقهم للمشانق فإن عقله مشغول بكيفية تحقيق ذلك و لن يجد وقتا ليبدع و سيظل مستهلكا و في مؤخرة الأمم . أيام محاكم الطواري في عهد نميري حضرت محاكمات كثيرة في محاكم مختلفة . كنت أعجب من الفرق بين المحاكم العادية قبلها و حيادية القضاة فيها و بين تلك المحاكم التي يحكم قضاتها بالشريعة . شاهدت القاضي في إحدى تلك المحاكم يجلد المتهم ليعترف عندما تعوزه الأدلة ، كان يزعق بلهجة مصرية (عسكري أديلو سوط) ، كانت أغلبية المحكومين من الفقراء البائسين و أدركت من يومها بأن الكلام عن تطبيق الشريعة هو قشرة خارجية تحكي عن العدل لكنها في الواقع تجسد محض الظلم ، و عرفت تفاهة انشغال العقول عندنا ، فبدلا من البحث عن أسباب الفقر و الأمراض و الظلم الاجتماعي فهي تعاقب الضحايا بأقسى العقوبات ، و لأن غالبية الضحايا من غير أهل الشمال و الوسط النيلي فإنها تنشر ثقافة الكراهية للآخر فتغذي روح الشقاق و التمزق و الحرب ... و عند تنفيذ العقوبات الحدية لم أكن اتحمل منظر الجزار و هو يحز أيادي البؤساء و يعرضها للجموع المبتهجة التي تصرخ بهستيريا : الله أكبر ، أما ا أولئك الذين كانوا بحاجة لمعرفة ظروفهم التي دفعتهم للسرقة و علاجهم فقد كانوا ضحايا لمجتمع لا يعرف التعاطف الإنساني و مشبع بروح الانتقام و القسوة ، جاءته تلك الروح من الثقافة التي نشرها البترودولار مع الإسلام السياسي فجعلته ينفس احباطاته في الانتقام من بؤسائه .
أقيمت ندوة في نادي الأساتذة بجامعة الخرطوم بعد سقوط النميري و جيء ببعض ضحايا القطع الحدي ، و أتيحت لي فرصة عمل لقاء مع أحد أولئك الضحايا ، حين قطعت يده كان عمره ربما دون الثمانية عشر عاما فهو غير متأكد من تاريخ ميلاده (ربما كشفوا عن عورته فوجدوه قد أنبت الشعر) بعد الذي تعرض له فقد اهتز توازنه النفسي فكان يحكي بحرقة عن أشياء لا رابط لها . كان يعمل كعامل يومية و الاتهام كما روى لي ، كان سرقة طوب من منزل ، و قد حدث الحدث بالخطأ و سوء الفهم ، لكن لأن القاضي المنفوخ بتحكيم شرع الله ، كان متعجلا لتطبيق العدالة فحكم عليه مع آخرين بقطع اليد من مفصل الكف ، الطوب أغلى من الإنسان و حياته و عمره الصغير ... لعدة ليال لم أستطع النوم ، كانت تتراءى لي صورة الصبي و هو غير مصدق بأنهم قطعوا يده ... إن الإنشغال ببنطلون البنت و طرحتها ، و الكلام بورع كاذب كذوب عن الطهر و العفاف و الأخلاق و العزة و التكافل و غيرها من الشعارات ، هو الزاد اليومي للكذابين لكنه ينتج واقعا مخالفا بمائة و ثمانين درجة لتلك الأكاذيب ، دائما نتائج ذلك العقل على الضد من شعاراته ، مجتمعا ، مفكري ثقافته السلفية يكذبون من أجل مصلحة الدعوة سيسير إلى الخلف ((اعترف اسحاق أحمد فضل الله بتعمده الكذب ، جاء في الراكوبة تحت عنوان (أتساءل فقط) بقلم لينا يعقوب بتاريخ 30 مارس 2014 ما يلي (.. الكاتب اسحاق أحمد فضل الله في حوار مع (السوداني) ينشر بالداخل ، الكاتب ويتفق معه آخرون من الكتاب المؤثرين يكتبون معلومات خاطئة عن قصد في بعض الأحيان للتأثير على أكبر قدر من المجموعات (ناس عاديين، متمردين، إعلاميين، وغيرهم) وذلك لتحقيق مقاصد معينة. )) انتهى ... القول بأنهم (يكتبون معلومات خاطئة) هو تعبير ملطف بدلا من (يكذبون) ... المجتمع الذي تمت برمجته ليصدق أمثال أولئك العاهات لن يتقدم أبدا ، فالتقدم الإنساني بناه الصادقون النزيهون ، الأمم التي يهرول إليها الكذابون ليتعالجوا في مشافيها و يستوردون منها ملابسهم الداخلية و سياراتهم البرادو و الأدوات الصحية لحماماتهم و الرخام لأحواض سباحتهم و السيراميك لصالاتهم و الموكيت لغرف نومهم ، لا يكذب مفكروها من أجل مصلحة الدعوة و من يكذب يسقط في نظرها ، قد تتسامح مع من يخطئ هنا أو هناك لكن من يكذب عليها لا تتسامح معه حتى لو كان رئيسها ...
ملاحظتان قبل الختام ، الأولى : هناك مصابون بفوبيا الخوف من الحقيقة و يرون أن ذكر الحقيقية فيها إساءة ، لذا يجب ألا يذكرها أحد و إلا فهو يسيء للرموز المقدسة ... التحدي قائم لهؤلاء لتكذيب أي رواية وردت في ما كتبناه عن تاريخنا و قد ذكرنا مرجعها سواء كانت آية أو حديثا أو حدثا تاريخا ... متى كانت الحقيقة إساءة ؟ الملاحظة الثانية هي : العقل السلفي لا يحب رؤية الواقع فهو يفضل مناقشة القضايا في إطارها النظري ، يفضل مثلا مناقشة أقوال فولتير أو جون لوك أو أي من المفكرين الذين كانت أفكارهم بذورا لكنها عند إنباتها تعرضت للصيرورة التاريخية ، بمعنى أن الواقع و تطور الأفكار أدى بها للسير في مسارات لم يكن في إمكان أولئك التنبؤ بها ، فأنتجت واقعا يختلف أحيانا بمائة و ثمانين درجة عن تصورات أولئك ، و هو الواقع الذي نعيشه اليوم . لا يحب العقل المأزوم مناقشة صيرورة الفكر و تحولاته و نتائجه الواقعية لأن ذلك من طبيعته السكونية ، لأنه يريد وضع صورة نظرية ساكنة لا تتحول و لا تتغير ، لأن المجادلة النظرية المفصولة عن الواقع تتيح له انتاج صور وهمية يرتاح إليها ، فهو يؤذيه أن يرى التاريخ كما حدث فعلا و الواقع كما هو حادث و يريحه أن يصنع صورة مثالية وردية لتاريخه و شيطانية لغيره ، و الهروب من رؤية واقع العالم اليوم للإنشغال بمماحكات نظرية عما قيل في الماضي تشبه المثل الذي أوردناه بشأن الزرافة . العقل المأزوم الذي ركب قطار التاريخ الزاحف للخلف ، يريد إيهام الآخرين بأنه يملك حلا شاملا كاملا و لكنه يعجز عن وضع تصوره النظري أو ضرب المثل له من الماضي أو الحاضر ، و عندما تتاح له الفرصة لتطبيق ما ظل يبشر به يتضح عجزه و تنفضح أكاذيبه ، و يبرر مؤيدوه إخفاقاته بأن الأمر مجرد خطأ في التطبيق ، و يتكرر بلا ملل التبشير بالنموذج العادل الكامل الطاهر الرباني الوهمي ... عندما يحدثونك بعبارات : (الدولة العادلة هي التي لا تخالف أحكام الشرع) ... و لو سألته مثلا : هل من أحكام الشرع : (... فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد ..) أو من أحكامه (.. حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون) فسيجيبك إن كان في حالة ضعف : لا تلك الآيات خاصة بكذا و كذا و لها ظروفها ... أما إن كان في حالة قوة مثل أيام نفخة الإنقاذ الأولى فسيملأ الدنيا زعيقا بالدعوة للجهاد و قتل الكفار و الشهداء الذين تنتظرهم الحور العين و ... الخ ... . و كما كتب أحدهم مهددا ابنة الأستاذ محمود محمد طه : ((إن السيوف التي حاربنا بها [الأستاذ محمود] لا تزال بين ايدينا تقطر بدمه ولم نعدها إلى أغمادها بعد وهي لاتزال مشرعه (وتحت الطلب) نستلها في أي وقت ، ولا تزال مشنقه كوبر منصوبه لكل من يسير على درب المشنوق ...)) (عبد الرحمن الزومة صحيفة التغيير 30 يناير 2014) ... غدا لو (انزنق) و وقف أمام محكمة دولية مثلا فسيقول : المقصود بالسيوف هي الحق ، سيوف الرأي ، الدم يعني المداد ... و في مكان آخر سيكلمونك عن السلام و الحرية و نبل الأخلاق و المحبة و غيره من الأكاذيب .... العقل المأزوم كما نبّه د. حيدر (مثل ود المويه) في المثل الدارج ، لا يمكن الإمساك به ... إنه عقل يجيد انتقاد الآخرين و شتمهم و تكفيرهم و الدعوة لذبحهم (فلترق كل الدماء) لكنه عاجز عن تقديم نموذج صالح للعصر ... عَجِزَ عبر الماضي الممتد لأكثر من ألف عام عن محو القبلية و العنصرية و احتقار المخالفين و أفلح دائما في إعادة انتاج الفشل و الغيبوبة و لا يريد أن يعترف بأن غيره تجاوز بفكره النير مراحل القبلية و التخلف ، يريد تصوير الأمر ببساطة بأن الاحتياج فقط لاحترام القوانين و الديمقراطية الوهمية في ظل الدولة الدينية و يعجز عن رؤية الخلل البنيوي في تركيبته الذي إن لم يتعافى منه سيظل واقعه مأزوما دائما... كلما تعمقت جراح العقل المازوم كلما كشف عن خوائه و وحشيته و دمويته ، أهم ما يميز العقل المازوم الفاشي هو أنه يرى أن الفكرة أهم من الإنسان و أنه مستعد لذبح من لا يصدق أوهامه عندما يمتلك القوة و تتهيأ له الظروف ، لا يتعلم من أخطائه أبدا لأنه يظن أنه بلا أخطاء ...
يتقدم العقل الإنساني بخطى يزداد اتساعها يوما بعد يوم ، سيتجاوز المأزومين و المنغلقين و المشدودين نحو الماضي بأعناق ملتوية تأبى النظر أمامها ، و سيفتح مغاليق لا يخطر إلا على القلوب المستشرفة للمستقبل إمكانية فض أختامها ، ربما سيجمع أصوات من غيروا مسارات التاريخ و يحدد ذبذباتها ، ربما سيكشف خبايا الماضي بطرق لم نصل لمرحلة تخيّلها ، ستثبت الأيام أن أولئك الذين كُفروا و لُعنوا منذ ابن المقفع و الفارابي و ابن سينا و ابن الهيثم و الرازي و ابن رشد حتى محمود محمد طه أنهم فعلا من أثروا الحياة الإنسانية ، و حق للإنسانية أن تعرفهم بمساهماتهم ، أما أولئك الذين لم يساهموا في حركة التاريخ إلا بالقتل و الدعوة للقتل و ظلوا يحملون طلاسم كتبهم التي تكرر مقولاتها و ترهاتها جيلا بعد جيل من غير إبداع (فالإبداع من البدعة عندهم) فسيجرفهم سيل التاريخ إلى زوايا الحيوات المنقرضة و لن يبق منهم إلا ما يصلح للبحث و العظة و العبرة .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.