أمين تجار محاصيل القضارف : طالبنا الدولة بضرورة التدخل لمعالجة "كساد" الذرة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    ميسي يحسم قراره بشأن مستقبله مع إنتر ميامي    والي النيل الأبيض يدشن كهرباء مشروع الفاشوشية الزراعي بمحلية قلي    القيادية بالحرية والتغيير حنان حسن تفضح شاب قام بتصويرها خلسة بمحل "فول": (عاينت ليو لقيتو ببكي قال لي أنا يداب لي يومين ف البلد دي.. حنن لي قلبي..جبانون)    شاهد بالفيديو.. الفنانة عشة الجبل توجه رسالة للفنانين والفنانات وتصفهم بالمنافقين والمنافقات: (كلام سيادتو ياسر العطا صاح وما قصده حاجة.. نانسي عجاج كاهنة كبيرة والبسمع لفدوى الأبنوسية تاني ما يسمع فنان)    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور الممثل المصري الشهير "وحش الشاشة العربية" في الخرطوم بعد تحريرها !!    مصرع عبد الرحيم ود أبوك "خال" قائد الدعم السريع و15 ضابط في غارة جوية للجيش بمدينة نيالا والمليشيا تقوم بترحيل الجثمان من نيالا إلى الضعين    الميرينغي يتجاوز السيدة العجوز    متى تسمح لطفلك بالحصول على جهاز ذكي؟ خبير أميركي يجيب    عودة الحركة إلى مطار الخرطوم هي عودة رمزية للتواصل مع العالم الخارجي    اللواء الركن (م) أسامة محمد احمد عبد السلام يكتب: ذكرى يوم (ب)    السودان..الفاشر تهتزّ بهجوم ضخمٍ    من خارج الخط    ولاية الخرطوم تعتمد مقترحات تعديل في التقويم المدرسي    إن زدت في القصف.. زدناك عنادًا.. قسمًا لن نبرحها إلا بعز النصر..!    والي البحر الأحمر يلتقي المدير القطري لمشروع اليونيدو    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الخميس23 أكتوبر2025    مشاهد متداولة لاستهداف مواقع إستراتيجية بالخرطوم.. ما حقيقتها؟    اختطاف تاجر في السودان    السودان يعلن عن اتّفاق مع روسيا    بدء الامتحانات المعرفية للدورة الثانية لعام 2025 للأطباء السودانيين    هذه هي القومية التي ننشدها    المريخ يتعادل أمام الاتحاد الرياضي    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    «انتصار» تعلن عن طرح جزء جديد من مسلسل «راجل وست ستات»    علي الخضر يكتب: نظرة الى اتفاق الصخيرات .. لماذا تسعى الإمارات لتخريب مبادرة الرباعية ؟    السودان..قرار مفاجئ بتخفيض رسوم الجواز    معلومات مهمّة لمسؤول سكك حديد السودان    شاهد.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (نجوت من 3 محاولات اغتيال في نيالا والدور على عمر جبريل.. الضابطة "شيراز" زوجت إبنتها التي تبلغ من العمر 11 عام لأحد قيادات الدعم السريع والآن مستهدفة لهذا السبب)    إحباط تهريب مواد كيميائية وبضائع متنوعة بولاية نهر النيل    قوات الدفاع المدنى تنجح فى إنتشال رفاة جثتين قامت المليشيا المتمردة بإعدامهما والقت بهما داخل بئر بمنزل    تحذير من تموضع حوثي عبر غطاء إيراني قرب السواحل السودانية    وفاة الكاتب السوداني صاحب رواية "بيضة النعامة" رؤوف مسعد    ترامب: نهاية حماس ستكون وحشية إن لم تفعل الصواب    وزارة الدفاع الكولومبية تعلن دعم مشروع قانون يحظر أنشطة المرتزقة في البلاد    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    إيران تلغي "اتفاق القاهرة" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    بدء عمليات حصاد السمسم بالقضارف وسط تفاؤل كبير من المزارعين    ( "لينتي" كفكفت من عيني دمعات الليالي وجدتُ نفسي غارقا في الحب عاشقاً، محباً ومُريدا).. شاهد ماذا كتب العريس أحمد العربي لزوجته لينا يعقوب في أول يوم لهما بعد نهاية حفل زواجهما الأسطوري    ترامب يتوعد: سنقضي على حماس إن انتهكت اتفاق غزة    القضارف.. توجيه رئاسي بفك صادر الذرة    مدير شرطة اقليم الأزرق يثمن جهود إدارة المباحث الجنائية المركزية بالاقليم في كشف غموض العديد من الجرائم    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط عدد( 74) جوال نحاس بعطبرة وتوقف المتورطين    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    وزير الخارجية المصري: ننسق مع السعودية لإنهاء الحرب في السودان بسرعة    القبض على الفنانة عشة الجبل    تطوّرات مثيرة في جوبا بشأن"رياك مشار"    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة من الماضي ..
نشر في الراكوبة يوم 07 - 06 - 2014


كلما تأملت حُسنَك...،
ألقى آية تُضاهي آية
(1)
كلما تأملت الثورة التي أحدثها الشاعر الغنائي " محمد بشير عتيق " للخروج من متلازمة شِعر غناء وسط السودان الحسي في الثلاثينات و الأربعينات، إلى الشِعر الذي يتناول القيم الإنسانية، لتأكد لنا أننا أمام عبقرية شِعرية قطعت شوطاً طويلاً للخروج عن المألوف منذ زمن المُبكِّر.
ليس من بعد مطلع هذه الحكاية الشِعرية الغنائية التي كتبها "عتيق"، من مثال حي، غنائي يحكي اللغة في تراصف بنائها ونحن نستمتع بعميق أدب المعاني. إن سنوات شباب الشاعر "عتيق" تكتنز بأكوانٍ غير التي تحمِلها السيرة دون شك. توغّلَ النص في غابات الحِكمة ومتنزهاتها. وتجوّل في لفائف العقول التي تلبس حُلل الإيمان بحفاوة. ليس بالجفاء الذي نشهد الآن، ولا بالقوانين التي تخنق خيارات الناس، التي لا في شكلها أو محتواها تُؤذي أحداً، ولكن يعتبرها غلاة الموتورين كارثة .كلما رءوا السعادة رأي العينإلا وقد استنجدوا بالنفرة لحماية الأخلاق والفضيلة. تجدهم يبنون لها هيكلاً يناسب شخوصهم: بداوة اللِّحَى، وانتفاخ البطون، كنبتٍ عشوائي، على هيئة صورٍ كئيبة. كأن لا ذوق يهندِّم، أو نفثات طلاقة تُهذِّب !!.
استطاعت العبارة "المُعتّقة" من بيئة التاريخ، أن تهرب من كل أزمنة الشِعر الحسي في الغناء السوداني عند ذلك التاريخ. حين كان يُداعب الأجساد، المحروم رؤيتها تصورات غامضة تتكثف في خيال الشُعراء، فيتغزلون في نماذج صنعتها قرائحهم، في بيئة تحكّمت فيها ثقافة المنع. تقف بأسوارها العالية دون انطلاق الكائنات البشرية في عفويتها.
(2)
بمثل المطلع الذي كتبه الشاعر "عتيق"، وهو يسترسل بشاعريته ومفرداته العامّية الفصيحة، جاء اللحن الطروب للفنان "عبد الكريم عبد الله مختار": "كرومه"، على النظم الموسيقي للسلم "الخماسي"، فأكسب معاني القصيدة حيويتها.
جاء أداء المُطرب "صديق الكحلاوي" من بعد رحيل "كرومه" بأكثر من أربعين عاماً، في تلك الليلة المشهودة ،ليضف نسمة روح جديدة لمنتصف سبعينات القرن الماضي، حفاوةً بمناسبة زواج كريمة السيد "سعيد عثمان النور". عائلة من الطبقة الأمدرمانية فوق المتوسطة.
انكشف المسرح، وتألقت الإضاءة على السرادق المفتوح سقفه، وعناقيد من الجمهور معلقة على الشرفات والسقوف وأفرع الأشجار المجاورة وأسوار البيوت، تهتز من الطرب. عيدٌ، منْ لم يحضره فقد خسِر الخسران المبين، أو كما يقول شِعرنا العامّي:
(الغايب كِتِلْ والحاضِر حَضَر لى مِيتُو)
(3)
كم كانت "الحسناء" رائعة من أول مقدمها، عندما أفرد "العريس"، شعرها في البداية، عن الثوب، ينزعه بلُطف، فتدلى هو بنسيجه المضفور طويلاً. وعندما بدأ المُطرب "صديق الكحلاوي" بداياته التي نعرف بصوته المتهدِّج المُجلجِل، ومن أول انحناءة الرقص، صَعقت المفاجئة الجميع. انسحبت الراقصات من المكان على استحياء ليُفسِحنَّ لها. تثبتت النواظر كلها للمُشاهدة. توسطت البساط الأحمر المُزركش وحدها. كاشفات الضوء مُسلطةٌ عليها وعلى الشعوب التي تجمهرت، عند الساحة أو حولها.
غَرّد "الكحلاوي" يُكمل الرقص بالغناء وكلماته المضمرة في صُلب الأغنية تكاد تخرج:
يا ليل يا ليل يا ليل .... الله الله الله ....،
فنسينا نحن أنفسنا، حالما انطبقت الراقصة على نفسها. وشَعرها الأسود الفاحم يكاد يلامس قدميها من الخلف. رقصةٌ أبلغ من الحديث عنها.
ليس في مقدور المكان الفسيح أن يسع الجميع. تدفقت سيول البشر بلا ضابط. من الجيران ومن الأحياء المجاورة، فمكبر الصوت يستدعيك، ومجتمعنا حينذاك لم يتعود الخصوصية: "الناس شركاء الأتراح والأفراح"، إن أردتَ أم لم تُرِد !. شهدنا الحسناء ترقص ما يطلقون عليه" رقص الحمام" على " السجاد" الذي يتوسط الحفل. و المطرب "صديق الكحلاوي" يتغنى ويصعد بالتطريب إلى منتهاه، حتى ينفلت عن سقوف المعتاد، فلا أحد ينتبه أو يحس بخروجه السلس عن المألوف. أي حمام هذا الذي يستطيع أن يرقص مثل تلك الحسناء التي رأينا، أو يتلوى بهذه الطراوة واللدانة!؟ . الأرواح تكاد أن تُقلِع عن أوكار أجسادها، أمام مشهد تلك الراقصة الثعبانية المُبدعة.
(4)
كل خوفنا أن ينتهي هذا المشهد الفخم النبيل على عجل. فقد اعتدنا ألا يصبر المُحافظون في مجتمعات تلك الأيام على المُتع الروحية التي نعيش، فالمعاول الهادمة للأفراح يمكنها أن تُسدل الستار في أية لحظة و بلا مُقدمات، ليس على المشهد الذي أمامنا فحسب، بل على المناسبة والحفل جميعاً !.ولكن تآمر الزمان والمكان على الغلو، سمحَ للصدفة أن تفلت من نسور المجتمع التقليدي. فأغشاهم صاحب الملكوت فأضحوا لا يُبصرون. لنشهد نحنُ المسرحية اللّاهبة من أول الأغنية إلى ختامها. فالتوقيت لا يشبه إلا لحظات الخسوف أو الكُسوف، أو كأنه كويكبٌ يقترب من دُنيانا مرة في العُمر، لتهُز أركانه الثوابت. تجمعت كل النقائض الممكنة بترتيب كوني دقيق، يحكي قصةً قبضنا عليها من وحي زمان كانت سعته على الاختلاف أرحب.
(5)
علي يميني تقف سيدة في منتصف العُمر. فتحت عينيها على سعة اتساعهما قائلة بصوت مسموع للجميع:
- دي ما بِتْ نُصَاح!
همهمةٌ هنا وهناك، تبعها صمت المتفرجون والمتفرجات، ونفوسهم تضجَّ بالكلام غير المسموع، إلا من صوت المُطرب "صديق الكحلاوي" على مكبرات الصوت، يمُد أحرف المدّ ما استطاع صوته الجهور في تهدجه من سبيل. يُهدهِد الليل في سرير طفولته لينام ولا يتذكر. لو كان للحسناء من قريب لانتفض من جسده صقر المجتمع المحافظ الغضوب، وخرَّب علينا مائدة الفرح المبذول للجميع. ومنعنا أن نستمتع بما وهبه المولى لمَلِكة السجادة ذلك المساء. لقد خلق المولى من لدائن الطبيعة أنثى من البشر تتلوى كثعبان، تتثنى وتتأرجح، تعيد ترتيب الجسد كله، تُفرده وتطويه على بعضه كالعِلكة بإيقاع منتظم. تطوي الليل على رأسها في قبّته المنتشرة السوداء، وقمر وجهها يزدان صفاءً وبهرج. هي في عُمر سيدةٍ أنجبت طفلة أو طفلتين، يخضبان العُمر بجمال يشتعل من الخصوبة، يُكسر غلواء الشباب و هذيان البلوغ برضاء الروح من القلق.
(5)
هذا يومٌ كِدنا وكاد منْ حولنا أن ينسوا دُنياهم، فنسمة باردةٌ، هبّت علينا تشق صمت الليل. تُرعِش الأوجه حين تغشاها لطافةً. هبطت من السماء وعبرت عقود الإضاءة والزينة العالية، ونحن مسحورين لا ندري. قال رجل بجواري في السبعينات من عُمره:
{ هذه والله ما بَشر !. أللهم إنها آية من آياتك، تُعرضها علينا لنتعرف على وسائلك التي تختار، ولنتأكد في كل شاردة وواردة أنك الحقُ كله. تصنع لأنفسنا سكناً مما أبقيت بجانبنا من مخلوقاتك بهذه اللطافة والحلاوة في السراء والضرّاء. ها هي المتعة تُطل علينا فنتعجب. نرقبها بالنظر الحُر، وأنت تُنزل علينا آياتك البائنة، تتوهج من فوق وهج المكان، لنتعرف على الفروق بين "النيون" واللون الخمري، عند البشر الذين اصطفيتهم، لتُظهر فيهم قدرتك، وتختبرنا: أنشكُر أم نكّفُر.}
(6)
ها هو طيف رجلٍ مربوع ليس بالقصير، يلبس جلباباً أبيض و يُمسِك عصا ضخمة تتأرجح بين يده اليمين ثم الشمال، وقد اتخذ مكاناً قصياً في جانب من سجاد الرقص، لا يُفسد علينا البهجة التي تكورت في وسط المكان. يرجز بكلمات لم نسمعها، ويقفز عالياً، والزغاريد تنهمر علينا من كل مكان. تلك الحسناء على البساط، كأنها تتوسط الدُنيا ويتأرجح الكون بعناقيد ثماره التي امتلأ بها المكان، تكاد تُماثل بيت من شِعر المتنبي:
يهزُ الجيش حولكَ جانبيه .. كما نفضت جناحيها العُقابُ
حشود العيون وقد تسمرت. والرؤوس تكاد تنزِعها النشوة عن رقابها.
(7)
لأول مرة تعرَّفت بصدقٍ إلى المقُولة القديمة الجديدة:
(إن النساء تختار أشياءها ليراها النساء)!،
وإنهنَّ يتجمّلنَّ لبعضهنَّ. وبعضهنَّ يشتهينَ..، أو يتمنَّينَّ ما لغيرهنَّ من منحة حياة، وربما يوغر صدورهنَّ الحسد من رؤية جمال الأخريات وهنَّ يتفوقنَّ على أنفسهنَّ. عالمٌ انكشفت أستاره ذلك اليوم. فدهشة النساء أشد مما لدينا، ولإعجابهنَّ أصوات بلا لغة مفهومة. تعرَّت اللغة السرِّية التي تُميز حياة النساء عندنا من مكامنها، وعرفنا أن ليس اختلاف "الجندر" يخلق الشوق والاشتهاء، بل الكائنات المتماثلة أيضاً لها رغبات تتلون بألف لون. والتوازن بينها محفوظ بلا إسراف، فحبُ الجمال له ألف لون وطعم ورائحة. ولو كانت المحبة جسداً، لامتلأ فراغ الكون كله بالمهالِك. ولو كانت الشهوة التي تخرج من العُيون الناظرة، تستطعم الأجساد، لتحولت الحسناء رغيفاً ساخناً، يتقاتل عليه الجوع الإنساني الذي لا يشبع.
++
عبد الله الشقليني
2 يونيو2014
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.