انظر بإشفاق الى هذا الرجل الذي لا يكل ولا يمل في دق طبول التحذيرات وإطلاق الدعوات واستعجال الاغاثات كلما توغلت السلطات المصرية في إحكام قبضة التمصير الممنهج على منطقتي حلايب وشلاتين .. تحذيراته ونداءاته المتكررة ذكرتني بقصة كانت مقررة علينا في مناهج اللغة العربية في المدارس الأولية في ذلك الزمان . يا له من زمان . هل تذكرون قصة عمر والنمر ؟ يبدو إن التاريخ سيعيد نفسه هنا أيضا فبمثل ما انتهى المشهد الأخير للقصة بافتراس النمر لغنم القرية بعد أن ذهبت نداءاته أدراج الرياح سيتم ابتلاع قطعة عزيزة من لحم الوطن العزيز علينا جميعا. ولكن لأن نداءات المستغيث تسقط حتى الآن على آذان صماء كما تقول العبارة الانجليزية falling on deaf ears فقد بدا الرجل والعياذ بالله وكأنه يؤذن في مالطا ..يا نائب دائرة حلايب في المجلس الوطني شكر الله سعيك لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن ماذا ترجو يا رعاك الله من حكومة مكبلة . غارقة حتى شوشتها كما يقول تعبير الأشقاء المحتلون في شمال الوادي في مستنقع أزمات داخلية من حروب أهلية الى عزلة دولية الى فساد الى غلاء الى انفراط امن الى ضيق ذات اليد ..حكومة جل اهتمامها الحيلولة دون تسجيل معارضة الداخل والخارج نقاط على حسابها ؟ بعكسنا فقد استثمر المصريون بداية الخطأ المروع الذي غزلته الإنقاذ بكلتا يديها حول رقبتها في منتصف التسعينات حينما تورطت في عملية اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك دون التجهيز والإعداد للتداعيات اللاحقة للجريمة التي وجدت استنكارا و إدانة غير مسبوقة للنظام واسعة النطاق ولكن فيما كان السودان يحاول مرتبكا النأي بنفسه عن حادث مطار أديس أبابا والكشف عن المتورطون من الصقور وضعت السلطات المصرية منطقة المثلث برمته تحت سيطرتها الكاملة بالقوة العسكرية وإحاطته بسياج من الأسلاك الشائكة والبوابات الحديدية المدعومة بالخرسانة المسلحة ثم ألحقته بسياسة لكسب مواطن المنطقة بالإغداق عليه من ميزانيتها المأزومة بخدمات الماء والكهرباء والصحة والغذاء بأسعار رمزية تحسبا لما تؤول عليه قادمات الأيام من اللجوء الى الاستفتاء أذا تعقدت الأمور ووصلت الى طريق مسدود في دهاليز الأممالمتحدة ..الغريب إن مصر بمختلف حكوماتها التي تعاقبت على دست الحكم منذ الاحتلال وحتى الآن هي على قلب رجل واحد من المشكلة ..يستوي في ذلك مبارك ومرسي وسيسي ..بل حتى على مستوى الفكر والسياسة لم يشذ أحد بأن تبعيتها للخارطة المصرية قضية محسومة لا تقبل النقاش ..راجعوا ما يقوله المؤرخ والمحلل الاستراتيجي بجريدة الأهرام هاني رسلان المتخصص المقرب للسودان . في المقابل فلأن الحكومة مسكونة بهاجس العزلة الدولية ومحكمة الجنايات والصراع مع المعارضة فقد تراجعت قضية حلايب وشلاتين في سلم الأولويات ..وأمام مشاريع التهدئة والتسويف وعدم تصعيد القضية مع الأشقاء تحت مبرر إن الذي يجمع أكثر من الذي يفرق بين الشعبين بدا وكأن الحكومة تغازل المحتل نفسه سيما في حكومة مبارك بأمل توظيف علاقاته الوثيقة بالغرب بفك العزلة وإزاحة كابوس اوكامبو وبعدها يهون كل شيء ..ولكن في الخفاء كانت تحث زعيم جبهة الشرق موسى محمد أحمد لإطلاق تصريحات نارية بتبعية المنطقة للسودان مع إضاءة الضوء الأخضر لمفوضية الانتخابات لإجراء الانتخابات في المثلث للتنفيس عن الغضب الشعبي الذي يعتمل كالمرجل في النفوس. الأصوات التي تتعالي من حين لآخر لتحويلها الى منطقة تكامل هي لسان العاجز الذي لا حول ولا قوة والذي يتعامل مع المشكلة بمنطق المثل الشعبي المال (تلتو أو كتلتو ) ولكن حتى هذا الانبطاح لم يجد استحسانا من الأشقاء ..فقد رفضوه وركلوه . لذلك أضم صوتي لصوت الدبلوماسي والأديب جمال محمد إبراهيم بإخراج الملف من حوش التراشق الإعلامي وسماء الاسافير الى أصحاب الاختصاص وخبراء القانون الدولى في وزارة الخارجية ..فقد ثبت إن كل هذه اسطوانات مشروخة لا تتحدث إلا الى نفسها ..ففي أضابير هذه الخارجية ترقد المذكرات والدفوعات القانونية التي سمحت للسودان وبموافقة المجتمع الدولي بإجراء كل انتخاباته في المثلث منذ الخمسينات وحتى ساعة الاحتلال ومنعت مصر من إجراء الاستفتاء على الوحدة مع سوريا. حدث هذا حينما كان يترأس الخارجية الهرم الفذ القامة محمد احمد محجوب الذي حفظ حق السودان كاملا غير منقوص بحنكته ودرايته وعلمه فقد كان حجة في القانون . فقدنا حلفا بتراثها ونخيلها وقباب مآذنها وآن الأوان أن نقف عينا يقظة وسدا منيعا لكل المؤامرات والمطامع التي تستهدف بتر أطرافه تمهيدا لابتلاعها. آن الأوان لتحرير سياسات السودان من العواطف والنزوات والمزايدات ليتم رسمها بما تمليه مصالح السودان العليا ونبدأ بسد النهضة الأثيوبي . اختتم حديثي هذا مستحضرا تلك المحاضرة التي ألقاها أب الدبلوماسية السودانية المحجوب أمام الجماهير التي احتشد بها مسرح البالون بالجيزة في أول زيارة له لمصر عقب ثورة أكتوبر فقد وقف بقامته المديدة وصوته الجهوري وكان رحمه الله محدثا مفوها ذرب اللسان وبدأ حديثه ببيت من قصيدة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد إذ يقول .. وظلم ذوي القربى اشد مضاضة **على النفس من وقع الحسام المهند . [email protected]