في العام 2056م كانت الأرضُ مغمورةً بالرماد والسماءُ في عريٍ ظامئةً لصلاةٍ ودمٍ وأدعية ! في العام 2056م كان التاريخ يسير بملابسه الداخلية صار أنيقاً بسترةٍ من دمنا ودموعنا ... من عرقنا وضلوعنا في الشرايين : عرق الأرض ... في الأوردة : ماء العين .. بين الأصابع : دمعة تطمح أن تصير وردة لتجمل وجه الجدار .. ( الصادق الرضي) الفرسُ البيضاءُ تميس في الحَر حَر والأجراس على حصى الينبوع يستفيق طفلُ الماء ويفتحُ الحراس أبواب ( سنار ) لكي يدخل موكبُ الغناء ويصعد النهرُ إلى السماء عبر براري جرحه الطويل . ( محمد عبد الحي ) يا حدودَ الكلام يا حدودَ الحجر ياحدودَ المياه القديمة في الدم جئتك بعد شهور من الكدح في منطقٍ من رمادٍ أفاجأ بي في أقاليمك المستحرات.. قلب السمندل ما زال في لغة النار يرجفُ مختبئاً ، معدن البرق في الريح لم ينطفئ بعد ، مازال صوتُ المطر ) محمد عبد الحي( أواه ! أيتها القوافل التي تحملنا للعالم أو تحمل العالم إلينا ثم تلتقي كلُ الدروب عند جذع النخلة الأولى أو تضيعُ في أفق الدم الأخير . [ محمد عبدالحي ] مدخل نظري : ( تعريف التناص ) (هذا المدخل يهدف لينضاف لحوار التناص في المقالات السابقة, من جهة, ويمهد لمقاربة خطاب الشاعرين, من جهة ثانة). التناص - Intertextuality - مصطلح صاغته الناقدة جوليا كريستيفا في عام (1966م) - ليعني حواراً دائماً وطويلاً ومشتبكاً بين النصوص (راجع كل المقالات السابقة في هذا الباب) . لم تكن تلك الصياغة ترفاً بل استجابة طبيعية لفكر نقدي جديد جعل يبزغ في سماء النصوص فيمدها بالضوء والماء والحيوية من جديد – بعد أن جففتها ونشفتها المناهج النقدية القديمة . وفي ذاك العام اللافح نفسه أشرقت فكرة (نص النص) في نفس الناقد الفرنسي ماكري . وهي تُعنى بالصراع (الداخلي) بين النص ووجهه الأيدلوجي إذ يحاول النص جاهداً قمع ذلك الوجه / النص عبر آليات عدة منها الفجوات ( Gaps) والصموت ( Silences). وقد تعزز هذا المفهوم لاحقاً بفكرة (المسكوت عنه the unsaid ) عن طريق الناقد الأمريكي فردريك جيمسون ومن خلال بروز أبوابٍ جديدة في اللغويات وعلوم النقد. ومثلما ظهر تحليل الخطابDiscourse Analysis)) أول الأمر ، في (1951م) ، عن طريق اللغوي العظيم (Z. Harris(1909-1992) وهو أستاذ تشومسكي كما سلفت الإشارة في المقالات السابقة (راجع تشومسكي والمفردات الجديدة والتناص), ثم خبا بعد ذلك ليتم بعثه من جديد في السبعينات ( سينكلر وكولتارد وويدسون, وبارت ، فوكو ودريدا ). و منذ مطلع التسعينات احتل المفهوم لنفسه موقعاً استراتيجياً في الفكر العربي الحديث عبر بعض المفكرين المجددين مثل محمد أركون ، على حرب ، الجابري ، عبد الله الغذامي ، نصر أبو زيد ، حيدر إبراهيم ، محمد أحمد محمود, ادوارد سعيد) - عاد مصطلح ( التناص ) أكثر حيوية وعمقاً وإشكالاً في خواتيم الثمانينات والتسعينات ومطلع الألفية الجديدة . ولم يقتصر أثره على النقد الأدبي والفني بل تجاوزهما إلى النقد السياسي والاجتماعي [ أنظر كتب الإنجليزي ، فيركلف وفان دايك ] في تحليلاتهما لبنية الخطاب السياسي والإعلامي في المجتمعات الديمقراطية ( الرأسمالية ) . وظهرت الحاجة لصياغة مصطلحات فرعية جديدة مثل التناص الضدي - contratextuality ويعني الأخير أن الخطابات المختلفة وغالباً المتعاصرة - تأخذ آليات وإستراتيجيات من بعضها البعض ثم تقوم بتوظيف هذه الاستراتيجيات لخدمة أغراضها الخاصة . فالخطابات تتصارع وتتنافس وتتحالف وتتحاور وتتناسل وتتشابك وتتناسق بشكل لانهائي. وهي قد تفعل ذلك بطريقة واعية و غير واعية. هذه صارت من الحقائق التى تكاد تكون مسلمات في علم الخطاب. لا يمكن - بالطبع - في هذه المساحة الضيقة -رسم صورة تفصيلية للمصطلح ولكن قد يكفي هذا لإضاءة وتكيِّيف - موضوع العلاقة وإشكالاتها بين شاعرين سودانيين يمثل كل منهما محطة مهمة ( عبد الحي - الرمز الأقوى في الستينات والصادق الرضي - الشاعر الإشكالي الجديد في التسعينات ). عبدالحي والصادق الرضي: يتحاوران ويتقاطعان *عبد الحي والصادق الرضي شاعران إشكاليان يتواشجان بمقدار ما يتقاطعان ويتواصلان عبر هذا التقاطع. *عبد الحي هو وليد أسئلة الستينات .. وهو أيضاً أحد منتجيها .. هو ثمرة (نار) الستينات .. بيد أنه وقودها المشتعل ... هو عاشق الوهج الستيني وهو أيضاً المتمرد عليه ... هو ( العودة إلى سنار), مثلما هو (الهروب من سنار ). . ومثل السمندل تماماً طار عبد الحي في البر والبحر والهواء ولم يحترق بالنار. هو توق أبدي لا يتنهي إلى نقطة تلتقي فيها الإشارة بالعبارة, وتندمجان وتصيران شيئاً واحداً.. ولكن .. هيهات ! * الصادق هو (المأزق) التسعيني الكبير هو ( الشجر الواقف في تماثيل الشجر) ... هو سؤال ينمو ويكبر داخل سؤال .. نص داخل النص.. عنوان داخل عنوان.. لغة بعد اللغة.. تشرق على وجه الأرصفة وتغرب في زمن الأرصفة.. هو وطنٌ آخر, وجعٌ آخر, ضفةٌ أخرى... أزقةٌ تحاور أزقة.. هو الهروب من المدينة.. الهروب من (العودة) ... وهو التوجه إلي المستقبل المجهول (قصائده ... صبوات, في العام 2056م ), دائماً يقف هناك حيث "التاريخ يسير بملابسه الداخلية".. الصادق هو عبد الحي.. اللغة المتفردة الدائرة في فلكها الخاص .. هو (القصيدة) تسائل نفسها وحيرتها ووكينونتها ولغتها والعالم... هو القصيدة في جرأتها ونسجها على منوالها الخاص ... هو عبد الحي في تماهيه مع مفرداته ورموزه وأدواته .. هو أيضاً عبد الحي في تمرده على لغته وفي أشكلته للقصيدة .[ مثلما تمرد عبد الحي على (العودة إلى سنار ) يتمرد الصادق على قصيدة ( غناء العزلة ) ] . *سلك عبد الحي طريق ( العودة ).. عاد إلى سنار لا لكي يعود, ولكن ليذهب بعيداً في طريق واعرٍ طويل ومزدوج.. بينما الصادق ( تقدم ) وركب نهراً ثملاً.. ليعود بخفي وطن.. رجع ود الرضي مليئاً بالفراغ [ هنا تناص مضاد إذ يستخدم كل منهم أدوات الآخر في صالح مشروعه. * كلاهما يؤمن بشيء ما خاص بهذا (الكائن السوداني) ... وكلاهما مشغول باكتشاف هذا الكنز عبر المعرفة الشعرية, وهي معرفة معقدة جداً كما تدلنا الدراسات النقدية المعمقة الحديثة). *عبد الحي يُشَعْرن (السامي) و ( العال), و"السبلايم" .. تلك الفكرة الإغريقية المتعلقة بالأفكار العظيمة والعالية ( Sublimme)..( الله.. اسمك في قلبي وحولي غابةٌ أخرى... ).. بينما يعشق الصادق تَشْعِير (التافه).. والصغير والمنعزل و"المجدوع" .. قد تجد في قصائده أدوات المنزل.. الشاي.. القهوة .. المطبخ ..السرير.. الدود..القرد.. الشباك.. الطرقات.. وهي تتحاور مع "الضوء الشفيف" ومواكب "الفضة" " وزفة "العناصر" الكبرى . هنا..( التاريخ يسير بملابسه الداخلية (.. في هذه العبارة اختصر الصادق مشروعه كله أو كاد.. إنه هنا يعرِّي التاريخ ليرى الراهن والحاضر من فوق.. ويضع المستقبل بين يديه كوردةٍ جميلة تبكي.. كانت دمعة. ومثلما كان عبد الحي مهجوساً بتشكيل ( العالم ), على طريقته, كان الصادق عاكفاً على صياغة (العالم) على شاكلتة أيضاً.. ليجعله "وفق ما نريد", أو كما يقول صاحب الأكتوبريات ود المكي: من بهائك تسكن فيك الورقة الورقة تسكن في العمق وتسقط في الظلمة يشرق فيها وطنٌ وتصوغ العالم . ( الصادق الرضي ). يجيد الشاعران التفجير الشعري لأنواع معينة من الحيوانات غير الأليفة أو غير المحبوبة حسب الذائقة السائدة [ الذئب ، الفأر ، الثعلب ، الدودة ، الصقر ، النمل ، الضفدعة ، الضبع ، الغراب, القرد ... الخ ] هنا ... تقنية استجمال القبيح وتوليف الوحشي وأحياناً استيحاش الأليف..( قصيدة حديقة الغراب لعبد الحي ): حين يأتي الغراب لمنازلنا في اليباب سنغنى له : يا غراب نحن جوعي للحمك فاصنع لنا خبزنا المستطاب منه، ثم اسقنا من دمائك خمراً لننسى العذاب وكشأن الحداثيين في كل زمان ومكان يسعى الشاعران إلى ضرب أعمدة الثبات والتماسك الخارجي الرخو, وذلك عن طريق تأسيس علاقات لغوية جديدة بين الإنسان والعالم والإنسان والحيوان و اللغة والعالم [ تحريك العلاقة الجامدة بين الدال ( signifier ) والمدلول ( signified ) وذلك لإعلاء قيمة الدال ومنحه مساحة أكبر للحركة. وعندما ترتفع قيمة الدال ترتقي بدورها عملية "التدليل" signification)), نفسها, وتنتقل من (العلامة و السيما), الى (اللا علامة واللا سيما), ومن صمت الشعر الى شعرية الصمت ( poetics of silence)! بصبر الدودة, تحكم الإصغاء للصور التي ترعب وتغني مثل ذئب جريح للأعالي للولائم المسمومة والنور الشحيح ( الصادق الرضي : أقاصي شاشة الإصغاء ) . يستخدم الصادق أيضاً تقنية ( تفصيح العامي ) - وهو ما يسميه الأخ الأكاديمي والناقد هاشم ميرغني "بهجرة ما هو دارجي إلى ما هو فصيح" - ونسميه (التناص اللهجوي ) - وهو استخدام كلمة من لغة أخرى أو لهجة أخرى [ رأيت المراكب و"الشفع" الأبرياء) في نصٍ من لغة أو لهجة مغايرة . *تمتليء نصوص عبد الحي بالرموز ( الدينية والتاريخية والأسطورية) ( الأنبياء في معلقة الإشارات ، الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، سنار ، السمندل ، نار موسى 0.. إلخ ) . * الصادق يأخذ ذاته وقميصه وقصيدته الشريدة ويدفع بهما في اتجاهات شتى( جنوب الأرصفة ، صوب الأحلام المخصصة ، ناحية الشارع المفتوح ، جهة الكائن الغريب الشريد الطريد ...إلخ ) . *عبد الحي يصنع فتاته/ وطنه من التاريخ الخالص والمستدير في الوقت ذاته ... أما الصادق فيصنع فتاته من دمه ( سوف أصنع لي فتاة من دمي ... أسميها نضال) .. يخبأ ثورات شعبه في دمه ويسمي الأشياء بأحلامها. *عبد الحي سجين الماضي / التاريخ في حين أن الصادق هو السجين المتمرد على الماضي والحاضر والذي يشتبك مع المستقبل في علاقة غامضة ومتوترة - حذرة ومتوثبة, في الوقت ذاته . *عبد الحي هو كاهن ( المكان ) المتبتل بذاته في رحلة طويلة لا تنتهي.. هو كاهن المدينة عندما تصبح رمزاً لروح شعبه الصافية وهويتها المتلبسة ... الصادق لا يعرف مكاناً معيناً ... هو يسكن بالأماكن كلها ... يقطن فضاء التشرد الفسيح.. يحيل "القمع" الى "دخانة برنجية" تسبح في الهواء الطلق بلا قيود.. ويحوِّل هذه "الرواكيب" المتعبة والأرصفة البائسة إلى قصور عزلة (منيفة) . عبد الحي .. جوع وسفر سرمدي..عبر طريق الإشارات والرموز والأقنعة والطيور التى على "حافة الغياب", و "الصقر الكوكبي", و"العجوز الشرس..الذي يركب عبر الفيافي حصانه المفترسا".. عبد الحي هو "الله في زمن العنف", والصادق هو "العنف في زمن الإله".. هو "الحزن يمشي على ساقين".. خاتمة كانت هذه محاولة لإضاءة العلاقة بين شاعرين يجسد كلاهما محطة وموقعاً استراتيجياً في خارطة الشعر السوداني الحديث وهما عبد الحي (ممثل الستينات ) والصادق الرضي ( ممثل التسعينات ) - من دون أن يلغي أي منهما مجايليه, ونسبة لأن العلاقة إشكالية بين شاعرين إشكاليين .. تظل المقارنة عاجزة والمقاربة مغامرة دائمة. وبينما من غير الصعب الآن الكتابة عن جيل الستينات, فالتسعينيون والألفينيون لا ينكتبون بسهولة لأنهم ما زالوا يتشكلون - والظواهر تحت التشكيل - تبقى دائماً مستعصية على الوصف والإضاءة الكافية. عبدالحي والصادق يتواشجان ويتقاطعان.. يتسامران ويتشاجران.. يتناصان ويتعذبان.. وطنان يدوران في فراغين كبيرين, وفراغان كبيران يدوران في وطنين.. هويتان تبحثان عن هوية.. وهوية تصارع هويتين.. هما طريق الهوية وهوية الطريق.. البحث عن هوية.. وهوية البحث عنها.. ولا غرو فالحكمة هي أن"ينتصر الفنان على العالم في اللحظة التي يخسر فيها العالم" (عبد الحي). [email protected]