ابتداءً، لا أودُّ تخوين منبر أنباء الجزيرة، ولا "حراك أبناء الجزيرة الموحد للتغيير والتنمية"، فكلاهما عندي في مصاف الاحترام، كأجسام مطلبية واحتجاجية. لكن مع ذلك فهناك عدة مآخذ يمكن أن تنتقص من الفكرة التي تقوم على مفاهيم مناطقية. شخصياً، ما كنتُ أتصور أن تصل "جرثومة" المناطقية والجهوية إلى ولاية الجزيرة، التي تحصنت في أزمنة باكرة من داء القبلية. وهو ما جعلها تنال لقب "قلب السودان النابض"، الذي يجسّد الهوية والقومية السودانية، في أنقى وأبهى صورها. ومن هذا المنطلق أجدني غير ميّال للتعاطي مع الكيانات التي تتناسل من منطلقات جهوية أو مناطقية. وهذا لا يعني أنني ضد انتزاع الحقوق كاملة، غير منقوصة لمواطني الجزيرة، بعد أن مارس هذا النظام تهميشاً لا يخلو من ترصد، وتربص بهذه الولاية التي تذكرنا بماضي السودان الزاهر، وتذكّر آخرين بماضٍ لا يودون سماعه. ومع أنني لا أتعاطى كثيراً مع الاحتكام إلى المناطقية والقبلية، إلا أنني مضطرٌّ إلى إيجاد العذر لكل من يسعى إلى تشكيل كيان على أساس جهوي، وذلك لأن الحكومة تتحمل المسؤولية كاملة في تنامي المد القبلي والمناطقي، بعد أن تسببت في ضعضعة الأحزاب، وبعد أن قامت بتسميم الحياة السياسية والحزبية، وبعد أن قام المؤتمر الوطني - عامداً - بتفكيك الأحزاب، وإفرغها من محتواها. وهذه أسباب كافية لأن يتجاسر الصوت الجهوي والقبلي. ثم إن التضييق على الأحزاب وإخراجها من دائرة الفعل السياسي، أفقد المواطنين فرصة العمل من منابر حزبية، وبالتالي اتجهوا للعمل من منصة كيانات جهوية. ومعلوم بداهةً، وغير منكورٍ بالضرورة أن الأحزاب بشكلها المعروف وتكوينها الديمقراطي التقليدي، هي بمثابة بوتقة تنصهر فيها المكونات الجهوية والقبلية المختلفة. حتى أصبح من الطبيعي أن تسع الحزب للشيء وضده المناطقي والقبلي. بل إن بعض المكونات السكانية التي تضيق ذرعاً ببعضها، لا تجد حرجاً في أن تتعايش وتمارس العمل السياسي من داخل حزب واحد. لكل هذه الأسباب مجتمعةً، ينبغي أن نجد العذر لمثل هذه التكوينات المناطقية، مع أنها عسيرة على الهضم، وغير "مبلوعة"، خصوصاً في منطقة لا يسيطر عليها مكون قبلي بعينه، وتتقاسم فيها كل القبائل المعاناة والرفاهية على حدٍّ سواء، ودون تمييز، مثل ولاية الجزيرة. شخصياً أدعو لأن يتم ضخ الدماء في التكوينات السياسية القائمة على أساس فكري، أو تأريخي أو حتى طائفي، بدلاً من الرهان على تنظيمات مناطقية، لأن الأحزاب أجدر بالإسهام في حل المشكلة من غيرها. لكن إذا تعذر وجود تنظيمات سياسية فاعلة – وهو ما يبدو حادث الآن – فإنه لا مناص من اللجوء إلى التكوينات والكيانات المناطقية والجهوية، برغم أنها بدعة أوجدها حزب المؤتمر الوطني، الذي استقوى بالمكون الجهوي في كثيرٍ من المرات. صحيفة (الصيحة)