إضاءة : " بعض الأفارقة والإختصاصيين في الشئون الإفريقية ربما سيخبو أملهم في كتابي . ففي حين أن لي تعاطفا علي قدر من الولع الأيديولوجي الجاري في القارة الجنوبية ، فإنه ليس مكاني أو مقصدي أن أروج دعاية لحركات قومية أو عنصرية . بالتالي ، فقد استهنت نسبيا " بأفاريقية " النوبيين . إن صالحهم ، فيما أعتقد ، ليست له أي علاقة بلون جلدتهم أو بالقارة التي يعيشون فيها ، إنهم بمحض وجودهم الخاص قوم رائعون يملكون تاريخا رائعا . ولئن كنت أتحسر علي الميل الباكر لعلماء الآثار المصرية أنهم لا يرون في النوبيين شيئا أكثر من مهربين من الدرجة الثانية ، فإنني علي صعيد واحد أنبذ الجهود لوضعهم جانبا ما بتصنيف تأريخي آخر ، " أفارقة " أو " سودا " . علي نقيض ذلك إنه لأملي المحبب أن قراء هذا الكتاب ربما يقاسمونني تقديري لهم ومن أجلهم ، ليس من أجل أي ضوء يمكن أن يعكسه آخرون عليهم ، أو يعكسونه هم علي آخرين . " ... - بروفسور وليم آدامز - من مقدمة كتابه : " النوبة رواق إفريقيا " ترجمة د . محجوب التجاني . إنه لمن دواعي غبطتي أن أقرأ بين الحين والآخر موضوعا يتناول شعب النوبة . وهكذا ، أيضا ، قرأت بمتعة ماجاء بالعدد الأسبوعي الجمعة الماضية 21 نوفمبر 2014 . مقالان ، الأول : " وصف بلاد النوبة في القرون الوسطي " برواية الرحالة أبو الحسن الوزان الزياتي كتبه أ.د. عبد الرحيم محمد خبير ، بين فيه موقع بلاد النوبة ودورهم التاريخي في وادي النيل بإعتبارهم " أهل حضارة عريقة " فأصبحوا " مصدر قوة وثراء مصر في عهد الفراعنة " ، وهذا مما يثبته التاريخ بقوة فلا " يتناطح عليه عنزان " علي قول كمال الجزولي . ثم شرع عبد الرحيم يورد روايات الوزان ويعلق عليها مبديا عليها ملاحظات وتحفظات ذكية وفيها إنتباهات صائبة . فمن المعلوم – وهذا مما توصل إليه عبد الرحيم أيضا – إن الوزان هذا لم يصنف يوما كمؤرخ يعول علي أرائه واستنتاجاته ، فهو مجرد رحالة يحل حيث شاءت مواكبه أن تحل ويصف ما رأته عيناه وسمعته أذناه عما غبر من أحداث وواقع تاريخية لاتزال في تواتر أخبارها روايات عديدة في الناس . وهو في كل ذلك المسعي ، الذي يحمد أيضا له ، لم يكن من أهل التدقيق والتمحيص فيما يسجله من روايات . ذلك كله مما جعله غير معتدا به فيما يختص بالشأن النوبي في زمانه ذاك ، وذاك ، أيضا ، مما يحمد لعبد الرحيم أن أبان هذا الجانب من رواياته . فذلك الدور بالغ القيمة للنوبة في التاريخ بات معروفا ومسلما به في الدراسات والبحوث التاريخية الحديثة . ويحضرني في هذا الخصوص أنني قد شاهدت مؤخرا برنامجا في قناة " العربية " بث علي ما يبدو وقت أن أشتد الحديث والجدل حول " هوية حلايب " ، سودانية هي أم مصرية ؟ كان ضيوف البرنامج بروفسور حسن الساعوري أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين ، والخبير في الشئون الإفريقية صلاح بندر ، وأستاذ الشئون الإفريقية والسودانية بجامعة القاهرة ( لقد نسيت أسمه لحسن حظي ) حيث قال : " تاريخيا لم يكن هنالك دولة تسمي السودان ، كان شتاتا ، ومصر هي التي أتاحت له أن يكون دولة حين أسندت أدارته لحاكم مصري " ! . لدهشتي لم يرد عليه أحدهما في هذه النقطة بالذات لا الساعوري ولا بندر ! وقد بات من المعلوم الآن إن العديد في علماء مصر شرعوا يؤكدون علي سيادة مصر علي الجغرافيا التي سميت في التاريخ بالنوبة العليا . يحدث هذا رغم أن القناة السويسرية الأولي الناطقة بالفرنسية ( TSR-06 ) قد بثت مؤخرا برنامجا عن الحضارة النوبية في السودان ، وعن ملوك النوبة الذين حكموا مصر لعدة قرون من الزمان . وقدمت تلك الحلقة التاريخية القيمة من خلال أشهر البرامج التلفزيونية علي الساحة الإعلامية برنامج ( Temps Present ) وقال مقدم البرنامج ( Eric Bumad ) أن الحقيقة التي تجهلها الشعوب وربما شعب وادي النيل نفسه ، هو أن ملوك النوبة في شمال السودان حكموا المصريين لعدة قرون . وأن الحضارة النوبية هي أول حضارة قامت علي وجه الأرض ، وأعرق حضارة شهدها التاريخ هي في مدينة " كرمة " حاضرة النيل وعاصمة أول مملكة في العالم كما أكد عالم الآثار السويسري المعروف " شارلي بونيه "1. والجدير بالذكر هنا أنني شخصيا قد عملت خلال 1980/1981 ضابطا أداريا مسئولا عن مجلس حلايب الذي يضم محمد قول وجبيت المعادن التي وجدت بها بقايا آليات تنقيب كانت تتبع لشركة مصرية مرخص لها من السلطات السودانية للتنقيب عن المعادن ، لكن للسياسة أحيانا منطقها الذي يجافي ويناقض التاريخ الماثل عيانا في الملأ ، فيتقولون هنا عندنا في السودان وهناك في مصر إن حلايب سودانية – لكأنها ساحة سؤال – عندنا ، وعندهم – بيقينهم – مصرية ! فيما بين الوزان وبروفسور عبد الرحيم و بورخات : وافقنا بروفسور عبد الرحيم في تقويمه للوزان حين ذكر : " من الجلي إن ما ذكره ابن الوزان يجافي الحقيقة ، فنهر النيل يصلح للملاحة في تلك المنطقة أغلب المواسم ولكن الجنادل ( الشلالات ) هي التي تقطع الطرق الملاحية "2. قال عبد الرحيم بذلك ردا علي زعم أبن الوزان أنه لايمكن الذهاب بواسطة الملاحة إلي بلاد النوبة من مصر بسبب أن مياه النيل تنتشر في سهل ضئيل العمق حتي ليعبر الناس والحيوانات هذا النهر خوضا علي الأقدام ، وهذا بالطبع يجافي الحقيقة كما إنتبه إليها وأبانها عبد الرحيم ، وهو ما أعده ، ضمن مسوغات آخري ، قدحا في " صدقية " وموضوعية أبن الوزان في حال التعامل معه كمؤرخ لا كرحالة يسوح في البلاد يسجل مايري ومايسمع وما يظن ! لقد قدر آدامز عدد النوبيون في القرن السادس عشر ب " مئة ألف نسمة " 3 في المنطقة من أسوان إلي الحدود الجنوبية للمحس ، في إمتداد لقطر طوله حوالي خمسمائة ميل ومتوسط عرضه نصف ميل ، ذلك في القرن السادس عشر وهي الفترة نفسها التي تحدث عنها أبن الوزان وأضاء جوانبها عبد الرحيم . لكن ، الجدير بالملاحظة هنا ، أن أبن الوزان قد نشر كتابه " وصف إفريقيا " عام 1520م ، بينما نشر المكتشف المرموق ج.ل.بورخارت وثيقة مهمة عام 1813م ويعتبرها آدامز " هذه الوثيقة المدركة ثاقبة وعليمة بمستوي مرموق ، وتحتوي أول وصف تفصيلي للنوبة والنوبيين منذ زمن أبن سليم " ، ويستطرد ليعتبرها : " فإن وثيقة بورخارت هي الوصف الوحيد الذي يسبق التقلبات الجذرية بإعتباراتها الإجتماعية والثقافيةالتي هوت بها جيوش محمد علي علي البلاد . إنها لذلك تمنحنا لمحة متفردة للحياة في النوبة أثناء الأعوام الأخيرة للعصر الإقطاعي " 4 . لقد أسهب بورخارت في وثيقته كثيرا جدا في وصف النوبة وحياتهم ومعاشهم وسكناهم ، عاداتهم وتقاليدهم بتفصيل وتركيز وحرص للحد الذي جعل آثاريا ومؤرخا ضخما مثل وليام آدامز يطمئن إلي رواياته وينقل عنه صفحات كاملة في " الرواق " ( أنظر صفحة 509 وما تلاها من " الرواق " ) . وهنا يتوجب أن نسأل : تري لماذا "تجاهل " هذان العالمان الجليلان ، علي علو ورسوخ مقامهما في الشأن النوبي ، روايات ومقولات أبن الوزان وقد كانت زمنيا وكتابيا متاحة أمامهما ؟ بل وقال آدمز أن وثيقة بورخارت أول تنقيب كتابي شامل في الشأن النوبي ، ولا تقل لي يا بروفسور عبد الرحيم إن ذلك تم بسبب من إسلام أبن الوزان ، فإسلامه ليس مما أعتد به علي أية حال ! سؤال الهجرات : " مفارقا أرض أبائي ، ولنسمها عاشق روائح للدار عبقا من حدائق غادرتها والدمع ملء العين دافق . هجرت قلبي وما عندي واحدا غيره . ما بإرادتي أنا تخليت عنه ، قضاء القدر ... فما أتعسه مصيري وداعا ! " ... هذا ما كتبه شاعر نوبي مجهول ، زين بهذه المناحة جدار منزله قبل أن يمتثل - مرغما - للهجرة القسرية إلي حلفا الجديدة في الهجرة النوبية الكبري العام 1964م . برغم مضي نصف القرن علي تلك الهجرة لا يزال الوجدان النوبي في تفجعه ومناحاته تزدحم بها الأغاني والأناشيد ، وفي الشعر والقصة والرواية وحتي في التاريخ حين يكتبه النوبيون أو المتعاطفون مع قضاياهم تري فيه الدموع الآسيانه والحسرات تؤمض بمواجع لا تزال غضة وصرخات أرواح تئن في صراخها وتضج كالأجراس في الحياة . يقول بروفسور عبد الرحيم في بحثه الذي أشرنا إليه وهو يعلق علي مزاعم أبن الوزان : " وتأسيسا علي ما سبق ، من الواضح أن رواية أبن الوزان عن ملامح الحياة العامة في بلاد النوبة إتسمت بالإقتضاب وإفتقرت إلي الشمول والدقة في الوصف مما يرجح الإحتمال إنها كانت سماعية ، سيما وأنه تحدث عن " مملكة نوبية " ذات إستقلالية مطلقة في فواتيح القرن السادس عشر ( 1517م ) ليس لدينا دليل علي وجودها في هذه الفترة حيث كانت بلاد النوبة الشمالية ( مصر ) وقتذاك تحت نفوذ الأتراك العثمانيين ، في حين أن الجزء الجنوبي منها ( السودان ) كان تابعا لدولة الفونج الإسلامية . " . ما جاء في هذا المجتزأ من بحث عبد الرحيم هو ملاحظته الهامة حول روايات الوزان هوالذي نوافقه عليه تماما كما ذكرنا في سياق سابق ، لكننا ، في ذات الوقت ، نلتمسه ليضئ إلينا أيضا ما أورده في الفقرة الآخيرة من نفس هذا المجتزأ حول " تبعية " الجزء الجنوبي ، الذي هو السودان ، لدولة الفونج الإسلامية ، وتلك التبعية تشمل ، فيما تشمل ، مناطق النوبة أيضا ، فكيف تمت تلك التبعية للنوبة وهم في ما عليه من تدين مسيحي جراء سطوة المسيحية عليهم في وقت سابق وجعلهم فيها ، كلهم أو جلهم ؟ فمن المعلوم إن هجرات الشعوب تتم ، غالبا ، بآليات قسرية قاسية ونادرا ما تجري برضاء الشعوب ! وقد كانت الهجرة النوبية الكبري " تهجيرا بالإكراه" ، برغمهم وغصبا عنهم ، تري كيف آلت تبعية النوبة ، إذن ، لدولة الفونج الإسلامية ، برضاء النوبيون أم هي بالإكراه والقسر ؟ هذا ما نود من بروفسور عبد الرحيم أن يجلوه لنا . فقد علمنا أن الفتوحات الإسلامية كلها ، منذ بدء أمرها وإلي يوم الناس هذا ، كانت ، ولا تزال ، تتم بآليات القهر والغزو والإجتياح . نقول بذلك ونزجي ، في ذات الوقت ، عظيم شكرنا وتقديرنا لبرفسور عبد الرحيم علي بحثه الهام وإنتبهاته الذكية . وأما عن " المقال " الآخر الذي جاء أيضا في نفس الصفحة من العدد الأسبوعي الجمعة الماضية فهو الذي كتبه الأستاذ سعيد دمباوي بعنوان " هجرة الميدوب والنوبة من الشمال إلي الغرب وعلاقتهم بالنوبيين " وفي أطار ذلك دعا دمباوي إلي إعادة كتابة تاريخ السودان بإعتبارها واجب وطني قومي ، ولكن كيف ؟ ذلك ما سوف نراه في كتابتنا القادمة ونحن نتأمل في ذلك " التمازج " القبلي الذي تم في ما بين النوبيين وغيرهم من القبائل السودانية ، ذلك الذي رأه دمباوي وجها حسنا في شأن تعددية شعوب السودان وشهد عليه بما رأه عند الميدوب والنوبة ، ثم دعانا ، إستنادا عليه لنكون في ذات النهج ! ----------------------------------------------------------------------------------------- هوامش : 1 : المادة الكتابية للبرنامج أمدني مشكورا الشاعر محمد طه القدال . 2 : الصحافة العدد الأسبوعي 21 نوفمبر2014 ، " وصف بلاد النوبة في القرون الوسطي " – أ.د. عبد الرحيم محمد خبير. 3 : " النوبة رواق إفريقيا " – وليم آدامز ص 512 . 4 : نفس المصدر السابق ص 509 . [email protected]