تحفل الحياة السودانية ومنذ القدم بالكثير من الأساطير والطقوس التي تصور لنا حياة الإنسان وعلاقته بالعالم والأشياء من حوله، ومن خلال هذه الميثولوجيا نتعرف على مسارات الحياة المختلفة وكيف عاش الناس وكيف أحبوا بعضهم أو تباغضوا، كيف أكلوا وشربوا، ناموا واستيقظوا. هذه السيرة غير المنقطعة والتي ليس لها حدود ولا منتهيات. الحياة السودانية، زاخرة وغنية جدا بالتفاصيل المثيرة والتقاليد والقيم الاجتماعية سواء صلحت اليوم أم لا. بيد أنها مهمة جدا على كافة مستويات تنوير الذهن وفتح آفاق التفكير الأفضل في المستقبل، لأن جوهر النهضة في كثير من أمم العالم قام على فهم الراسخ من القيم بحيث عمل الناس على تطويره ومن ثم مواءمته مع حركة التحديث العالمية. فالنهضة الحقيقية لأي مجتمع هي مساحة تحرك بين الأمس واليوم، ما كان وما يفترض أن يكون، حتى لا يصبح الحاضر ضحية للماضي والمستقبل كما حدث في رواية "بندر شاه" للطيب صالح، عندما يصبح الأب ضحية لأبيه وابنه، وعندما يكون الزمن قائما على هذا المثلث المكون من الجد والأب والحفيد، وهي الرمزية التي تعبر ببساطة عن حراك التاريخ وصراع الأجيال. في مقابل فكرة "البندر، الشاه" والتي تعبر بالتوازي عن المدنية والسلطة، بما يعني مناقشة إشكالية الذهاب إلى الحياة الجديدة والمدنية والتحضر وفي الوقت نفسه كيف يتعايش ذلك مع تعاقب الأجيال. في هذا الحراك فإن المسائل التي يكون الصراع حولها والجدل قائما ومستمرا بلا هوادة، تبرز الطقوس والتقاليد ما بين رغبة السكون والركون للأمس والديناميكية التي تميز الحفيد أو المستقبل، وقد يرغب أن يكون الجد في صورة حفيد مماثل له، لكن الانتصار سيكون لقاعدة الزمن وللمتغيرات ضد الثوابت، هذا شأن التاريخ الإنساني حتى لو مضى بطيئا أو توقف في بعض اللحظات وتجمد عن الحركة، فهو في خلاصته يسعى نحو الأمام لا يتوقف أبدا. إن الطقوس ليست مجرد عادات اجتماعية بحتة في محيط العلاقات الإنسانية، كفكر المحبة والكراهية والزواج والعزاء وغيرها. إنما تتعدى ذلك للمسائل العميقة المرتبطة بفكر المجتمع الاقتصادي والإنتاجي، وهو البعد الثاني والمهم في مسائل التحديث، فعلى سبيل المثال فإن الإنتاج الزراعي في السودان وعلى مدى التاريخ كانت له تقاليد تتطور وتتغير مع الزمن مع الاحتفاط ببعض من الثوابت، وهذا الشيء يستدعي التأمل حقا. فالشادوف والساقية على سبيل المثال استخدما في زراعة الشعير والقمح منذ العهود المروية القديمة، والقطن تمت زراعته ليس في عهد الأتراك أو الدولة الإنجليزية وإنما منذ العهد المروي وكانت تلك الحضارة القديمة قد عرفت بصناعة المنسوجات، ويرجح بعض الباحثين أن تصدير المنسوجات كان أحد مصادر الثروة في تلك الفترة للممالك المروية. كذلك كانت الممالك المروية قد عرفت الذهب حيث كانت تلك الحرفة استراتيجية، كما عرف الناس وقتذاك صهر الحديد. وإذا كان ذلك المجتمع التليد قد استخرج الذهب وصدره للعالم بما في ذلك الأحجار الكريمة، فإن هذه الصناعة عادت من جديد. وبطقوس حياة أخرى، لكن هل استفدنا من تأمل الأمس. هل أحسسنا ذات اليوم بالعمق الذي يجب تأمله. للأسف هذا لا يحدث. والمعني التأكيد على أن نهضة الأمم تتم بهذه المراجعات، فليس الإنتاج التعديني مثلا في الذهب مجرد آلات ضخمة وشركات عابرة للحدود بل هو إحياء حقيقي للمجتمع الإنساني وتوظيف القدرات البشرية والشبابية بوجه خاص، هذا مهم وأساسي. لكن هناك جانب مهم آخر هو المتعلق بالتاريخ والإرث الحضاري، أن نؤكد على أن هذه القيمة الحديثة ذات عمق ودلالة مستمرة بما يجذر الإنسان بعمق ماضيه ويجعله يشعر بالفخر والزهو، ما يعطيه الدافع نحو صناعة الحياة الأفضل، فهذه الدافعية والرمزيات مطلوبة ولابد منها. ومثلما كنت قد اقترحت متحفا للطيب صالح، فهذه المرة وليس من قبيل الترف اقترح أن يعاد إنتاج هذه الطقوس في حياة متحفية تعرف بها الأجيال، لأن هذه المتاحف هي ذاكرة أمة وبها نربي الجيل الجديد على قيم كثيرة ونفتح آفاق الاذهان نحو رؤية الاختلاف ما بين الأمس واليوم من جهة، ومن جهة ثانية أين يوجد الاتفاق. أين يعيش المرئي وأين يكمن المستتر. ولي أن أمضي في التخيل بأن يرافق ذلك ما دام الكلام حول المعرفة إنشاء الكليات التخصصية، هل لدينا كلية متخصصة في التعدين بحيث تخدم المجتمع المحلي، تنشيء في مدينة كأبي حمد أو العبيدية، على سبيل المثال. من المخجل جدا أن نرى حراكا كالحفريات الفرنسية التي تمت في منطقة الضانقيل شمال مدينة بربر ومنذ سنوات. وللعجب أن مصادر المعلومات عن هذه الاكتشافات وبالصور والدقائق المثيرة موجود في مواقع أجنبية في حين أن فضاءنا المعرفي بور وليس لدينا مثل هذا التوثيق والتعريف. وما أحوج التعليم اليوم إلى أن يتربط بالمجتمعات المحلية، بحيث يكون للمدارس في كل بيئة أن تعرف التلاميذ ومنذ الصغر بالطقوس المحلية بعد أن تخضع لمساءلات حديثة ويتم إدغامها في الوعي الجديد. على سبيل المثال ولا أظن أن ذلك حدث، أن يؤخذ طلبة المدرسة في مكان كالضانقيل إلى تلك الآثار ليتعرفوا على حياة العهود القديمة. لا يحدث ذلك لأن التعليم بات نمطيا وتجاريا بحتا مع تمدد سطوة المدارس الخاصة، ومع تغييب جيل رائد وحقيقي ينهض بالعملية التعليمية بشكل عام. ولهذا علينا أن نتذكر أن الأسئلة كثيرة والحياة تتقدم وعلينا أن نعرف كيف نبدأ من حيث توقفنا. إن المواهب الكثيرة التي يزخر بها المجتمع من شباب في مختلف الهوايات والأفكار، وللأسف تصل في النهاية إلى الموات بعد أن يدب اليأس، ليس لطبيعة الحياة الاقتصادية والمعاش الطاحن فحسب، بل لأن علاقتنا مع طقوس حياتنا لم تستمد قوتها من المؤثر والقوي في الأمس، بل من اضطراب ذهني نعاني منه، يكون له أن يحولنا إلى كائنات مشوهة بدلا من أن يصنع منا أمة لها عظمة قوة وفاعلية في تاريخ الوجود. لقد كان ممكنا ولستُ يائسا أبدا. لدي أمل كبير في الجيل الجديد وفي الحياة المنفتحة والأفق الرحب. انظر إلى آبائنا المرويين فأتعلم منهم الكثير جدا. ليتنا عندنا إليهم لنقرأهم بروية وبإعجاب وبفخر لنتعلم من سيرتهم. لنفكر كيف كانوا بهذا البهاء. وحتى لو أن الصورة خضعت لبعض من التجميل ولم تكن هي الحقيقة، فالأساس أن المتخيلات الرائعة تصنع منا أمما رائعة. لن نحاسب الصواب والخطأ في معتركات ماض بعيد. نريد على الاقل أن نقول هذا شيء رائع ويمكن أن نستفيد منه. أما ما يجعلنا أمة مشرذمة فلنركله جانبا. [email protected]