الخلق هو هيئة في النفس راسخة و عنها تصدر الأفعال بسهولة و يسر من غير حاجة الي فكر و روية... فان كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا و شرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا... و ان كان الصادر عنهاالأفعال القبيحة سميت الهيئة التي تصدر عنها خلقا سيئا... (الامام الغزالي). في الحلقة الثانية من هذه السلسلة بعنوان فصل الأخلاق عن الدين و السياسة كنا قد تحدثنا عن منهج المقاربة العقلية بين الدين كاستعداد فلسفي و الدين كتسليم روحي و الدين كموروث ثقافي تاريخي و ذلك من أجل اعادة تعريف و عقلنة الاخلاق و من ثم النهوض بها في مجتمعنا السوداني. غير أن غرس قيم أخلاقية مطلقة متفق حولها و مجمع عليها بين جميع الديانات و الأعراف الانسانية مثل قيم الصدق و النقاء و الحب و عدم الأنانية لا يحتاج الي كثير شرح و تأويل. فقط يبرز التحدي في جعل عملية غرس هذه القيم الأخلاقية مشروعا عمليا قابلا للتطبيق يساهم في عملية تغيير الفرد و تمكينه من النمو و الارتقاء ليصبح بذلك عنصرا فاعلا و محفزا للتغيير في مجتمعه و بيئته المحيطة. كل تلك القيم الأخلاقية المطلقة الأربعة هي بالضرورة قيم قابلة للقياس و التقوييم لأن درجة الصدق مثلا مع الذات و مع الاخرين يمكن أن تكون قيمة صفرية كما يمكن لها أن تكون قيمة كاملة مئة في المئة مثلها مثل الأخريات. هنالك ثلاثة خطوات عملية يستطيع كل فرد منا القيام بها لتساعده في عملية التغيير و الترقي الأخلاقي في رحلته الخاصة مع الحياة اليومية. تبدأ الخطوة الأولي بالخلوة اليومية مع الذات و من ثم الاستماع لها و مراقبة مجريات الأحداث و السياقات اليومية من حولنا و من ثم كتابة و تدوين الملاحظات و الخواطر. تتمثل الخطوة العملية الثانية لمشوار التغيير و الترقي الأخلاقي في اجراء عملية تحليل للمسافة و الفجوة بين الوضع الحالي لكل منا و الوضع المرجو للقيمة الأخلاقية المحددة كالصدق و الحب و النقاء و عدم الأنانية. هذه الفجوة أو المسافة تحتوي علي نقاط واجبة للتغيير و يتعين علينا ادراكها و كل ما كانت ارادتنا و عزيمتنا قوية لتغيير و اتمام و اصلاح هذه النواقص في شخصياتنا كلما ذاد شعورنا بالنشوة و الانتصار و الانجاز أكثر فأكثر. تلك الرحلة و الغوص في الأعماق ليس المقصود بها الوصول الي مرحلة و درجة الكمال بالضرورة و ان كان مثل هذا المقصد مشروعا حسب تقديري الشخصي و لكنها تتعلق بأفضل ما يمكننا أن نفعله كبشر حيال تلك النواقص الأخلاقية في شخصياتنا. بعد ذلك يتعين علينا التأمل في كل ما سبق و كتابة الأفكار و الخواطر و الخطط العملية المقترحة لانجاز التغيير و الترقي الأخلاقي المطلوب لذواتنا. فكما يقول سقراط: ان حياة غير قابلة للاختبار لا تستحق أن نعيشها. في هذه النقطة فقط تبدأ ذواتنا في التكشف لنا شيئا فشيئا و نبدأ في معرفة أنفسنا لأول مرة و معرفة نقاط قوتنا و نقاط ضعفنا و الأشياء التي ينبغي علينا القيام بها لاتمام عملية التغيير و من ثم تبدأ رحلتنا الحقيقية في التعلم من الحياة. أما الخطوة الثالثة في طريق التغيير و الارتقاء الأخلاقي فتشمل الأشياء التي يتوجب علينا القيام بها مثل تصحيح و تصويب الامور و ردها الي نصابها و الاعتزار و طلب المغفرة من الاخرين فكل هذه الأشياء تساهم في بناء رصيدنا من التجارب و الخبرات. كما لا يفوتني أيضا التأكيد علي أهمية الطقوس الروحية مثل الصلوات و الدعاء و الابتهال و التأمل و اليوقا و الدعم الأسري و غيرها في توفير مصادر للقوة و التشجيع من أجل انجاز التغيير علي مستوي الفرد. اذا كل ما يلزمنا كأفراد هو الاستماع الي أنفسنا بصدق و كتابة الأفكار و الخواطر و العمل عليها. من خلال العملية السابقة فاننا سوف نتمكن من رياضة و ترويض أنفسنا و تدريب اراداتنا و ايقاظ صوت الضمير في دواخلنا و تطوير مخيلاتنا و معرفة أكبر بأنفسنا و ذواتنا. كما تجدر بي الاشارة هنا الي أن غالبية الأفكار و السياقات العامة السابقة في هذه الحلقة الثانية من سلسلة المقالات عن الأخلاق قد تم ترجمتها الي العربية و تجميعها بواسطة شخصي الضعيف بعد اذن من مصدرها و من ثم قمت باعادة صياغتها في شكل قالب يكاد يكون مقبول للجميع سهل الفهم و التطبيق و بذلك يمكن اعتبارها و بكل تواضع أول نص عربي من نوعه في هذا المجال. كان ذلك فيما يتعلق باصلاح الفرد العادي و تغييره و الارتقاء به أخلاقيا. أما علي مستوي النخبة المثقفة ان صح لها و لنا الادعاء فاننا لا زلنا في أمس الحاجة الي اثارة حوار عقلي و فلسفي و ديني و اجتماعي و سياسي عميق حول الأخلاق و ثوابتها و ضرورة التوصل الي اتفاق حد أدني حولها و تحييدها في التنافس و الصراعات السياسية و الاجتماعية و عدم تشويهها بالشعارات و المذايدات الدينية و المغالطات الفقهية و المشاريع العلمية و جعلها مبحثا قائما بذاته مستقلا بنفسه عن غيره و نقطة لالتقاء الفرقاء في وطن واحد يسع الجميع. [email protected]