بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    إسبوعان بمدينتي عطبرة وبربر (3)..ليلة بقرية (كنور) ونادي الجلاء    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد حسين الثانوية .....تداعي ذكريات
نشر في الراكوبة يوم 29 - 07 - 2015

رحلوا قبل تفتق الأزهار في ألق الصباح !! رحلوا وفارقوا (الخربانة ام بنايةً قش) كهولاً, لكن ما زلت أذكرهم وهم في ميعة الصبا بمدرسة محمد حسين الثانوية , فارقتهم بعدها ولا أدري ما فعلته يد الزمان بأجسادهم وأرواحهم, فهم ما يزالون بمخيلتي أولئك الشباب الجميل الطامح, إنهم كامل وداعة الله ومحمد هاشم الدعيتة:
حياتنا صنع من مدوا رفاهتنا ومعشرٌ منهم الأفراح تُرتفدُ
وأعينٌ من وفي الود ترمقنا بها السعادة لا روحٌ ولا جسدُ
وطول عمرك في الخلان تحمدهم على وداعك لا أن يبعد الأمدُ
وما أصابك من خِلٍّ تفارقه فإنه جانبٌ في العمر يُفتقدُ
وهاأنذا أفقد كل مرة جانباً من عمري, حين يأتيني نبأ وفاة حبيبٍ او قريب . وتداعت الذكريات عن أيامي بمدرسة محمد حسين الثانوية العليا, ذلك الصرح الشامخ الذي وهبه محمد حسين "ذلك المحسن حياه الغمام" لحكومة السودان.
بالرداء الكاكي والقميص الأبيض ذي الأكمام القصيرة, سرت باكراً وراجلاً, أحث الخطى من منزلنا بودنوباوي لأول يوم دراسي بالمدرسة التي قُبلت بها, كان لزاماً علي أن أشق مقابر البكري, على اليسار يرقد تأريخ السودان المسجى, قبر الزعيم اسماعيل الأزهري, ضحية السجال المرّ بين الديمقراطية والدكتاتورية. ما زلت أذكر مسيرةً ضخمة ورجالاً غضاباً يحملون نعشه, وهم يهتفون, لا أذكر كلمات هتافهم , كانت الطائرات تحوم فوق رؤوسهم, وبعض الدبابات على مقربة تحيط بالمكان . هذا موطنٌ لا يثبت فيه إلا أصحاب المبادئ, هؤلاء الرجال هم الأبناء الحقيقيون لحزب الزعيم الذي يحملونه, لا أولئك الذين يلهثون خلف الأنظمة الشمولية, استجداءاً للدراهم والمناصب, ثم يدّعون أنهم ديمقراطيون, وأنهم أبناء هذا الحزب.
واصلت سيري , ولاحت مدرسة محمد حسين , دخلت الى فناء المدرسة, كان الوقت باكراً, لم يأت الكثيرون , كان هناك فتى وسيم في كامل أناقته أتى مثلي باكراً, تعارفنا , هو حسن الشيخ من أبناء حي العرب , ولاحقاً ضابطاً بقوات الشرطة مع زملائنا صلاح عبد الله وعمر وهب الله. وهو مثلي تم الحاقه بفصل باستير.
بدأت الدراسة وانتظمنا في فصل باستير, جلست قرب صديقي أيوب محمد بدر, الذي زاملته كذلك بالمرحلة المتوسطة , كان من عشاق الفنان محمد الأمين, وأذكر أنه إبان الحجر على اغاني الفنان المبدع , وادخاله سجن كوبر عقب حركة 19 يوليو , انني دعوت صديقي ايوب للذهاب الى منزلنا والاستماع الى اغاني الفنان محمد الامين , جلسنا وأدرنا جهاز التسجيل , ذهبت لأحضار ما نشربه , وحينما عدت وجدته يذرف الدمع وهو يستمع الى أغنية "بتتعلم من الأيام" . وتساءلت هل يُعقل ان تحجر دولة على أغنيات المبدعين!! هل يُعقل أن تمنع الدولة العصافير من التغريد, أو أن تمنع الحمامة أن تغني أو تبكي على فرع غصنها المياد!! إنها محنة وطن!
تضم المدرسة نخبة من أميز المعلمين في كل المجالات, على رأسهم الرجل التربوي الفاضل مدير المدرسة حامد الجعيلي, لا زلت أذكر موقفه المشرف من ابن عمي نايل محمد نايل الذي كان طالباً بمدرسة وادي سيدنا الثانوية, استولت القوات المسلحة على المدرسة وحولتها الى ثكنة عسكرية, وتم توزيع طلابها على المدارس الحكومية, وكان نصيب ابن عمي مدرسة مدني الثانوية, لم يكن يرغب في البقاء بمدني فقد أعتقل والده في أعقاب حركة 19 يوليو 1971, وأراد ان يكون قريباً من الأسرة, اتى لمدرستنا, وقابل الجعيلي شارحاً له الظروف التي يمر بها, وانه يرغب في الانضمام الى المدرسة, لم يتوان الجعيلي وألحقه فوراً بالمدرسة حتى قبل أن تأتي أوراقه من مدرسة ود مدني الثانوية. هذا موقف رجل تربوي فاضل, نحّى البروقراطية جانباً, وعمل بما يمليه عليه ضميره. وعلى الجانب الآخر موقف اولئك الذين يدفنون ذاكرة الأمكنة في طي النسيان, استولوا على مدرسة وادي سيدنا , هدموا وحطموا المدرسة الأهلية الأسطى بامدرمان , مدرسة الخرطوم غرب, سوق الخرطوم, حديقة الحيوانات, وما يزال معول الهدم والتخريب يصول في ذاكرة الوطن, إنهم لا يأبهون!!
كانت المدرسة تعج بمختلف الأنشطة, نشاط رياضي في مختلف فنون الرياضة , والقدح المعلى كان لكرة القدم , وفريق المدرسة يضم ثلة من اللاعبين الموهوبين, كمال الصبي, ابراهيم , اسماعيل خضر, وحراس المرمى سيف ومحمد صادق الأكرم حارس مرمى فريق الزهرة, وجمعية الموسيقى بقيادة المنصوري قائد اوركسترا الأذاعة يشرف ويدرب محبي الموسيقى من الطلاب , ومعهم الفنان عز الدين عبد الماجد صاحب الصوت العذب. وهناك جمعية المسرح بقيادة الأستاذ عمر مودي, الذي أخرج مسرحية "مسافر ليل" للشاعر صلاح عبد الصبور , شاركت فيها بدور "الراوي" ومعي الزملاء يحي عثمان وعبد المنعم الجزولي. ووضع موسيقى المسرحية المايسترو المنصوري, نالت المسرحية استحسان واعجاب الجميع, وبعد العرض اتى الأستاذ الجعيلي خلف خشبة المسرح مهنئاً, وتوالت الدعوات لعرضها بالمدارس الثانوية الأخرى, وعرضناها على ما أذكر بمدرسة المهدية الثانوية.
لم يقتصر نشاطنا الأدبي على مدرستنا , فقد شارك طلاب محمد حسين في تأسيس "جمعية النهضة الأدبية" الجامعة لكل طالبات وطلاب مدارس امدرمان الثانوية, وكانت تحت إشراف الأستاذ مبارك حسن خليفة, اقيمت اول ندوة شعرية بمعهد المعلمين العالي, شارك فيها من مدرستنا محمد نجيب محمد علي وشخصي. كانت قصيدة محمد نجيب عن المناضلة الأمريكية انجيلا ديفيس يقول:
انجيلا
يا نفحة عطرٍ شقت في وجه الأرض حقولا
وامتدت تزرع وجه الليل جباها وبطولة
صوتك صوتي
وجهك وجهي
تاريخك ابداً ما كان قتيلا
وشاركت بقصيدةٍ مطلعها:
يا ويحها جاءت تجر الذيل تيهاً واختيالا
والسوسن المسكوب لحناً قد شدا طرباً ومالا
وما زلت أذكر المطلع الجميل لقصيدة الأخت سمية معتصم الأقرع:
بسأل عليك كل النجوم الفي السما
يدق الجرس فننتظم بفصلنا "باستير" وحينما انتقلنا الى السنة الثانية كنا أيضاً بفصل باستير , فقد اتى سلم تعليمي جديد , عدنا الى السنة الأولى مرة أخرى.كنا سعيدين وراضين بحياتنا المدرسية , الأباء لا يدفعون مليماً أحمراً, وزملاؤنا بالداخليات ينعمون يومياً بثلاث وجباتٍ كاملة الدسم, لم يعكر صفونا آنذاك إلا خبرٌ , اهتزت له امدرمان بأسرها, بكى الرجال, وابرزت الخدور مخبآتٍ يضعن النقس أمكنة الغوالي, فامدرمان على قلب رجلٍ واحد . ستة من طلاب الثانويات العليا ابتلعتهم مياه النيل الأزرق بودراوة. بينما كانوا في رحلة ترفيهية, خمسة من مدرسة الأهلية الثانوية , والسادس هو زميلنا بفصل باستير المغفور له عادل زروق. كان يملأ فصلنا مرحاً وحبوراً بقفشاته وتعليقاته الساخرة والذكية , كان فقداً جللاً, ترك فراغاً لم يستطع احدٌ ملأه, وهذه مشيئة الله.
ضمت المدرسة نخبة من اساطين اللغة العربية والأدب الانجليزي , عبد الله الشيخ البشير, جعفر سعد, محمد سعد دياب, محي الدين فارس وابراهيم اسحاق.
كان المعلمون آنذاك عنواناً للأناقة والمظهر الحسن. لا يكدرهم شظف عيشٍ أو بؤس حال, محترمين ومبجلين. مرتباتهم تكفيهم , وتكفي من يعولونهم.
وهاهنا استاذنا شيخ أدباء السودان, يصور لنا دور المعلم, ولا أدري بماذا كانت ستجود قريحته الشعرية, إذا رأى حال المعلم السوداني في هذا الزمن الأغبر.:
تخذ الحقيقة في الحياة مراما حباً لها وسعى بها مقداما
حمل الأمانة وهي عبءٌ فادحٌ وهفا لها وبنى لها وأقاما
واندس في دنيا التواضع كلما لاحته بارقة الظهور تعامى
يغدو بمثلوج الفؤاد لأنه منح الحياة أشعةً وسلاما
هذي الصروح الشامخات تشامخت مما يعانيه وكن حطاما
أعطى عطاء القادرين منوراً بين الصدور المجد والأحلاما
ويطل علينا أستاذ الأدب الانجليزي, محمد سعد دياب, أعده من شعراء الطبقة الأولى في السودان, واعتقد أنه لم يلق التقدير الذي يستحقه!! هو شاعر رقيق الديباجة, ناعم العبارة, تنساب أشعاره كالأمسيات مضمخة بالدفلى والفل والياسمين. حينما نمل من الدرس نسأله إلحافاً أن يسمعنا شيئاً من شعره, وهو يسعد بذلك, وينطلق صوته:
وكنت أحدث عنك الدوالي
وكنت أحدث عنك النهارا
أحدثها عن عيونٍ تتوه
بهن الأماسي..وتمشي سكارى
وشعر ترامى على الكتف يهفو
لوعد المساء يضيق انتظارا
وكنت اباهي بعينيك زهواً
اطاول كل الوجود افتخارا
كتبت لهن مقاطع شعرٍ
كضوء الصباح تشف اخضرارا
وكان هوانا حديث الرواة
سقيناه نبضاً وعشناه دارا
يهش المساء إذا نحن جئنا
وتهفو الدروب تطل انبهارا
ويسألني عنك عشب الطريق
لكم أوحشته خطاك مرارا
ومن اساتذتنا كان محي الدين فارس , من شعراء الواقعية الاشتراكية, ولعل قصيدته "لا لن أحيد" التي تغنى بها حسن خليفة العطبراوي, تعبر عن المزاج العام آنذاك, وتبدي تضامناً مع حركات التحرر الوطني التي انتظمت القارة الأفريقية, وقد كانت التيارات الاشتراكية تمثل رأس الرمح في معاداة الاستعمار وقيادة حركات التحرر الوطني .:
لا لن أحيد
عن الكفاح لا لن أحيد
وهناك أسراب الضحايا الكادحون
العائدون مع الظلام من المصانع والحقول
الى أن يقول:
والمترفون الهانئون يقهقهون ويضحكون
يمزقون الليل في الحانات في دنيا الفتون
والجاز ملتهبٌ يهز حياله نهدٌ وجيد
موائدٌ خضراء تطفح بالنبيذ وبالورود
سيلٌ من الشهوات يجتاح المحافل والسدود
هل يسمعون صخب الرعود
صخب الملايين الحفاة يشق أسماع الوجود
في اللاشعور حياتهم فكأنهم صم الصخور
ويتحول المشهد الواقعي في بلادٍ أخرى, إلى مشهدٍ رومانسي, في وطنٍ لا يزال يحبو, لم يختبر أهوال الاقطاع, ولم تنشب الرأسمالية أظفارها في ترابه, وقد لا يتسق المشهد الذي يصوره الشاعر مع مجتمعاتنا, لكنها تظل صورة رومانسية , يمكن القول ان التضامن الانساني هو محورها, لكنها قد تصبح مدمرة, إذا حاولنا انزالها وتجريدها وتصنيفها كأحد همومنا. إن العسف والجور الذي يصوره استاذنا محي الدين فارس قد انداح الى بلادنا وبلاد الآخرين لنصبح كلنا تحت رحى الامبريالية والاستعمار .
اما استاذنا الكاتب الأديب ابراهيم اسحق, استاذ اللغة الانجليزية بالمدرسة, وصاحب كتاب "حدثٌ في قرية" فقد ظل لفترة طويلة طي النسيان, حتى اكتشفه بعض الكتاب العرب في محافلهم , وأدركوا أن هناك كاتباً سودانياً عبقرياً آخر بجانب الطيب صالح. والطيب صالح نفسه لم نكتشفه, حتى نبه إليه أحد الكتاب المصريين. إنه بؤس الإعلام السوداني , وبؤس الإعلاميين السودانيين, إنه بؤس النقد والنقّادين, الذين تربوا في حضن الأنظمة الشمولية, إنهم لا يقرأون ,وإذا قرأوا لا يفهمون, لذا لا عجب, إذا لم يفرّقوا بين الجواهر الزائفة والجواهر الجياد!!.
كانت السيدة الانجليزية العجوز, التي تعمل بمنظمة الأمم المتحدة بالنمسا, تحدثني باعجاب عن عالمٍ سوداني, اسمه حامد درار, لم اكن أعلم عنه شيئاً, هم يعرفونه ويقدرونه كمستشار ذي مستوى رفيع للمنظمة . تقول لي انها تعجب لشخصٍ سوداني من أبٍ وأمٍ سودانيين, وتربى في السودان , أن تكون لغته الأم هي اللغة الانجليزية!! كناية عن معرفته المتفردة بلغتها. بعد بضع سنوات وأثناء وجودنا بالسودان, وصلنا كتاب من البروف حامد درار, مهدى الى تلك السيدة الانجليزية, الكتاب باللغة الانجليزية وعنوانه ( التعويذة أو الحجاب كما نقول بالعامية) عن صبي بدوي التحق بالمدرسة. حينما عدنا كانت السيدة الانجليزية قد غادرت النمسا, ولم نتمكن من معرفة مكانها, وما زال الكتاب بحوزتنا, قرأته اكثر من مرة, الكتاب سيرة ذاتية ورواية في آنٍ واحد, من أجمل وأروع ما قرأت في حياتي, إنها رحلة الانسان من الماضي الى المستقبل, وتخيلوا كم من السنوات , تفصل بين مرحلة الرعي البدائي, ومرحلة التقدم الصناعي والتكنولوجي, إنه العبور العظيم الذي لم يسرده علينا الطيب صالح في روايته موسم الهجرة الى الشمال, رأينا مصطفى سعيد وقد ألقى رحاله بأرض المستقبل, مشدوداً ومقيداً بالعلاقات المعقدة بها , لكننا لا ندري كيف وصل اليها. كتاب البروف حامد درار, هو رواية وسيرة ذاتية يجب أن يقرأها ويحتفي بها وبصاحبها كل السودانيين, إنها ليست السيرة الذاتية للكاتب فحسب , بل هي السيرة الذاتية لكل السودانيين الذين عبروا من الماضي الى المستقبل, ولو كان الأمر بيدي , لطبعت منها آلاف النسخ ووهبتها لمكتبات مدارسنا وجامعاتنا (هذا إذا كانت هناك مكتبات). نحن في السودان نمثل الماضي , والدول المتقدمة بمدنها ودساتيرها وحياتها, هي المستقبل الذي نطمح أن نصل إليه, نجحنا كأفرادٍ في الالتحاق بذلك المستقبل البهي , ولكننا فشلنا كأمة!!!.
في عام 1973 ونحن بالسنة الأخيرة, أعتقلت ومعي زميلاي فيصل حمد والصادق, بتهمة كتابة شعارات معادية, تدعو إلى إطلاق سراح المعتقلين, والقوا بنا في زنزانات أقسام الشرطة بأمدرمان, وكان نصيبي القسم الجنوبي. وبلغ الخبر المدرسة في صبيحة اليوم التالي, فهاج الطلاب , واوقفوا الدراسة , معلنين الاعتصام حتى يتم إطلاق سراحنا. قاد الاعتصام اسماعيل روما, بحنكة ومهارة القادة الكبار , وتفادى الفتنة بين الطلاب والتي كادت أن تجهض الاعتصام. كان الوضع السياسي آنذاك هادئاً, فرأت السلطات ان تلجأ للتفاوض مع الطلاب, فبعثت وزير التربية والتعليم , وأظنه كان محمد توم التجاني, وتكللت المفاوضات باطلاق سراحنا.
لم ينته الأمر عند هذا الحد, فبعد الجلوس لامتحان الشهادة السودانية , تفرقنا استعداداً لمرحلة جديدة في حياتنا, تم استدعائي من قبل جهاز الأمن القومي, وشكلت لي ولزميليْ محكمة عسكرية , تحت الأمر الجمهوري الثاني والثالث, واطلعوني على تشكيل المحكمة وأسماء الضباط المشاركين, لم يعثروا على زميليْ, ولا أدري أين كانا, في اليوم المحدد للمحكمة, ذهبت للقيادة العامة , برفقة بعض المحامين الذين انتدبهم الوالد للدفاع عني, أو بالاحرى ليكونوا أصدقاء المتهم , ففي المحكمة العسكرية, لا يترافع المحامون. دخلنا القيادة العامة , وذهبنا الى مقر المحكمة, انتظرنا طويلاً ولم يحضر أحد , عدنا أدراجنا, ولم يسألني أحدٌ بعد ذلك. وإلى اليوم لا أدري سبب غياب ضباط المحكمة العسكرية , ربما أنهم قد استحوا من أن يأتوا لمحاكمة طالب لم يبلغ العشرين من عمره .
الحق يقال إنني طيلة فترة إعتقالي (عشرة أيام) لم أتعرض لضربٍ أو تعذيبٍ أو شتم .وأعرف الكثيرين ممن أُعتقلوا من مختلف التيارات السياسية, لم يحدثني أحدٌ منهم أنه تعرض لتعذيبٍ أو شتم. لأننا كشعب نحترم عزة وكرامة الآخرين وهذه هي ثقافتنا التي عزّزها إسلامٌ يحث على فضيلتيْ التسامح والتواضع, لكن غاب عن البعض منا أن الأفكار التي استوردوها وآمنوا بها , تحمل في داخلها ثقافة آخرين, إنها ثقافة الاستعلاء والتمكين!!
إن السُنة التي استنتها حكومة الانقاذ في التعذيب والتنكيل بالمعتقلين في بيوت الأشباح, هو ثقافة آخرين.إنه تقمص ثقافاتٍ ولدت تحت ملكٍ عضوضٍ وتاريخٍ دامي.
إن جلد المعارضين , وخطف واغتصاب وجلد النساء, هو أمرٌ عجزت عن معرفة من أي الثقافات أستقوه. إن إسلاميي السودان في ذلك , هم نسيج وحدهم. إنها براءة إختراعٍ تسجل لهم, فاقوا بها كل الآخرين , إنها أفعال تخجل منها أشد الدول دكتاتوريةً وتخلفاً ,جهلاً.
وثالثة الأثافي هم هؤلاء الذين ينضوون تحت الحزب الهلامي , المسمى بالمؤتمر الوطني, من المنافقين والمنافقات, والمرتزقين والمرتزقات, ربما أنهم لا يؤمنون بأفكار الاسلاميين , لكنهم بلا شك يؤمنون بالدنانير والدراهم.
أسفت غاية الأسف أن أرى الشاعرة روضة الحاج وهي تنضوي تحت راية المؤتمر الوطني,
إنها تبيع نون النسوة في سوق الدواعش!! ماذا ستقول حينما ترى بنات جنسها, يُغتصبن ويُخطفن ويُجلدن!! إن الإبداع مسئولية , ومسئولية المبدعة أن تدافع عن حقوق المرأة, لا أن تكون حرباً عليها. ولا أن تكون في مركبٍ واحد مع أولئك الذين ينتهكون حقوقها.
هذه بعض أراء وذكريات عن أيامي بمدرسة محمد حسين الثانوية العليا, ذكرت فيها الكثيرين, اسأل الرحمة لمن قضى نحبه, واتمنى طول العمر لمن ينتظر .
مأمون الرشيد نايل
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.