ما هو الفرق بين محمود محمد طه وعبد الخالق محجوب؟ في وثيقة دعائية كتبها عبد الخالق ردا على هجمات الجبهة الإسلامية عليه بوصفه عدوا للدين – كانت إحدى شعارات الإسلاميين الأكثر طرافة/قسوة في تلك الأيام: عبد الخالق عدو الخالق- قام عبد الخالق بمحاولة الدفاع عن نفسه بمنطق مضاد، فببساطة أمكن لعبد الخالق أن يدعي أنه يمثل امتدادا –غير متوقع ربما- للأخلاق والقيم الإسلامية، التقليدية. كان يذهب في دفاعه من مثال لآخر متسائلا: هل تتعارض العدالة الاجتماعية مع قيم الإسلام؟ هل تبني قضية الفقراء يتعارض مع الإسلام في شيء؟ وهكذا؛ ربما كان من الصعب أن يقتل عبد الخالق بدعاوى دينية كما قتل محمود محمد طه، ذلك أن عبد الخالق كان أساسا خارج نطاق الصراع الديني عمليا، ويمكن الجدل بأن التكتيك الذي استعمله هو التكتيك الوحيد الممكن للخروج من دائرة الصراع الديني(سني/شيعي مثلا كما يحدث حاليا) مع الحفاظ على رابطة قوية لا يمكن التشكيك فيها مع القيم الدينية، ما يحاول هذا التوجه العلماني غير المعادي للدين تحديدا قوله هو: ما هي المنطلقات الحقيقية للصراع في منطقتنا التي تحاول هذه التصنيفات الطائفية للناس – و الدينية عموما- إخفاءها؟ ومن هنا ستكون محاولة التقدم نحو الجذرية أو اليوتوبيا، إن منطلقات الصراع الطائفية هي منطلقات صراع واقعية تاريخية، هي الواقع في أكثر أشكاله بؤسا و حضورا، لكنها رغم ذلك منطلقات صراع غير حقيقية، ولذلك فهي بلا حل، لن ينتهي الصراع بين السنة والشيعة، بين المؤمنين و الأقل إيمانا، إلخ. لكن الصراع بين القوى المهيمنة على الشعب/الفقراء/المظلومون و بين الشعب (كفكرة عابرة للطوائف و القوميات) يمكن أن ينتهي و بشكل كامل، وإذا كان للأديان أي معنى فهو في دعم هذا الاتجاه غير الطائفي الجذري. عبد الخالق إذن، وبعكس التوجه العام لليسار الحالي، هو زعيم تاريخي لقوة مجتمعية معادية للتخلف ومؤيدة للتقدم، وليس زعيما معاديا للدين. لكن رغم ذلك فإن الاسم الذي أعيد توطينه في البيئة الثقافية السودانية، وأعيد رد الاعتبار له هو محمود محمد طه، على الرغم من أن الأخير كان الأكثر عداءا للتدين السوداني بشكل عام. و بقي عبد الخالق محجوب أسير أناشيد بقايا الشيوعيين الذين تحولوا بمرور الوقت إما لكبار سن عاجزين أو لشباب بتوجهات ليبرالية وعلمانية عامة لا علاقة لها تقريبا بالرجل. بالتأكيد لا يمكن إغفال الدور الثقافي لعبد الله علي إبراهيم في تحويل الرجل لرمز أو الحفاظ على ما تبقى من رمزيته، لكن هذا لا يغير حقيقة هامشيته في الفضاء الثقافي السياسي الحالي متى ما قورن بالأستاذ. من طرائف الشيوعيين السودانيين هو أنني خلال السبع سنوات التي قضيتها في جامعة الخرطوم، لم أسمع أحدهم يلفظ و لو لمرة واحدة اسم كارل ماركس على الملأ، لا في أركان النقاش ولا في منشوراتهم، وفي المقابل فإن الرجل كان ضيفا دائما على أركان أنصار السنة و الإسلاميين. هذا غير أن التنظيم الطلابي للحزب أخذ اسما مختلفا، ودائما يتم تعريف الطلاب المنتمين على أنهم يمثلون تحالفا لقوى ديمقراطية، وليس يسارية أو اشتراكية على الأقل، هذه الحالة الدائمة من البارانويا والتقيا السياسية الثقافية هي الأساس في الآلة الإعلامية للحزب، ما بقي ربما هو أن يتم تغيير اسم الحزب نفسه لأنه، وبعكس ما يفترض للواجهة – أية واجهة، بات يمثل إحراجا لا تستطيع لا كوادر الحزب ولا قيادته تحمله ولا التعامل معه. هذه الحالة الغريبة العصية على التفسير يتم تفسيرها، ولو ضمنيا، بأنها انسحاب تكتيكي في وقت انتصرت فيه الأيديولوجيا الإسلامية في المجتمع، انسحاب بدأ لحظة وفاة عبد الخالق محجوب وتكسر دعائم الحزب بعدها في السبعينات. لكن هل هذا صحيح؟ في محاضرة لديفيد هارفي، وهو أستاذ تخطيط حضري شهير و أحد أهم المنظرين اليساريين حاليا، في مدرسة لندن للاقتصاد، عن التناقضات الرأسمالية التي بدأت تطل علينا –أو بالأحرى عليهم في أوروبا و أمريكا- مجددا، ذكر قصة طريفة عن بدايته كأستاذ للتخطيط الحضري في أمريكا، كان الرجل قد أنهى دراسته في كامبردج و حصل على درجة الدكتوراة في الجغرافيا، وذهب لأمريكا لمدينة بالتمور –أي شخص شاهد المسلسل الظاهرة The Wire سيشعر بالكوميديا السوداء للقصة بشكل مضاعف- حيث كانت أزمة الإسكان تبدو بلا حل، ليعمل كخبير في فريق حكومي مسؤول عن تناول هذه المشكلة، تقول القصة بأنه وفي خلال بحثه عن الأسماء التي تناولت مشكلة الإسكان تاريخيا وجد اسم فريدريك إنجلز، وبعد قراءة تحليل إنجلز لمشكلة الإسكان بوصفها جزءا من مشكلة توزيع القوة السياسية بين طبقات المجتمع، قام بكتابة ورقة مقترحات و قدمها في أول اجتماع بدون الإشارة لإنجلز، وكانت النتائج إيجابية جدا، بدا الرجل بطبيعة الحال و كأنه يفكر خارج الصندوق، وكرر هذه الفعلة مع الورقة القادمة، و لكن هذه المرة أخبر المسؤول عن مصدر المعلومة، رد فعل المسؤول كانت متوقعا: هل إنجلز هذا أحد الأساتذة هنا في أمريكا؟ و من ثم اضطر الرجل لاستعمال اسم كارل ماركس، وبعدها لم تسر الأمور بنفس الإيجابية. عموما لسنا بحاجة لقصص ديفيد هارفي لنكتشف أن نفس الشيطنة الشاملة لماركس تسري حتى في الدول الأشد كفرا بالديانة الإسلامية و الأكثر عداءا للإسلاميين. بالعودة لمحمود محمد طه، الرجل عاد بصورة غريبة ليكون الرمز الأكثر أهمية في مخيلة النخبة المثقفة السودانية، طبعا بشكل سطحي متوقع. هذه النخبة شديدة التحرر فكريا، ربما تأثرا بفضاء ثقافي عالمي يدعي كسر الحدود و القيود الفكرية على الأقل، حتى أن أحد أكثر الموضوعات الثقافية رواجا هو النقاش حول وجود الله – سبحانه و تعالى، وربما يشير رواج أسماء مثل مصطفى محمود وعبد الوهاب المسيري كملحدين سابقين إلى حقيقة أن هذه المسألة تمثل محورا مهما في البيئة الثقافية العربية عموما. و بالتالي فإن إعادة توطين محمود محمد طه تبدوا مفهومة، فهو يمثل رأس سنام محاولات المثقفين السودانيين للتحرر من هيمنة الإسلاميين (كجماعة سياسية تستعمل الدين كأحد أسلحتها) على العقول. هذه الملاحظات عموما تشير إلى أن الاختفاء الكامل لليسار السوداني، متمثلا في اختفاء عبد الخالق محجوب وكل الأفكار التي كان يدعو لها، لا يمكن تفسيره بانتصار الأيديولوجيا الإسلامية. لكن ربما يمكن تفسيره باختفاء القوة الإمبريالية لليسار العالمي، و دخول العالم الثالث تحت وطأة شكل جديد من الهيمنة الثقافية التي يمثل رأس الرمح فيها نخبة البلدان المتعلمة أنفسهم، هكذا يصبح مفهوما أن يمثل عبد الخالق محجوب - و لينين و ماركس- مشكلة ليس بالنسبة للإسلاميين وقطاعاتهم الأكثر محافظة، بل بالنسبة للمجموعات الثقافية الأكثر تحررا و "تقدمية". إن المشكلة ليست في كفر هذه الرموز أو إيمانها، المشكلة تكمن في التبعات النظرية والعملية لحقيقة وجودهم التاريخية، والهروب منهم هو هروب من التفكير الاجتماعي العملي ومن الفرص التي يعتبر مجرد تخيلها عبئا. هذه ليست دعوة للعودة للدغمائية الشيوعية المعروفة تاريخيا – رغم أنه يبدو من المستحيل إبطال الرغبة المسبقة لفهم أي كتابة من هذا النوع بهذا الشكل. ليست دعوة لاجترار المصطلحات التقليدية لليسار كالطبقة العاملة و البرجوازية و خلافه، فقد أثبتت الأيام أن هذه أنجح وسيلة للعمل ضد الشعوب أو للتوقف عن العمل تماما. هذه دعوة للخروج من الثقافة التلقائية، الثقافة التي تفرض نفسها كشيء خارج الأيديولوجيا رغم أنها الأيديولوجيا في أكثر صورها مباشرة، ما يجعل عبد الخالق محجوب، والتيار السياسي المادي الجذري الذي مثله، وكل الأفق الممكن للعدالة الاجتماعية والدخول للحداثة من بوابة منح القوة السياسية للكادحين، ما يجعل كل ذلك هامشيا ليس الحقائق الموضوعية ولا القراءات المحايدة إنما الأيديولوجيا، والتي تحاول إظهار نفسها – كأي أيديولوجيا- على أنها جزء من الحقائق التي لا خلاف عليها. هذه الثقافة التلقائية التي نجد أنفسنا حبيسين لوجودها الاعتباطي غير المؤسس على أي قواعد فكرية، لا تملك القدرة على مواجهة نقاط معينة في التاريخ فتفضل تجاهلها، إن العودة لهذه النقاط المخيفة، وإعادة الاعتبار لها، لا يمثل بالضرورة اعترافا بالصواب المطلق لهذه الرموز، إنما هو تحدي ضروري للتلقائية والسخافة. لذلك في أي قراءة لعبد الخالق محجوب يجب إخراج مشهد وفاته من الإطار الشعري الملحمي المعهود، وإدخاله في الإطار التراجيدي/الكوميدي الذي يمثله حقيقة. لقد عاش الرجل كزعيم سياسي لحوالي ربع قرن، قام خلالها بالعمل بشكل جاد نظريا وعمليا وتمكن من صنع تأثير مميز بين الفئات السودانية الأكثر ضعفا، وبالتالي فقد قاد الرجل المستنيرين السودانيين لأول مرة ليكونوا خارج منطقتهم المحببة كممتعضين سلبيين أو مجرد متشائمين، وللمرة الأولى والأخيرة في تاريخ السودان كان التفكير في دولة عربية أفريقية صناعية وحديثة ممكنا، ناهيك عن الفرص العملية لحل المشكلات العرقية كجزء من الواقع المادي علميا بدل تحولها لمسارح للعبث و سفك الدماء بلا حساب، في ظل تلك الحركة كان ممكنا للمثقف أو العالم السوداني أن يفكر في هذه الحلول وأن يعمل ككادر وطني حقيقي لا كمجرد حزبي متعصب، عبد الله علي إبراهيم والجنوبي جوزيف قرنق يمثلون تحقق بعض المشروع التنويري السياسي لعبد الخالق محجوب. لكن أحداث تأييد اليسار السوداني تحت قيادة عبد الخالق لحكم جمال عبد الناصر و لحكم نيكروما في غانا، والطريقة التي تعامل بها مع آلية صناعة الكوادر الحزبية والقيادات تشير لأنه حتى في حالة إفلات الحزب من أزمته مع نميري فإن الطرق لم تكن سالكة. قبل وفاته بدقائق وهو متجها نحو منصة الإعدام يقال إن عبد الخالق قد صرخ: "يعيش نضال الشعب السوداني، عاش نضال الحزب الشيوعي السوداني" أعتقد أن الإقرار بأن هذه الصرخة الأخيرة للرجل هي تمثُّل كئيب للحدود التي لم يستطع الرجل تجاوزها هو التذكر الأكثر صدقا للرجل، فالحزب الذي تركه كان جزءا من يسار عالمي يحتضر أكثر منه حزبا للسودانيين، وملابسات وفاة الرجل لم تكن تتويجا لنضال الشعب السوداني بل كانت في الواقع نهاية تاريخية حزينة، وفي بعض تفاصيلها كوميدية، لانتصار نهج مجموعات مشاغبة – ممن يطلق عليهم عبد الله علي إبراهيم البرجوازية الصغيرة- لم يحسن عبد الخالق التعامل معها طوال سنين قيادته للحزب مثلما لم يحسن السودانيون عموما –منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا- التعامل مع قدرتها التخريبية منقطعة النظير لا ثقافيا ولا عمليا. في فشله النهائي تركنا عبد الخالق لنحاول تلمس الإمكانية بدون أي تحقق تاريخي (مقارنة بنيلسون مانديلا مثلا)، لكن هذه الإمكانية الجذرية وحدها تكفي. # تم نشر المقال في المجلة الإلكترونية (GealGaded.com) +++++ [email protected]