عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحاً ... الهدوء خيم على المكان ... شق صمت الليل صرخة أم تنبيء عن ألم لا يقاوم ... نباح الكلاب صار مزعجاً .. والرضية فاجأها ألم المخاض ... وقع أقدام بالخارج تهرول مسرعةً .. صرير الأبواب المغلقة يتخلل جدار الصمت .. صراخ طفل هده البكاء بدأ ينحسر رويدا رويداً... والرضية ما زالت تشكو آلام المخاض. " قوم ياولد أمشي كلم خالتك حاجة النعمة قول ليها أمي قالت ليك الرضية بتي دايرة تلد .. ومن دربك ده يا أبو الصديق أركب حمارك وامشي كلم السارة أختك قول ليها بنيتنا الرضية جاها وجع الولادة .. وعرج في طريقك على الداية وخليها تجيء بسراع ... العازة بفوق الحيطة تنادي على حاجة الحرم وحاجة الحرم قامت تنده على بنات أم المجد قالوا: الرضية بت فاطمة وجعها حار... وفي لحظة إنتشر الخبر وعم جميع أهل القرية." نهيق حمار لديغ يأتي من بعيد .. وعوي ذئب جائع أفزع شياه الحاج عثمان في المزرعة المجاورة ... شفق الصباح لاح على الأفق .. وصوت الأذان تردده المآذن أشاع الطمأنينة في النفوس المؤمنة.. صياح الديوك أيقظ الصغار فدبت الحياة في البيوت.. بائع اللبن على ظهر حماره ينادي على الجيران: هاتوا الماعون.. استيقظ الصغار وتجمعوا حول أمهم بالقرب من الموقد في إنتظار شاي الصباح. اشتدت آلام المخاض وارتفع صوت الرضية بالصراخ مستغيثة " يالله لي يالله لي" ... استقبلت حاجة فاطمة القبلة وابتهلت متضرعة سائلة الله سرعة الخلاص.. الماء الموضوع في إناء صقيل بدأ في الغليان ... ولم تزل آلام المخاض آخذة في الازدياد.. انحبست الأنفاس في الحجرة الصغيرة المكتظة بالنساء .. جلست حاجة النعمة عند رأس الرضية... وفي طرف العنقريب عند الوسط قعدت أم حداقة ، واتخذت حاجة السرة مكانها في نهاية العنقريب وأخذت تضغط على قدمي الرضية برفق .. استمرت آلام المخاض بين الشدة والانخفاض. الحمد لله حاجة بطرانة وصلت .. تنفست أم الرضية وجميع العيون التي كانت ترقبها الصعداء. اكتظت شنطة حاجة بطرانة بالأمواس والمشارط والمقصات .. تململت الرضية وأطلقت صرخة عالية .. شرعت الداية في تعقيم أدواتها ، ولم تزل حاجة السرة تضغط على قدمي الرضية . في الحوش المتكظ بالنساء تجمعت الفتيات حول سعاد التي لاهم لها غير الضحك والتنكيت حتى في اللحظات الحرجة .. ضحك الفتيات ضايق أم الرضية وصرخت فيهن حاجة النعمة بغضب شديد يا بنات "شنو قلة الحياء دي" ... إنتو في شنو ونحنا في شنو" .. لم تأبه الفتيات لصراخها وواصلن الضحك والتنكيت .. واستمرت سعاد تحكي وتحكي والفتيات يضحكن ويضحكن.. تطاير الشرر من عيون حاجة النعمة وتلون وجوه النساء العجائز بالغضب والاستياء. في الديوان المجاور إجتمع الرجال .. تسمع همهمات حاج عوض الكريم بالذكر .. وشيخ الصافي أخذ يسبح بمسبحته الطويلة .. والجنيد "كييف" الصعوت "كردم" سفته وقام بشمها قبل وضعها تحت لسانه .. وقفشات العوض المحبوب ملأت النفوس بهجة وسرورا وقصرت من لحظات الترقب والانتظار ... بح صوت الرضية من الصراخ ... وآلام الطلق أخذت في الإزدياد .. انحبست الأنفاس حتى في مجلس الرجال ... وابتهل الجميع إلى الله بالدعاء... بدد صمت الجميع صرخة الحياة معلنة لحظة الميلاد السعيد التي أشاعت الفرح في النفوس المتعطشة..وانطلقت حناجر النساء بالزغاريد معبرةً عن فرحها للبطن البكرية. أجهش الزين أبو المولود بالبكاء من شدة الفرح .. وأسرع أبو الصديق جد المولود وجاء حالاً بالخروف .. لم يمض وقت طويل ورائحة الشواء تعطر أجواء المكان وتزكم الأنوف،وتلقى الزين التهاني بقدوم إبنه البكر الذي أطلق عليه إسم "منجي" تيمناً بقدومه الذي بدد مخاوفه وتشاؤمه من آلام المخاض التي تسببت في وفاة أمه قبل عشرة سنين. إسحاق بله الأمين الرياض - المملكة العربية السعودية [email protected]