ألا يا صبا نجد متى هجت من نجدِ لقد زادني مسراك وجداً على وجد رعى الله من نجد أناساً أحبهم فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودي إذا هتفت ورقاء في رونق الضحى على غصن بان أو غصون من الرند "عبد الله بن الدمينة" غادرنا الطائف بعد منتصف النهار بقليل، بعد أن ودّعنا الإخوة الكرام بمثل ما استقبلونا به من حفاوة ومودة. ثم بدأت جبال الحجاز تختفي خلفنا، مفسحة المجال لأرض منبسطة تتخلها بعض الجبال الصغيرة يمنة ويسرة، وتكثر فيها الشجيرات الصغيرة والنباتات الصحراوية المتناثرة، في منطقة صحراوية كانت ذات يوم مرتعاً للمها العربي ذلك المخلوق الجميل الذي يتميز ببياض اللون وجمال العيون حتى تغنى به الشعراء العرب وشبهوا به الحسان كما في قول أحدهم: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري في تلك اللحظات بدأت تتقافز إلى الذاكرة صور تاريخية مشرقة من ماضي الأمة العربية العريق؛ فتذكرت محمد بن القاسم الثقفي وهو يومئذ طفل لم يكمل الرضاع بعد، تغادر قافلته الطائف، مودعاً مسقط رأسه، متوجهاً نحو واسط بالعراق، في معية أسرته؛ ليصبح فيما بعد أحد أبطال الإسلام الأفذاذ؛ فقد قاد الجيش الإسلامي الذي فتح بلاد السند والبنجاب ونشر العقيدة السمحاء في تلك البقاع التي استعصت على كثير من القادة العظماء قبله، وهو وقتئذ دون العشرين من العمر حتى قال عنه شاعره حمزة الحنفى: إن المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسم بن محمدِ ساسَ الجيوش لسبعَ عشرَ حجةً يا قُرْبَ ذلك سؤدداً من مولدِ وخيّل إليْ حينها، أن تلك القافلة الميمونة قد سلكت نفس الطريق الذي يمر بوهاد نجد وهضابها المشرئبات دوماً نحو العلا. على كل حال، أخذت بأطراف الحديث مع رفيقة الدرب "أم عمر" وسالت على عنق القلوص الأباطح، وظهرت لنا قمة إلى اليمين من الطريق فأيقنت أننا قد اجتزنا الحجاز واقتربنا من نجد فقديماً قالت العرب: "من رأى حضناً فقد أنجد"، ومقصد المقولة هو: أن من كان قادماً من الحجاز ومتجهاً للشرق ورأى "جبل حضن" فقد دخل في نجد. ويعد "جبل حضن" أعلى نقطة في عالية نجد كلها، وهو يقع شمال وادي تربة في أرض منبسطة وذلك مما يجعله بارزاً واضحاً، يُرى من مسافات بعيدة؛ فبإمكان المشاهد أن يراه من وسط إقليم نجد ومن جبال الطائف .هذه المنطقة هي ديار قبيلة عتيبة وهي من أعظم قبائل العرب، وتمتد منازلها من سفوح جبال الحجاز إلى نجد .وذكر علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، في كتاب "جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد" ما نصه : عتيبة من أكثر قبائل نجد عدداً وأوسعها بلاداً وأصولهم عدنانية من قيس عيلان من هوازن، وأكثر فروعها تسكن الحجاز وسفوحه الشرقيه. وفي هذه المنطقة أيضاً يوجد ربع الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، صاحب المذهب وأحد الأئمة الأربعة وقد قال ابن الأثير: "ليس في العرب أعز داراً، ولا أمنع جاراً، ولا أكثر خلقًا من شيبان". وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء، فالإمام أحمد عربي أصيل ينتمي إلى هذه القبيلة، وهي قبيلةٌ ربعيةٌ عدنانيةٌ، تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. الطريق بين الطائفوالرياض جيد التمهيد، وآمن ليل نهار، كما تتوفر فيه كافة الخدمات التي قد يحتاجها المسافر من محطات وقود تتوفر بها المساجد وأماكن للراحة وتناول الوجبات، وبه قرى كثيرة توجد فيها مراكز الإسعاف، وأمن الطرق للمساعدة في حالات الطوارئ. عموماً، من المدن التي تلفت انتباه المسافرين بجمالها وروعتها؛ مدينة الرويضة، بمنطقة العرض، الواقعة على الطريق بين الطائفوالرياض؛ فهي مدينة منسقة ونظيفة ويوجد بها معالم سياحية مثل مساكن بني هلال، ومن معالمها المشهورة جبل "زعابة". والرويضة تصغير للروضة جرياً على عادة أهل نجد في استخدام التصغير للتمليح في أحيان كثيرة كقولهم جبال "طويق" تصغيراً لكلمة "طوق". والقادم من الحجاز إلى نجد لابد أن يمر بمحافظة المزاحمية،غرب الرياض، تحت سلسلة جبال طويق مباشرة. ولما بلغنا تلك المنطقة كان القمر قد توسط كبد السماء يرسل ضوءه الفضي فينير سفوح الروابي وإذا بالصمة القشيري، أحد شعراء هذه المنطقة، يجهز راحلته ليغادر نجداً مغاضباً، بعد رفض تزويجه حبيبته العامرية بنت عطيف، التي خطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها، فرحل عن نجد وهو يقول: أقول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمار تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ نَجْدٍ فما بَعْدَ العَشِيَّةِ منْ عَرَارِ ألا حبذا نفحاتُ نجدٍ ورَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ القِطَارِ وَأهْلُكَ إذْ يَحلُّ الحَيُّ نَجْداً وأنت على زمانك غير زار شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وما شَعَرْنَا بَأنْصَافٍ لَهُنَّ ولا سَرَارِ فأمّا ليلُهن فخيرُ ليلٍ وأطولُ ما يكونُ منَ النهارِ ثم أنحدر بنا الطريق إلى العاصمة السعودية، وحاضرة نجد، رياض الخير. [email protected]