وَإِذا المَطِيُّ بِنا بَلَغنَ مُحَمَّداً فَظُهورُهُنَّ عَلى الرِّجالِ حَرامُ قَرَّبْنَنا مِن خَيرِ مَن وَطِئَ الثَّرى فَلَها عَلَينا حُرمَةٌ وَذِمامُ رُفِعَ الحِجابُ لَنا فَلاحَ لِناظِرٍ قَمَرٌ تَقَطَّعُ دونَهُ الأَوهامُ "أبو نواس" عرَّف الإمام الغزالي-رحمه الله- السفر والرحلة بأنهما: حركة ومخالطة، وأوضح أن الأغراض الباعثة على السفر لا تخلو من هرب أو طلب، وأنَّ الإنسان لا يسافر إلاَّ في غرض، والغرض هو المحرك. ولما كانت زيارة مسجد رسول الله والصلاة فيه من الأمور المطلوبة شرعاً، وبما أن صلة الرحم من بواعث الغبطة وإدخال السعادة على النفس؛ فقد رافقت الأسرة في رحلة طفنا خلالها على المدينةالمنورة حيث صلينا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقفنا برهة في روضته الشريفة، والتقينا الحجيج من الأهل القادمين من السودان، ثم دلفنا غرباً حتى وضعنا عصا الترحال على سواحل بحر القلزم، في مدينة ينبع الصناعية، في ضيافة الرجل الشهم الأستاذ ياسر فضل السيد المحامي، لمدة يومين اثنين حظينا خلالها بالكرم وحسن الاستقبال، ومنها توجهنا نحو الطائف لنوافي العيد مع الأحباب والأخوان. فبعد أن خفت وطأة الهجيرة في ذلك اليوم الصائف، وضعت رحلي على القلوص الوطيئة، التي ينطبق عليها وصف طرفة بن العبد لناقته إذ يقول: وَإِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوحُ وتَغْتَدِي وغادرت الرياض عصراً ميمماً شطر طيبة، وأرخيت العنان للدابة فانطلقت تجتاز قرى نجد سالكة ذلك الطريق الذلول بين الرياضوالقصيم، بينما سرح خيالي في ماضي نجد وهضابها ومضاربها فصارت تلوح أمام خاطري حتى كأني أراها رأي العين. ولا أبالغ إن قلت أنني رأيت أسراب القطا وقطعاناً من وحش وجرة وبعض الرئال، وشممت رائحة العرار والشيح، ورأيت نار الطلح والغضا في مضارب بني تميم. وكما هو معلوم فإن عالية نجد بها العديد من المواقع التي تستهوي عشاق الطبيعة البكر، والبحث عن أماكن التنزه الطبيعية التي تجمع بين أصالة التاريخ وعمقه، وبين جمال الطبيعة بأوديتها الفسيحة، وجبالها الشاهقة، ورمالها الناعمة. وبعد خروجنا من رياض الخير تراءت لنا قرى نجد العريقة مثل الدرعية، وهي المقر الأول لدولة آل سعود الذين بسطوا الأمن والاستقرار ونشروا العقيدة الصحيحة في هذه الديار وبنوا العمران ونهضوا بإنسان المنطقة وساروا بدولتهم أحسن سيرة حتى أصبحت من بين أكثر الدول تقدماً وازدهاراً. ومن ثم بدت لنا العيينة حيث يوجد قبر الصحابي الجليل زيد بن الخطاب، شقيق أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنهما. ومن بعد ذلك عبرنا قرى ظاهرة حتى وصلنا مدن القصيم، بريدة وعنيزة، وهذه المنطقة يعرف أهلها بالتحضر والتسامح، وهم أهل تجارة وزراعة، وتشتهر القصيم بأطيب أنواع التمر. ولعل من أبرز معالم القصيم، التي تهفو إليها قلوب المحبين وعاشقي الأدب العربي، مدينة عيون الجواء، فهي المنطقة التي أستوطنتها قبيلة عبس ومنهم الشاعر والفارس عنترة بن شداد وفيها دارت معركة داحس والغبراء، بين قبيلتي عبس وذبيان. وفيها المكان الذي كان يجتمع فيه عنتره وحبيبته عبلة التي يقول عنها: يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي فوقفت فيها ناقتي، وكأنها فدن، لأقضي حاجة المتلوِّم وتحل عبلة بالجواء وأهلنا بالحزن فالصمان فالمتثلم والحَزْن والصُمّان والمُتثَلّم كلها مواضع في هضبة نجد التي تحدها صحراء النفود الكبير شمالاً، والدهناء شرقاً، والربع الخالي جنوباً، بينما يحدها من الغرب جبال الحجاز ومن الجنوب الغربي مرتفعات عسير. ولاحت لنا مدينة الربذة التي عاش فيها الصحابي الزاهد أبو ذر القفاري. فقد أقام أبو ذر في الربذة هو وزوجته وغلامه حتى مرض، وأخذت زوجته تبكي عليه وعندما سألها عن السبب أجابت: ومالي لا أبكيك وأنت تموت بصحراء من الأرض وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فرد عليها قائلاً: إذا مت فغسلاني وكفناني وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا هذا أبو ذر! فلما مات فعلا ما أمرهما به، فمر بهم عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله " صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده"، فصلى عليه، ودفنه بنفسه. وما هي إلا مسافة قصيرة حتى رأينا معالم طيبة وأنوارها وفاح علينا عرفها وهبت نسائمها وبدا لنا أحدٌ مع ساعات الصباح الباكر واشرأبت مآذن المسجد النبوي تشق عنان السماء ترفع النداء الخالد أن حي على الفلاح وهنا سمعت عمر بن الفارض ويردد قوله: يا راكِبَ الوَجْناءِ، بُلِّغتَ المنى عُجْ بالحِمَى، إنْ جُزتَ بالجَرْعَاءِ مُتيَمِّماً تلعاتِ وادي ضارجٍ، مُتيَامِناً عنْ قاعةِ الوَعْسَاءِ وإذا وَصَلتَ أثيلَ سَلعٍ ، فالنَّقا، فالرَّقمتينِ ، فلعْلعٍ، فشظاءِ وكذا عنْ العلمينِ منْ شرقيِّهِ، مِلْ عادلاً للحلّةِ الفيْحاءِ واقرِ السَّلامَ عُرَيْبَ ذيَّاكَ الَّلوى مِنْ مُغرمٍ، دَنِفٍ، كئيبٍ، ناءِ وضعنا عصا الترحال بالحلة الفيحاء ريثما نستأنف الرحلة. [email protected]