أن تكون مهموماً بقضايا وطنك، مشغولاً بهمومه.. تُؤلمك أحزانه ومآسيه، وتُسعدك أفراحه ومراقيه، ليست جريمة على الإطلاق.. لكن مشيئة الإستبداد والدكتاتورية في بلادنا، قلبت المعروف منكراً والمنكر معروفاً.. فهي تريد من جميع أفراد الشعب، أن تتطابق أفكارهم ورؤاهم، مع أفكارها ورؤاها، تماماً وبالمِلي (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد). لذلك فالمواطن السيئ، والسيئ جداً في نظرها، هو ذلك المواطن الذي يُعْمِلُ عقله من نفسه، ويَتَّبِع ضميره، ويُرضي ربه عند معالجته ومقاربته للقضايا العامة، فينفعل بها.. وهو بهذه الصفة مواطن غير مرغوب فيه نهائياً في نظر الديكتاتورية.. ومُنى عينيها أن تُغمضهما وتفتحهما فلا تراه يمشي أمامها.. ولا يهمها لو ذاب في الهواء وتلاشى، أو غاص في باطن الأرض وغار. لكن أن تكون سلبياً لا تهش ولا تنش، ولو احترقت البلد بكل ما فيها ومَنْ فيها.. وألّا يكون لك رأي غير الرأي الذي تطرحه عليك وسائل الإعلام الرَّسمية.. وألّا يكون لك مصدر آخر للمعلومات في المسائل والأمور العامة، إن كنت أصلاً مهتمّاً بهذه الموضوعات، غير مصادر وقنوات النظام.. ثم أخيراً أن تكون مُطيعاً هيّناً ليّناً سهل القياد، فأنت بلا شك المواطن الصالح والقدوة والنموذج والمثال.. وأنت بالتأكيد عشيق النظام وحبيبه. وأما حكاية حرية الرأي التي كفلها الدستور، وأنَّ اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية، فهذا مجرّد كلام في كلام.. والحقيقة كل الحقيقة، أنّ اختلاف الرأي مع نظام الإنقاذ، يفسد للودّ قضية وألف قضية.. اللهم إلّا إذا كانت استضافة جهاز الأمن لك لمدة غير محدودة، والقذف بك في مكانٍ مجهول جهنمي، هو الودّ المقصود.. لا حرية رأي ولا يحزنون.. هؤلاء يا سادتي لا يعرفون هذا الكلام.. أو على الأقل ليست مفاهيم الحرية عندهم تمثل عقيدة راسخة، ومبدأ أساسي، ومنطلق أصيل من منطلقاتهم.. هي فقط شعارات ليست إلّا، تلجئهم إليها ظروف السياسة وتعقيداتها.. ولو لا ذلك لرأينا طغياناً وفرعونية يدهش لها فرعون نفسه. ولذلك ليس مستغرباً على الإطلاق، أن يُكَرِّس النظام طاقة جهازه الأمني، في مطاردة الطلاب والطالبات، والقبض عليهم، والزجِّ بهم في المعتقلات.. وطالما كانت أفكارك.. وطالما كان سلوكك السياسي، على غير هوى الحاكمين، فأنت غير مرغوب فيك في هذه البلد، أو إن شئت فقل غير مرغوب فيك في الحياة نفسها.. ولن تشفع لك حداثة سنك وشبابك الغضِّ وعودك الطري. هذا النظام ينطوي على كراهية سوداء، وحقد مجنون أحمق، تجاه كل معارض ولو كان حدثاً يافعاً وطفلاً غريراً.. ولا يبالي أن يُلَوِّن نظرة هؤلاء الشباب الغضّ إلى الحياة، بلونٍ قاتمٍ كريه، وليس يعنيه على الإطلاق، ولا يهمه أن يشوّه نفسياتهم ويحطمها ويشربها بكل مشاعر البغض والحقد والانتقام. وهكذا يُقَدِّم النظام دروسه في الوطنية، وهذا هو تعليمه للنشء والأجيال الجديدة معاني حُبّ الأوطان والبذل والتضحية في سبيلها.. و والله لو كان هؤلاء الشباب من الذكور فقط، لقلنا رغم فداحة الأمر والمرارة، لا بأس أن ننظر إلى الجانب الإيجابي لتجربة ومحنة المعتقل.. فهي ستزيدهم صلابة، وستقوِّي عودهم، وتنضج فكرهم.. وستجعلهم أكثر ايماناً بطريقهم، وأكثر شراسة وتصميماً في مناهضة النظام والدكتاتورية. لكن ما بال النظام يُصِرُّ على تعدي كل الخطوط الحمراء، وعلى الفُجْر في الخصومة، بإعتقاله للبنات وخطفهنّ، والزجّ بهنّ في المعتقلات، بلا إخطار لأهلهنَّ وزويهنّ.. أيّ فُجْرٍ هذا، وأيّ حقدٍ أسود!!!.. ألا يؤكد ذلك ظنّنا أنّ ما ينطويه ويضمره النظام ضد معارضيه هي نيَّة سوداء ممعنة في السواد. معلوم أنَّ سمعة جهاز الأمن في اعتقال البنات والنساء عموماً، سيئة للغاية، وسلوكه تجاههنَّ سلوك مقزِّز قبيح.. لذلك مواصلة نهج خطف البنات واعتقالهنَّ، هو إمعان في الإيذاء.. وبنات السودان هُنَّ شرفه وعرضه، يتوجب صونه والمحافظة عليه.. لكن ماذا نقول لجهاز الأمن الذي استمرأ الإيذاء.. ويؤذي شعب السودان الآن، بإختطاف بناته واعتقالهنَّ، ثم يَفْجُر في الإيذاء بإطالة أمد الإعتقال، غير أنَّ فاقد الشيء لا يمكن ومستحيل عليه أن يعطيه. وكل ذلك لأنهنَّ تجرَّأنَّ على الجهر بالمعارضة والإحتجاج.. وكل ذلك لكي يوصل رسالة مفادها، أنَّ هذا مصير كل من تُحَدِّثه نفسه بمعارضة النظام، كائناً من كان.. حتى ولو كانت بنتاً غريرة في شَرْخِ الصِّبا وفَجْر الشباب. ورغم كل هذا الشر، والحقد، والفُجْر في الخصومة، والإيذاء، وإرادة التحطيم والتصفية من مسرح الحياة.. لا تزال تنعق أصوات كريهة بغيضة، هنا وهناك، مؤكدة أنَّ النظام جادٌّ في الحوار، وسيظل مادّاً يديه للكل، حتى لحملة السلاح، للجلوس والتحاور والإتفاق.. صدقوني عندما يَتَّفِق لي، أن أستمع إلى بعض هذا النعيق، تغتمُّ نفسي وتكتئب، فأستجدي القيء إن لم يبغتني من نفسه، لكي أستريح من بعض ما أجد.. فيا هؤلاء ارحمونا هذا النعيق والله يقتلنا. [email protected]