تاريخياً فإن مفهوم التنوير يشير الي تلك الحركة الفكرية الثقافية خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر التي قام بها الفلاسفة و العلماء في اوربا الذين نادوا بقوة العقل و قدرة نور العقل علي فهم العالم و إدراك نواميسه و قوانين حركته و من ثم السيطرة علي الطبيعة. دافع التنويريون عن العقلانية و مبادئها كوسائل لتأسيس النظام الاخلاقي و المعرفي و اعتمدوا علي الفردانية و التجربة العلمية و النتائج المادية الملموسة و السببية بديلاً عن الخرافة و الخيال و التقاليد الدينية القديمة و العادات الثقافية البالية التي تعبر عن عصور الظلام. حدد المفكر إيمانويل كانط مفهوم التنوير بأنه خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه بسبب عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر نتيجة للكسل و الخوف. كما نادي كانط بضرورة تغيير إتجاه العقول من الاعتماد علي الغير الي الاستقلال الذاتي عن طريق التربية العقلية و النقدية للأفراد و يشترط كانط وجود الحرية لنشأة التنوير و استمراره في المجتمعات. علي عكس الذين فهموا أن التنوير نقيضا للإيمان و المعتقدات الدينية فإن كانط يري أن حدود العقل تبتدئ بعد حدود الإيمان و دعي التنويريون عموماً الي التديّن العقلاني. هناك الكثير من الأفكار المغلوطة و الخلط و التوهم لمفهوم التنوير وسط المثقفين السودانيين و الكتاب العرب عموماً و أصبح مصطلح التنوير عند كثير من هؤلاء المثقفين عبارة عن أيقونة فارغة و صنم يعبد خالي من المعنيّ و المضمون حيث أنهم قاموا بربط التنوير بالحداثة تارة و بالمشاريع المعرفية و السياسية المختلفة تارةً اخري تعبيراً عن جهلهم العميق بأن التنوير عبارة عن فلسفة مستقلة تقوم علي العقل التجريبي و المعرفة العلمية و ليس له أي علاقة تأسيسية بالمشاريع الاخري و لا يمكن ربطه إلا بالإنسان و قيمه الأخلاقية التي تستند علي العقل. كما صب التنويريون الأوائل إهتمامهم الرئيسي علي مسائل الجمال و التناسب و التناغم التي هي الجوهر الحقيقي للعالم و الإنسان. ان التعريف التنويري للعقل بعيد كل البعد عن التعريف التقليدي المشاع له حيث ينظر التنويريون الي العقل علي أنه عقل توظيفي و فني بحت يثبت صلاحيته فقط بالنتائج العملية التي يحققها. ان المدارس الفكرية التي تدعو الي نقد العقل لا تعني إلغاء العقل كما فهم غالبية المفكرون السودانيون و العرب و لكنها تنقد العقل من أجل الوصول الي مستويات أعلي من العقل في سلسلة تكاد تكون لا نهائية تماماً مثل التنوير الذي هو عبارة عن عملية مستمرة لا يحدها زمان أو مكان أو سقف. حوت الفلسفة التنويرية كمية من الأفكار التي ترتكز علي السببية كمصدر أولي للسلطة و الشرعية و طورت و أنتجت أفكار مثل الليبرالية و التحديث المستمر و التعايش السلمي و دولة القانون و العلمنة الشاملة. لذلك يجب علينا عندما ندعو لنموزج تنويري سوداني أن نستصحب معنا كل تلك الأبعاد السابقة للمصطلح و دراسة العقل السوداني جيداً و نقده بحكمة و من ثم إنتاج عقل سوداني جديد مستقل بذاته و متحرر من التقاليد البالية المختلفة و قابل لإعادة الإنتاج باستمرار و استقبال النور المتجدد. الشخص المستنير الحقيقي ليس عبارة عن شخص جامد عند محطة معرفية واحدة مهما كانت قيمتها مرتفعة و لكن المستنير حقا هو ذلك الشخص الذي لديه قدرة يومية علي استقبال تنوير عقلي جديد و في مختلف المسائل. [email protected]