الإنسان الحديث ليست له ثقافة يمكن أن يدعي أنها ثقافته، لأننا نملأ حياتنا بعادات غريبة عنا. ميدل ايست أونلاين بقلم: محمد زكريا توفيق الثقافة وسلطة الدولة أعداء ألداء بداية كتابات فريدريك نيتشه، كانت ضد العقلانية وفلسفة سقراط. كانت تفضل عليها الإلهام وشهوانية الفن الدايونيسي الجمالي. في كتابه "هو ذا الإنسان" المنشور عام 1878، نرى أن نيتشه يزداد انفصالا ونقدا للعقلانية والفكر الأرسطي. في عام 1870، تطوع نيتشه في الحرب التي كانت قائمة بين فرانكو وبروسيا، وكان مكانه في الخدمات الطبية. لكنه أصيب بمرضي الدسنتاريا والدفتيريا، مما جعله يمرض ويقضى فترة نقاهة طويلة. وكان نيتشه يرفض الوطنية المحمومة للرايخ الثاني، لأنه كان يعتبرها انتصارا للثقافة المثالية الألمانية. كان يرى أن قوة بروسيا الحالية، تشكل خطرا داهما على الثقافة الحديثة. مثل الخطر الذي يشكله التاريخ والماضي على الحاضر. لماذا؟ لأنه يخلع ثوب المثالية والعظمة على أمم قديمة بالية، ثم يجبرنا على تقليد ثقافتها الميتة. هذا يشبه الخطر الذي يشكله التاريخ الإسلامي السلفي على واقعنا المعاصر. يقول نيتشه، إن الإنسان الحديث ليست له ثقافة يمكن أن يدعي أنها ثقافته. لأننا نملأ حياتنا بعادات غريبة عنا. نستخدم فنونا وفلسفات وديانات وعلوما، كلها أشياء لا تخصنا. نستخدم ونسيء استخدام التاريخ. نهضم الماضي ونجعله يملأ رؤوسنا وعقولنا، لكي نبني به حاضرنا وحضارتنا. التاريخ عبء ثقيل مميت لحاضرنا ومستقبلنا. يقول نيتشه إن التعليم بصفة عامة يعطينا معلومات ثقافية، لكنه لا يثقفنا كما يجب. الإنسان المتعلم حسب مفهومنا، هو الإنسان الذي يحفظ الكثير من المعلومات، بدون أن يحيا حياة جمالية روحانية. بمعنى أن التعليم يركز على التفاصيل الدقيقة التاريخية، فيفقد بذلك الشخص المتعلم التركيز والموضوعية. هذا يعطل نمو الإنسان الوجداني ونشاطه الخارجي. الإنسان يمكنه أن يكون إنسانا متعلما، بدون معرفته تفاصيل أحداث التاريخ بالمرة. إذا أردنا أن نبني ثقافة جمالية حيوية، علينا أن نكون أقل تعليما بالمعنى التقليدي للتعليم. كلام غريب يحتاج إلى شرح. الثقافة والإيمان والقيم التي تشكل المجتمعات، لا يمكن بناؤها بالتعليم وحده. الشعوب العظيمة تنتج عادة عباقرة، لكن يحدث هذا بكثرة عندما تكون سلطة الدولة ضعيفة، وأقل تدخلا في أسلوب تعليم الأفراد. الثقافة وسلطة الدولة أعداء ألداء. في الواقع، كل فترات الثقافة العظيمة، هي الفترات التي تضعف فيها سلطة الدولة، ويضعف معها تحكمها في الأفراد. السلطة السياسية والإقتصادية وسلطة البرلمان أو الكنيسة أو الأزهر أو الجيش، عادة تضعف بتدخلها مستوى الثقافة عند الأفراد. لكن كيف نصلح من شأن الثقافة الألمانية وننتشلها من الحالة البائسة التي تغوص فيها؟ من المضحك أن الإصلاح يأتي عن طريق هؤلاء الذين لا نعيرهم انتباها، اصلاح الثقافة يأتي عن طريق غير المثقفين، وهم الشباب. في البداية، سيكونون أكثر جهلا من طبقة المتعلمين الحاليين. لأنهم لم يتعلموا ما فيه الكفاية، كما أنهم ليست لديهم الرغبة في مناقشة ما ينقصهم من تعليم. ستنقصهم المعرفة، وتصيبهم اللامبالاه وصعوبة الوصول للجيد والصالح من الأشياء. حينئذ، يكونون مستعدين لبناء ثقافتهم الجديدة على "ميه بيضة" كما نقول بالبلدي. بدلا من السير على نهج الثقافة القديمة، وبلعها كما يبلع التمساح فريسته، ثم يصاب بالتخمة، فيخلد للكسل والراحة. كلام نيتشه هنا يذكرني بالقصة التالية: ذهب أحد علماء الغرب إلى الهند طالبا الحكمة من ناسك يعيش فوق هضبة التبت. يلتحف بقطعة قماش حول وسطه، ويقتات بالماء وفتات الخبز. عندما رأى الناسك الضيف، وبعد أن سأله عن مراده، قدم له كوبا من الشاي. أخذ يصب الناسك الشاي فى الكوب حتى مُلئ الكوب وبدأ يسيل من جوانبه. لكن الناسك مستمر فى صب الشاي فى الكوب. فقال له العالم: "ياسيدي، لقد ملئ الكوب ولم يعد يقبل المزيد." فأجابه الناسك على الفور: "هكذا يمتلئ عقلك بالأفكار السابقة. كيف أعلمك شيء وعقلك، ممتلئ مثل هذا الكوب، ولم يعد يقبل المزيد." هذا هو السبب فى أن الأفكار الجديدة تجد صعوبة بالغة لكي تجد لها مكانا بين الأفكار القديمة الراسخة فى عقول الناس، والتي تحولت إلى صخور وأسمنت لا ينفذ منه الضوء. هذا ينطبق على النظريات العلمية وعلى الأديان والعادات والتقاليد. هذا هو السبب في معارضة نظرية التطور لداروين. لأن الكوب ليس فارغا بحيث نستطيع أن نرى ما قد رآه داروين. العقيدة والمعلومات القديمة، دائما تقف حجر عثرة فى طريق الفكر الجديد. التخلص من القديم، وعدم المبالاه بالتاريخ والتعليم، سوف ينتج عنه ثقافة حقيقية حيوية، تمثل حرية النفس والروح. وبعد العلاج والشفاء، يصبح هؤلاء رجالا مرة أخرى، لا مجرد ظلال آدمية تمشي على قدمين. لقد سلك نيتشه هذا المنحى، لكي يشفي نفسه من سقامها. هذا هو الطريق الوحيد الذي استطاع عن طريقه تحقيق اسلوبه النقدي للجيد والمهم من الأشياء. مما تسبب في ثورة فكرية جديدة في المعرفة والأخلاق وسيكلوجية الإنسان. هدف الإنسانية، كما يقول نيتشه، لا يتحقق في نهاية الزمن، وإنما في الوصول بالإنسان الآن إلى أعلى المراتب. إذا كان للإنسان أية قيمة، فقيمته تقع في الأعمال الثقافية التي ينتجها عباقرة مفكري عصره، لا مفكرين ومفسرين ومشايخ من عصور بالية. إذا كانت الثقافة هي هدفنا الأسمى، وجب علينا فهم معنى الوجود (الميتافيزيقا). لكن، هل يأتي الفهم عن طريق العقل وحده؟ إذا كانت معرفتنا بالعالم الميتافيزيقي ومعنى الوجدود عن طريق العقل أو الرأس وحدها، فماذا يكون عليه هذا الوجود، عندما تقطع هذه الرأس؟ وهل يكون هناك صوت، عندما لا توجد أذن تسمعه؟ الإجابة عن هذا السؤال، هي ببساطة خارج قدرة الإنسان. هذا السؤال تاريخيا، شغل بال الفلاسفة لمدة طويلة. لكن ما هي الفائد من فهم أو قبول وجود عالم الميتافيزيقا هذا؟ بالتأكيد ستكون معرفتنا بعالم الميتافيزيقا، في هذه الحالة، هي معرفة عديمة الجدوى. مثل معرفة التركيب الكيميائي للماء (يد2أ)، لرجل يغرق. لماذا؟ لأننا ورثة عالم محسوس فيزيائي، نتكون منه ونعيش فيه ونلتحف به. داخله فقط تنحصر وتتشكل حياتنا وآمالنا وأفكارنا ورغباتنا. في هذا العالم الفيزيائي، يأتي نقد نيتشه الذكي الذي سيكون له أكبر الأثر في تشكيل الفكر المعاصر. ماذا يقول نيتشه عن فلسفة عمانويل كانط (1724-1804)؟ كانط هو أعظم الفلاسفة المثاليين الألمان. الفلسفة المثالية هي الفلسفة التي تعتبر أن حقيقة الكون عبارة عن أفكار وصور عقلية، وأن العقل وحده هو مصدر المعرفة. فلسفة كانط ترجع جذورها إلى أفلاطون، الذي يبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم المُثل، وهو عالم خارج هذا العالم المحسوس. شوبنهاور لديه مثل هذا العالم غير المحسوس وأسماه عالم الإرادة. العالم المحسوس، أي الذي تدركه حوسنا، عند كانط هو "فينومينا"، والعالم غير المحسوس "نومينا". هذه المفاهيم، تجاوزت كل الثقافات والأفراد، بل تجاوزت التاريخ نفسه. لأننا مقيدون باستخدام العقل والحواس، لن يكون في استطاعتنا أبدا معرفة العالم غير المحسوس "نومينا". وبالرغم من ذلك، يصر كانط على وجود هذا العالم. هو يعتقد أننا معزولون عنه وممنوعون من معرفته بسبب حواسنا. حواسنا تعمل مثل النظارة المطلية باللون الوردي، تجعل المرئيات كلها وردية اللون. نظارة الزمن ونظارة المكان، لا نستطيع منهما الفكاك. فهما يضعان حائلا يمنعنا من المعرفة الحقة. لذلك، يقول نيتشه، سوف أرفض ميتافيزيقا كانط. وسأقصر بحثي على ما نستطيع معرفته وفقا لقدراتنا. كانط ما الذي يفصل نيتشه عن كانط؟ هو مفهوم "التغير إلى"، أو "الصيرورة إلى"، عن طريق الزمن والمكان. يقول نيتشه إننا لسنا بحاجة إلى وجود عالم خارج نطاق الزمن والمكان. لسنا في حاجة للميتافيزيقا. لأنها لا تزيد عن كونها غضبة الفلاسفة لعدم استطاعتهم ادراك الحقيقة. مفهوم "التغير إلى" عند نيتشه، سوف يقودنا إلى مفهوم "كن كما هو أنت"، ثم إلى مفهوم "السوبرمان". كانط يقدم لنا مصيبة أخرى، من وجهة نظر نيتشه، وهي فلسفة الأخلاق. هي مفاهيم الضرورات الحتمية. يقول كانط إن الإنسان يحتل مكانا رفيعا بين المخلوقات. الأخلاق يمكن حصرها في مجموعة وصايا حتمية يحكمها العقل. بها يجب أن نلتزم ونطيع. نظرية كانط في الأخلاق، تبين تأثره بالفكر المسيحي. لكن محاولته جعل "الواجب" عملا منطقيا، وليس مجرد أوامر إلهية. وضعته بين مفكري عصر التنوير. حيث نجد أن سبب الأخلاق علمي عقلاني لا ديني. القيم الخلقية يمكن استنتاجها بالعقل فقط. يقول كانط، علينا أن نتصرف كما لو كانت الحكمة من تصرفاتنا، هو عمل قوانين عالمية لكل الناس، بدون أن تتعارض مع المصلحة العامة. نحن كمخلوقات عقلانية، من واجبنا طاعة هذا المبدأ. وسأقوم بشرح فكرة كانط هذه في الأمثلة الآتية: لنفرض أنك قد استلفت من صديق لك 5 جنيهات. ولنفترض أن الصديق لم يراع أصول الصداقة، وقام بالمطالبة بالمبلغ وملاحقتك ومضايقتك. مما جعلك تقول فى نفسك، لو قمت بقتل هذا الصديق الرذل، سيكف عن ملاحقتي ومضايقتي، وأفوز بالخمس جنيهات. لكن كمعجب بفلسفة كانط وملتزم بأفكاره، سوف تختبر تعميم مبدأ القتل عالميا. وتسأل نفسك، ماذا يحدث لو لجأ كل واحد منا، إلى قتل الآخرين، لتحقيق أغراضه؟ طبعا هذا من الجنون. لأنه لن يبق أحد يمكن أن نطبق عليه القانون الأخلاقي. ماذا بالنسبة لنقيصة "الكذب"؟ هل يمكن أن أعمم مبدأ الكذب وأن أجعل منه مبدأ عالميا؟ كيف يستقيم أي شيء، لو كانت كل الناس شيمتها الكذب؟ الأخبار في الصحف ومحطات التليفزيون والراديو، كلها كذب في كذب. تصريحات المسؤولين كلها كذب. نصائح المحامي أو الطبيب، كلها كذب. هل يستقيم أي شيء؟ إذا كان القانون العالمي هو "كل واحد يقوم بالنصب والسرقة". هذا أيضا غير ممكن. لأنه سوف يخل بمبدأ الملكية الخاصة. ويصبح كل واحد منا، قادرا على الاحتفاظ بما في يده، طالما يستطيع الحفاظ عليه وحمايته. أي يجعلنا نعود إلى قانون الغاب. يقول كانط، علينا أن نعامل الناس كما نحب أن يعاملوننا. كانت المبادئ الأخلاقية لكانط، لها تأثير عملي كبير بالنسبة لقضايا المساواة والتفرقة بسبب الجنس أو الدين أو العرق. كان كانط، حريصا على أن يجعل التمسك بالأخلاق القويمة، نوع من الواجب الإنساني. فعل الصواب كواجب في رأي كانط، أفضل بكثير من فعل الصواب تحت تأثير الشفقة أو العطف أو الخوف. مبادئ كانط الأخلاقية مستقاة من العقل، وليست من الكتب المقدسة. دافعها الواجب نحو الإنسانية، وليس الخوف من عذاب النار، أو الطمع في ثواب الجنة والحور العين. لأن المعرفة الإنسانية محدودة، كما يقول كانط، فالأخلاق يجب أن تتعدى النظرة الضيقة التي تنحصر في المنفعة الشخصية. لكن نيتشه لم تعجبه فلسفة كانط في الأخلاق. يسميها "التعصب الأخلاقي". إنها تبين غريزة كانط الدينية. الذي يحطم الإنسان ويذله، بأسرع مما تظن، هو شعوره بالخواء الداخلي. هذا الشعور، يجعله قليل الحيلة عديم النفع، ليست له خيارات مهمة، يعيش بدون هدف وبدون سعادة وبهجة، إنسان آلي مبرمج لتأدية الواجب فقط. الفضيلة يجب أن تكون من اختراعنا نحن، تنبع من حاجتنا ورغبتنا في الدفاع عن أنفسنا. باقة ورد للزوجة في عيد ميلادها، أهم من حضور قداس الأحد. هذا يقود نيتشه إلى بيت القصيد. الأخلاق لا يجب أن تعتمد على العقل وحده. لأنها لو كانت تعتمد على العقل وحده، فعقلي ليس مثل عقلك. بتعدد العقول تتعدد القيم الخلقية. يقول نيتشه إنه على كل واحد منا يجب أن يبني عالمه الأخلاقي بنفسه، هذا هو ضروراته الحتمية. الناس تهلك إذا أخطأت وامتثلت للواجب العام بدلا من واجبها الخاص. فلسفة كانط الأخلاقية، فلسفة خطرة.