لعل مشهد مصرع الرئيس الليبي معمر القذافي عند مخبأه في 2011 والحوار الذي دار عندئذٍ بينه وبين الشباب الذين اقتصوا منه يؤكد دون أدنى ريب أن الحكام الطغاة يعيشون في عالم تصنعه أجهزة الدعاية التابعة لأنظمتهم. والأمر المدهش هو أن هذه الأجهزة التي أنشئت في الأساس لتضليل جماهيرالشعب وبيعهم البضاعة الكاسدة لهذه الأنظمة ، انتهت بأن تصبح في النهاية اشبه بالوحش الخرافي فرانكنشتاين فكان مُنْشِؤوها أنفسهم من أكبر ضحاياها. من المؤكد أن المستمع لمسؤولي هذه الدول قد تختلط عليه الأمور عندما يتحدثون عن الأوضاع في بلادهم ، ولا يستطيع أن يفرق بين حقيقة إن كانوا مقتنعين فعلاً بما يقولون أم أن ذلك جانب من "البروباغاندا" التي يعملون على ترويجها لخداع المواطن المغلوب على أمره. يعتبر الرئيس الزمبابوي روبرت موغابي مثالاُ حياً لهذا النوع من الطغاة ، فبالرغم من تجاوزه سن التسعين إلا أنه لا زال يتشبث بمقعده في مواجهة حركة شعبية مناهضة تعم البلاد منذ عدة أشهر ويصر في نفس الوقت ، كما يفعل الطغاة عادة ، على أن ما يجري ما هو إلا مؤامرة تحيكها جهات معادية لا تريد الخير له ولا لشعب بلاده. تعود جذور الأزمة التي تواجهها زمبابوي في الوقت الحالي إلى الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد منذ مطلع الألفية ، وهو ما اضطر حكومة الرئيس موغابي لأن تعلق العمل بالعملة الوطنية منذ عام 2009 بسبب التراجع المستمر في قيمتها. في ظاهرة نادرة اضطرت الحكومة للاعتماد على عملات أجنبية من بينها الدولار والجنيه الاسترلييني والراند الجنوب أفريقي ، غير أنها عجزت منذ بداية العام الحالي كما هو متوقع عن توفير هذه العملات بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد والتدني في أسعار المواد الخام التي تمثل عصب الصادرات مما قاد لتراجع حجمها وقيمتها وقاد لأن تصبح الحكومة عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها. ولعل عجز الحكومة عن دفع مرتبات أفراد القوات المسلحة في منتصف يوليو الحالي ، ورضوخها لتهديد أفراد المهن الصحية يعكس مدى عمق الأزمة التي تعيشها زمبابوي. المعروف أن القوات المسلحة ومخضرمي حرب التحرير يأتون عادة في مقدمة الفئات التي تتلقى مستحقاتها بصورة منتظمة ، مما يشير إلى أن الظروف المالية للدولة في غاية الحرج. في محاولاتهم إنكار وجود الأزمة لا يعدم المسؤولون بالحكومة وعلى رأسهم الرئيس موغابي نفسه المشاجب التي يمكن أن يعلقوا عليها إخفاقاتهم. هناك من يلقي بااللائمة على استهداف البلاد والمؤامرات التي تحيكها بعض "قوى الاستكبار" التي يسوؤها أن ترى دولة من دول العالم الثالث ترقى مدارج العالمية والنفوذ الدولي !!!. بينما يرى آخرون أن المخربين من أبناء البلاد نفسها والطامعين في الحكم والنفوذ يتآمرون مع القوى التي تستهدف بلادهم. ويقول وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة أن على المتظاهرين ألا يلوموا الحكومة على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد ، بل عليهم أم يوجهوا غضبتهم نحو حزب الحركة الديمقراطية للتغيير المعارض ورئيسه مورغان تشنغراي الذين استعانوا بالأجنبي في صراعهم مع الحكومة. وكما يشير المثل السوداني الشهير الذي يتحدث عن البعير وعنقه ، فإنه ليس من عجب أن هؤلاء المسؤولين يستبعدون تماماً أي احتمالٍ مهما كان ضئيلاً بأن تعود المشاكل التي تواجهها بلادهم بالدرجة الأولى لسوء الإدارة واسنشراء الفساد داخل النظام نفسه. غير أن أي دولة ومهما كانت مقدرة حكومتها على التسلط ، وتكميم الأفواه ، والتنكيل بالمعارضين لن تعدم الطفل الذي يرى عورة الفرعون. وبالرغم من النصائح التي بذلتها العديد من الجهات خلال السنوات الماضية ومن بينها الكنيسة ومخضرمي حرب التحرير ، وبعض كبار الشخصيات إلا أن الحكومة الزمبابوية ظلت تتجاهل كل هذه الدعوات وتمضي في سياساتها التي أدت كما أشرنا أعلاه لانهيار شبه كامل لاقتصاد البلاد. جاء الانتقاد الأقسى لحكومة الرئيس موغابي وسياساتها التي قادت البلاد للمأزق الذي تعيشه الآن من داخل الكنيسة. تمثل ذلك في الحدث الذي حرك الشارع بصورة غير مسبوقة من خلال الفيديو الذي نشره القس إيفان مواريري على صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي المعروف "تويتر" تحت عنوان "هذا العلم" ، وهو الفيديو الذي أصبح شعاراً للحركة المناهضة وجعل من موقع القس مواريري مصدراً للمعلومات والإلهام لجموع الشعب الزمبابوي. الفيديو ببساطة يعبر عن الإحباط الذي يعانيه القس مواريري الذي يصور نفسه وهو يلف علم زمبابوي حول عنقه ويغني عن أحوال بلاده المحزنة ويتمنى أن يكون مواطن دولة أخرى. أصبحت "حركة هذا العلم" بين عشية وضحاها أكبر حركة مناوئة لنظام الحكم في زمبابوي وكانت وراء الإضراب الذي نفذه موظفو الدولة في الأسبوع الماضي. قامت الحكومة باعتقال القس مواريري الذي قدم للمحاكمة ، إلا أن المحكمة برأته باعتبار أنه يمارس حقه الدستوري ولا يسعى لإسقاط الحكومة بوسائل غير شرعية. يبدو أن القس مواريري مثله مثل الكثيرين الذين يظهرون في منعطفات تاريخية تمر بها بلادهم ويلعبون دورا أيا كان حجمة في الثورة على الطغيان. أصبح القس رمزاً لمقاومة الطغيان في بلاده ، وقد صرح مؤخرا من جنوب أفريقيا أنه عائد لزمبابوي لمواصلة ما بدأه ، الأمر الذي قد يثير قلق سلطات الأمن في البلاد. من جهة أخرى أكدت الأحداث في زمبابوي أن وسائل التواصل الإجتماعي عبر الانترنت أصبحت تلعب دوراً بالغ الأهمية في المجال السياسي ، إذ أن هذه الوسائل اختصرت الزمن والمسافات وأزالت الحواجز بين المحلي والدولي. ولا شك أكذلك ن هذا الدور الجديد للانترنت وما قد يتبعها من اختراعات علمية يجعل من الصعب للغاية على الحكومات المتسلطة أن تفعل ، كما كان الحال في الماضي ، ما تشاء ببلادها وشعوبها. كما أن هذه الوسيلة المهمة تساعد كثيراً في انتقال الأفكار بين مختلف الشعوب وتجعل من الصعب على الحكومات المتسلطة إخفاء ما يجري فعلاً داخل البلاد. ولعل تفاعل الجاليات الزمبابوية في الخارج مع ما يجري حالياً داخل البلاد يؤكد أنه قد أصبح من الصعب جدا على أجهزة الأمن في أي دولة من الدول أن تتحكم في شكل وحجم المعلومات المتاحة للمواطن داخل وخارج الوطن. تأتي هذه التطورات المتلاحقة في الوقت الذي يشهد فيه حزب الاتحاد الوطني الأفريقي الزمبابوي الحاكم صراعاً مكتوماً حول خلافة الرئيس موغابي البالغ من العمر 92 عاما مما يزيد من تعقيد الأمور ويشير إلى أن البلاد مقدمة على فترة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي سينعكس حتما على المنطقة برمتها. ولذلك فإن الكثير من المراقبين يدعون إلى ضرورة تدخل جنوب أفريقيا ، باعتبارها القوة الأكبر في المنطقة ، بحثاً عن حل يجنب المنطقة كلها الأخطار المتوفعة بسبب ما يدور في زمبابوي. وترى نائبة رئيس زمبابوي السابقة جويس موجورو أن الحل الأنسب يكمن في استقالة الرئيس موغابي فوراً واختيار خلف له تجنبا لأي نوع من أنواع الفراغ السياسي الذي سيقود حتما لصراع داخل الحزب وينعكس بذلك على الأوضاع داخل الدولة. [email protected]