تعتبر القارة الاوربية (القارة العجوز) هي المدرسة التي ظهرت بها بدايات الفكر العلماني ثم طالها التفرع لتكون برنامج عالمي احتضنته البشرية في كل ربوع العالم ، ويذكر ان ترجمة مصطلح العلمانية {secularism} تعني العالم وتهتم بالتعاليم المادية الكونية وتدرس التطور التاريخي للبشرية وكيفية تحقيق رفاهية اﻻنسان من خﻼل مخاطبة حاجاته الكونية وتطوير اﻻنتاج العقﻼني ولقد ظهرت العلمانية في اوربا حسب ما أرخ له البعض في العام 1648م م مع توقيع اتفاق الصلح } وستفاليا { والذي اوقف الحرب الدينية في اوربا التي كانت غارقة في طغيان الكنيسة وبابواتها وملوكها الفاسدين ومن هنا ظهرت الدولة القومية الحديثة ، ولقد اتسع مفهوم هذا المصطلح علي يد المفكر العالمي جون هوليوك من العام 1817 م الي 1906 والذي عرف العلمانية علي انها : اﻹيمان بإمكانية اصﻼح حال اﻹنسان من خﻼل الطرق المادية دون التصدي لقضية اﻹيمان بالرفض او القبول : وتنقسم العلمانية الي اجزاء حسب الزمان والمكان ومنها العلمانية الجزئية التي تخاطب العقل البشري دون تحرير كلي والعلمانية الشاملة التي تدعو للتحرر العقلي الكامل من كل سمات العبودية والجمود للتفكير بشكل فاحص في الحياة والطبيعة من حولنا، وابتكار كل ما هو جديد يخدم تطور العالم ويقود الي الرفاهية وهناك نسخ مختلفة للعلمانية كانت نتاج اختلاف طبائع الشعوب وحاجاتها، هذا دون المساس بالحق الديني الذي يعتبر المنقح الروحي لكافة البشرية ، لقد قادة اوربا بعد الثورة الفرنسية نهضتها السياسية واﻻقتصادية واﻻجتماعية بمشروع حقق لها المجد وجعلها قارة رائدة متقدمة في كافة المجاﻻت تفوقة علي الوطن العربي وافريقيا وهزمة الدولة اﻻستبدادية والحلف الروسي وتفوق حلف الشمال اﻻطلسي " الناتو " علي حلف " وارسو " وتقدم النظام الرأسمالي ليحقق الطفرة الكبرى في العالم وهنا نعرج الي التجربة السودانية ونشاهد ظهور بوادر العلمانية .... تعتبر المملكة النوبية المسيحية التي سادة السودان من سنة 550-1500- اكبر سلطة دينية شهدها التاريخ السوداني القديم والتي ثار علي حكامها وقساوستها الملك أركماني عندما تكايدو عليه وطلبو منه تقديم نفسه للموت حسب طقوس الرب عندهم وحسب عاداتهم وتقاليدهم فرفض ذالك وكذالك نشهد تغير نسبي في سلطنة الفونج وعاصمتها سنار والتي كانت بداية لظهور الدولة المدنية العلمانية في بﻼد السودان حيث كان الجمهور وقتها شبه متحرر والشيوخ يمارسون حياتهم الدينية ويبشرون باﻻسﻼم في معزل عن الملوك واﻻمراء ولقد استمرة المملكة بهذا النهج حتي سقوطها وبعدها دخل السودان في عهد الحكم التركي المصري والذي وضع السودان تحت نظام الحكم العثماني الذي كان يسيطر علي عشرات الدول العربية واﻻساوية والذي سقط بعد انهياره وفساده علي يد حايم وايز مان وهرتزل واخيرا علي يد الثوار اﻻتراك بقيادة كمال اتاتورك ثم برزة الدولة المهدية الدينية التي كانت نتاج ثورة دينية انجزها السودانيين لكنها في بداية تشكيلها لدواوين الدولة تراجع بريقها وكبلة في عهدها العقل البشري واختزلته في شيوخ القبائل واﻻمراء وجعل التعليم ينحصر في اضيق نطاقه ولم يظهر منتوجها الثقافي إﻻ في الجﻼليب المرقعة وضرب الطبول مثل (النوبة) ودراسة راتب المهدي وهو عبارة عن دعاء وتفاسير دينية يقصد بها التقرب الي الله ،ثم سقطة الدولة المهدية لضعف بنيانها الفكري والسياسي والاقتصادي والاداري فكانت نهايتها علي يد اﻻنجليز والمصريين ودخل السودان تاريخه الحديث ووضع اﻻنجليز اسس الدولة العلمانية الحديثة وتم تنظيم الجيش السوداني وفي ظل تنامي الوعي القومي لدى اهل السودان وشعورهم بالرغبة في التحرر من اﻻستعمار قامت الحركة الوطنية وشهد السودان حراك ثوري واعي من قبل النخبة المتعلمة وتم انشأ اللواء اﻻبيض علي يد القائد علي عبد اللطيف ورفاقه الذين خاضو اول مظاهرة ثورية في وجه اﻻستعمار ولقد اسسة جمعية اللواء اﻻبيض التي تعتبر اول تنظيم سوداني اسس لمشروع التحرر وخرجة بعده اﻻحزاب بشقيها المنادية بوحدة وادي النيل والمنادية باﻻستقﻼل التام وشهدت هذه الفترة اكبر انتاج ثقافي وفكري خطط ورسم لنهضة السودان وبعد خروج المستعمر اﻻنجليزي المصري دخل السودان مرحلة جديدة هي اﻻحدث في تاريخه وتوجه السودانين للتعليم والتفكير فيما يجري حولهم من تطورات وطفرات علمية وصرعان ما انتكس اﻻمر بعد عدت تغيرات وتحوﻻت ودخلنا مرحلة اﻻنقﻼبات العسكرية و جائنا نموزج اخر في عهد حكم الجنرال جعفر نميري الذي استمر ل 16 عام فيما حاول ان يتطبق الشريعة اﻻسﻼمية علي السودان في العام 1983 م وتﻼه نظام الجنرال عمر البشير بعد انقﻼب الجبهة اﻻسﻼمية في العام 1989 م وكانت هذه الحقبة اﻻنقاذية اطول حقبة دكتاتورية 25 عام مارس فيها اﻻسﻼمين التضليل والتغبيش في حق العلمان وبذات اﻻسلوب الذي ساد اروبا في القرون الوسطى من استخدام الملوك للسلطة الدينية وبيعهم صكوك الغفران ومتاجرتهم بحياة البشرية وتحديد مصريهم تمارس حكومة الجبهة اﻻسﻼمية ذات السياسة في مواجهة خصومها العلمان وغيرهم وقد يكفي ذكر ندوة هيئة العلماء المسلمين التابعة للنظام في العام 2014 م والتي حرمة اﻹنتماء لﻼحزاب العلمانية وغيرها من التيارات اليسار، وكذلك نجد عدت فتاوي وبيانات ومحاضرات لهيئة العلماء المسلمين وبعض شيوخ السلطان تنادي بقتل العلمان ودكهم دكا ورغم هذا الزخم وهذه الهجمة التي تقاد لتفكيك منظومة الدولة المدنية العلمانية إﻻ انها تظل هي اﻻقوى واﻻرجح لتحقيق النهضة السودانية في ظل نبذ الجماهير للدولة الدينية التي تستخدم لتدمير حياتهم وامنهم واستقراهم وعدة الي افقارهم وتجويعهم وتهجير بعضهم من ارضهم واغتصاب نسائهم وتجهيل ابنائهم واثبتت التجربة فشلها في ادارة الدولة السودانية المتعددة في ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها واديانها ولغاتها والوانها وتوجهاتها الفكرية الواسعة، إذ انها تستوجب التكيف اللازم والدقيق في مناخ يوائم هذا التنوع ويحتويه في مشروع وطني تحرري شامل يدفع بالسودان الي عالم اخر يتوفر به السعد الديمقراطي والسلام وحرية الرأي والرأي الآخر في الشأن السياسي والثقافي والعلمي والتعبير عن الذات بحرية والتعايش السلمي مع كل التناقض الكوني الذي فرضه الواقع، وهذا ما سيكون من خﻼل النظرة المنطقية والواقعية لتنامي الوعي الثوري وتجاذب المكونات السياسية واﻻجتماعية في مطالبها من دولة مدنية الي ديمقراطية علمانية وهذا يتماشى مع المفهوم الثقافي واﻹرث التاريخي لشعب السودان. سعد محمد عبدالله القاهرة [email protected]