لا شيء أضر باقتصادنا وبثقافتنا الإنتاجية أكثر من تأثرنا السلبي بنماذج الدول الريعية النفطية في محيطنا العربي.. الدول التي أنعم عليها الله بثروة النفط في باطن الأرض فحققت نهضتها الشاملة اعتماداً على تلك الهبة الربانية . لقد نسينا تماماً أننا في الأساس بلد زراعي وليس بلدا نفطيا.. وأن فرص الزراعة هي الميزة التفضيلية للدولة السودانية ورأس الخيط الذي قدره لنا الله لتحقيق النهضة المطلوبة لو أردنا ذلك . تعطب تفكيرنا الإنتاجي ورغبتنا في الإنتاج الزراعي الجاد بسبب انبهارنا منذ عقود بالنقلة السريعة التي حدثت لدول ومجتمعات الخليج العربي بسبب النفط والغاز فتراجع إحساسنا بمفردتتا الإنتاجية الحقيقية وقدرنا الرباني أننا بلد زراعي ولا يمكن أن نحقق النهوض عبر طريق أقصر وأقرب من طريق الإنتاج الزراعي والنهضة الزراعية وحدها أو على الأقل كخيار أساسي لاقتصادنا .. لقد تراجعت ثقتنا في تحقيق النهضة بالإنتاج وتسبب هذا التراجع في تبديلنا لثقافتنا من الثقافة الإنتاجية إلى الثقافة الاستهلاكية . ظننا أننا دولة نفطية.. أو توهمنا ذلك فحدث الخلل الكبير..! كم كان إنتاج النفط السوداني الذي ضيعنا وقتاً طويلاً في البحث عنه قبل الانفصال.. أقل من 600 ألف برميل في اليوم.. ذهبت منه نسبة 85 % لدولة الجنوب . وبحسابات عدد السكان ومتطلبات النهضة مع انخفاض أسعار النفط فإن ما يقارب نصف الكمية التي كان ينتجها السودان موحداً، تنتجها الآن أقل الدول الخليجية إنتاجاً للنفط ولا يزيد عدد مواطنيها عن 600 ألف مواطن ولكنهم برغم ذلك لا يعتمدون كلياً على نفطهم هذا بوضعه الحالي وبنسبة إنتاجه التي يعتبرون أنها لا تكفي لتلبية شروط الحياة لهذا العدد القليل من السكان بحسب تصوراتهم.. ويفتحون الأبواب على مصراعيها للتفكير في خيارات أخرى لاقتصادهم وينجحون في ذلك . لكننا وفي ظل تعطل تفكيرنا وتيبسه عند أحلام دولة السودان النفطية نتخلى عن خيارنا الاقتصادي والإنتاجي الذي يناسبنا ونظل نلهث خلف تحقيق حلم الدول النفطية ..! ففي الوقت الذي تهتم الحكومة بالاستفادة من تعاونها مع الصين في زيادة إنتاج البترول في السودان تجد الصين نفسها تفكر بشكل مختلف وتطلب من السودان منحها فرصا أكبر للإنتاج الزراعي في السودان ..! هي تفكر لنا ولنفسها بواقعية أكثر، لأنها تعرف جيداً قيمة ما نملك من فرص لتحقيق طفرة اقتصادية مثل الطفرة التي حققتها ماليزيا عن طريق الزراعة .. فقط الزراعة كانت هي الأساس للنهضة الهائلة التي حققتها ماليزيا.. الزراعة وتحديداً زراعة نخيل الزيت بدلت حال ماليزيا وشكلت في مرحلة من المراحل أساس مشروع الدولة الماليزية لمكافحة الفقر وتحقيق النهضة والذي بدأ بزراعة مليون شجرة نخيل لإنتاج زيت النخيل وصارت الآن ملايين الهكتارات مزروعة بنخيل الزيت لثاني دول العالم إنتاجاً لزيت النخيل.. لم تكن ماليزيا تملك المال الكافي لتنفيذ هذه النهضة الزراعية فاقترضت من الكويت ومن البنك الدولي المبلغ الذي وظفته فقط في تنفيذ استراتيجيتها الزراعية ثم انطلقت وتحولت غابات ماليزيا إلى حقول إنتاجية ضخمة وانخرط الشعب في الزراعة بتشجيع من الحكومة بشراء المنتج وتوفير القروض والضمانات المطلوبة . نحن في الواقع نحتاج لأقل من الجهد الذي كانت تحتاجه دولة مثل ماليزيا لتخرج نفسها وتخرج شعبها من عنق زجاجة الفقر . لا نحتاج لشركاء يزرعون لنا أرضنا ويأخذون نصف الإنتاج أو ثلثيه.. لا نحتاج لعبقرية كبيرة.. لكننا نحتاج لاستراتيجية اقتصادية واضحة ونحتاج لأن ننسى قليلاً حلم اليقظة الذي نحن فيه هذا.. حلم دولة السودان النفطية بأن لا نبدد وقتنا وجهدنا في طريق تحقيقه وأمامنا الطريق الأقرب والأقصر . شوكة كرامة لا تنازل عن حلايب وشلاتين اليوم التالي