رحلة طويلة شيقة مليئة بالعلم والمعرفة وارتياد الآفاق الجديدة، قطعها الراحل المقيم البروفيسور أحمد إبراهيم عبد العال حامد منذ صرخة الميلاد في كسلا صباح الرابع من يوليو 1946 إلى حين موارة الجسد الطاهر ثرى مقابر بري صباح الخميس 23 أكتوبر 2008م. 62 عاما وثلاثة أشهر و19 يوما قضاها أحمد واثق الخطوة يمشي مثل عباد الرحمن الذين يسيرون في الأرض هونا مثقفا ومثقفا في حياته الفنية والعلمية والثقافية. مدينتان وريفتان كانت صرخة الميلاد في كسلا تلك المدينة الوديعة الوريفة الشاربة من (الطيبة ديمة)، إذ جاء ميلاده في مدينة ذات طبيعة مكانية تهب لسكانها ميزة حب الجمال، وذات ميزة زمانية تستمد عبقها من نفح صوفي يخلفه مقام العارف بالله (سيدي الحسن أب جلابية، رضي الله عنه ونفعنا بجاهه). والعبارة الأخيرة أوصى بها البروفيسور عبد الله الطيب عليه رحمة الله وله فيها خبر وقصة تجدونها في كتابه (من نافذة القطار). في تلك الأجواء الذاخرة بالإيمان والجمال، نشأ الراحل أحمد عبد العال، وكان جميلا في حياته منمقا يختار من الكلام ما يدهش، ومن الفن ما يثير الخيال. المدينة الثانية في حياة أحمد عبد العال كانت مدينة النور والجمال باريس، حيث قضى ردحا من عمره العلمي، لكي يحوز على شهادتي الماجستير والدكتوراه في مواضيع ذات صلة بالجمال. أوان تفكيك هذا أوان تفكيك الصورة، تلك عبارة تنطبق على مساهمة الراحل الإبداعية في جميع القضايا التي أثارها في مجال الفن التشكيلي وفي مجال الفكر الجمالي عموما. وتدل أعمال الراحل كما جاء في إحدى مقدماته على تفرد صاف يشبه في منطق الجماليات عيونا ملؤها مزيج من الحب والفرح، فلا نرى شمسا ولا سحابا، ولكن مولودا فريدا نؤخذ له. نؤخذ له دونما عناء، يمتعنا فيتغنى البسطاء. أنت يا صباح الضياء، نحن في الصباح الجديد مواثيق وحداء، نمشي على الشمس فلسنا بعدها غرباء. ولم تقف إسهامه عند الفن المجرد، بل أعد مذكرة موضوعية عن مجريات أمور تصميم العملة الورقية الوطنية. وتسأل لماذا ظلت هذه العملة الوطنية في انحدار وفقر جمالي وثقافي متصل منذ أكثر من عقدين من الزمان. ويخلص إلى أن العملة الوطنية الورقية لدى كل شعوب العالم، بمثل ما هي سند مالي هي سند ثقافي سيادي يحمل عزة الشعب ثقافة وذوقا وأشواقا للمكان الرفيع. مدرسة الواحد على أن ذروة سنام إبداع الراحل المقيم يتمظهر في الرؤية والتجربة مدرسة الواحد التي دخلت في نسيج الثقافة العالمية، مثلما دخلت أعماله التشكيلية وبحوثه الجمالية من قبل. ومدرسة الواحد، جاءت تتويجا لدراسة الراحل الأكاديمية للفن الإسلامي، وإنجاز رسالته للدكتوراه في جماليات الحضارة الإسلامية بوصفها حضارة توحيدية كونية، قام بالدعوة لتأسيس جمالي جديد يستفيد من الإمكانيات الجمالية والفكرية للحضارة الإسلامية وتجربتها التاريخية التي امتدت عبر بيئات طبيعية وأمزجة قومية مختلفة مفضية إلى ضمير جمالي منسجم. وقادت سنوات النشأة الأولى بعبقها الصوفي الراحل إلى تكملة مراسيم مشيخته شيخا على الطريقة القادرية في 27 رجب 1423 ه بالمركز الروحي للسادة الصادقاب بجبال الفاو (البنية الصادقاب). حصاد القول إن الراحل المقيم على مكانة محترمة في عالم الفن والتشكيل داخل وخارج في السودان. وساعده نهجه الصوفي في التسامي على نوازع الضعف البشري، بل مكنه من أن يستعصم بالعفة حين سهولة المغنم الرخيص. نسأل الله له الرحمة والمغفرة. ديوان الفنون حول الراحل أحمد عبد العال صالون منزله إلى صالة عرض خاصة ودائمة لأعماله الفنية في التلوين والحفر والنحت. واختار لهذه الصالة اسم ديوان الفنون انسجاما مع موقع الديوان في الحياة السودانية الاجتماعية، حيث يجتمع تحت سقفه أهل الدار وضيوفهم، تعارفا ومؤانسة، أو تفاكرا وتخطيطا لأمر من الأمور. وهكذا أصبح ديوان الفنون صالة عرض لأعمال الراحل المقيم، وتجربته الجمالية الممتدة من 1963م. أما مجمل رؤيته وأفكاره وكتاباته فقد كان يقول عنها (يتيح هذا الديوان مجالا حميما ورحبا لتأمل أعمالي وتعدد مراحل تجربتي في الفن التشكيلي مع كتاباتي من بحوث علمية وتأملات، بجانب ما تثيره هذه الأعمال الفنية والأعمال الكتابية من نقاش واستيضاحات حول الرؤية أو التكنيك ومجمل متعلقات علم الجمال). ويتيح ديوان الفنون للزوار ومحبي اقتناء الأعمال الفنية سانحة طيبة لاقتناء أعمال الراحل الفنية بصورة مباشرة دون وسطاء. وكان الراحل المقيم يأمل من ديوان الفنون بهذه المواصفات التي ذكرناها آمل أن يوفر نافذة عريضة يطل عبرها متذوقو الفنون في العالم قاطبة وأصحاب المشاريع العملية ذات الصلة بمجالات التشكيل، على تجربة ومساهمة الراحل المقيم والمستندة على خلفيته الحضارية العربية الإسلامية الأفريقية. كتاب أمشاج أمشاج نمط جديد من الكتابة تحتشد في كتاب من 49 واقعة من الحضرة الخيالية و66 رسما من أعمال المؤلف. إن شئت الدقة فقل هي العودة إلى مستقر صورهم الثابتة، حيث خرج هؤلاء الرجال والنساء، في مختلف هيئاتهم وأعمارهم، في أردانهم الجديدة والبالية. وتراهم في أمشاج ينسلون بتلطف في جنح الليل حينا، أو تحت أضواء الفجر الأولي حينا آخر، وحينا ثالثا تحت البروق المتلاحقة في برية لم تطأها قدم من قبل. شئونهم متجددة في كل وقت، ينطلقون فرادي أو جماعات ويتمهلون عند كل منعطف. نعم، هم ذات الخارجين من صدمات عنيفة خلفت ما خلفت من جراحات عميقة. رجال ونساء نبيلة أرواحهم، لكنها حبيسة خلف هذه الأجساد الدامية. عيونهم يطوف عليها الشر وأيديهم تمسك بأعنَة بلا خيول! ومنهم من تعاظمت صورته حتى لتكاد تلامس إطار الصورة ومع ذلك يظل وحيدا، بالرغم من تواشجه مع كل كيان وجرم صغير أو كبير في عالم الصورة. أحيانا يبدون كأنما هم من أبناء عصور مضت وانمحت معالمها. حقائقهم مزدوجة وزمانهم ليس زمانا فردا، لكن أكثرهم من ساكني مدن عالمنا هذا. يتعرفون إلى بعضهم في إيماء عجلي، أو بكلمة سر مضنون بها علي غير أهلها. تري بينهم سلاطين وأمراء وحكماء وفنانين، ومتصوفة يعبرون سراعا إذ تموج غياهب صدورهم بالكلام الخطير وقلائد سيوفهم غير المرئية تطل بغتة من بين طيات أردانهم العجيبة. أسئلتهم في منتهى العذوبة واللطف، لكن سرعان ما يختفون ولا ينتظرون إجابة! ونساء في جمال مجيد تترأي صورهن على غير موعد، وتنفسخ لهن ردهات اللون والظل والخط، حيث تظهر دروب وتختفي دروب في أمان الخضرة الداكنة. نعم ، تحت ظلال الحروف بلغ كل رجل أشده وبلغت كل امرأة أشدها والكل قد عرف موقع نشأته الأولى وموقع زواله في أرض ما بعد الحرف العربي. هنا يتيسر لكل كيان اختيار اللون والحجم والوشائج مع الآخرين في فضاء الصورة المستقل. وقد يتراءي لك في جزوع الرجال والنساء طلع نضيد وهم يخوضون نهر الرجاءات الطويلة. نعم، هذه وجوه من ظلوا يوقدون قناديل حبهم لعقود وعقود في مصر الفاطمية. وذاك طيف من ظل واقفا لقرون على شرفة في أشبيلة، يراني بعين خياله ولا يزود عني الضربات أناديه بين اليأس والرجاء وأزود عن نفسي بترديد أسمه القديم. لقد أنحلت عرى الصور، وها أنا أسأله إلحافا في أصائل السلطنة الزرقاء، لكنه منشغل عني برمانة الوجد القديم، بغمسها الفينة بعد الفينة في ملتقي المائين بالخرطوم. هو الفرح الغامر الذي تتخلق عبر دفقاته كل العطايا وكائنات الجمال في المجال التصويري، إنه صراط الجمال. وبعد هذا ففي كتاب أمشاج، تلتقي العلامة بالصورة في مستويات متعددة ومن ثم لا تكون إلا هذه الاستجابة لفضاءات التصوير لما بعد الحرف العربي، حيث الصدى ورجع الصدى، حيث مهد الصورة البكرة والعلامة المفردة في آن واحد. بعد كل ميلاد لحرف تتخلق صورة في مجال حيوي ، فيقع هذا الالتحام التوحيدي علي معيار وقدرة في الخط واللون والتصميم وفي التماهي الولود الذي يستظل بالمنطق التصويري في هذه الأعمال. [email protected]