زرت لبنان بعد الحروب الدامية المدمرة وكان ذلك في 1994 بعد تخرجي من الجامعة بعامين فقط بحكم عملي في ذلك الزمان مع أحد أصحاب دور النشر في المملكة فهو مستثمر لبناني في السعودية... فعرفت المتعة والجمال والطرب والجبال والغابات في عنفوان شبابي ... لقد كانت أجمل بلاد العرب البلاد صغيرة والناس في غاية الأدب والذوق والنظافة والأناقة لا أحد يعرف عدد المطاعم الصغيرة والكازينوهات والصالات في لبنان وعلى الرغم من أنها صغيرة فهي جميلة أنيقة أما الخدمات التي يقدمونها لصاحب الجلالة السائح لأن معظم الزوار في لبنان يعتبرون سواحا فيقدمون لهم خدمات فلا أول لها ولا آخر . اللبنانيون كلامهم حلو ومجاملون وفي غاية الذوق .. قد تختلف مع التاجر اللبناني أو المحامي أو الطبيب عندما تلتقي به وقد يناقشك ساعة على مائة ليرة ولكنه في الليل يدعوك إلى عشاء ينفق عليه ألف ليرة !!!! شئ عجيب كنت أتعجب من صاحبي هذا يختلف مع الناشرين على النسبة التي يستحقها المؤلف عن كتبه وتكون النسبة شئيا متواضعا . وتكون المناقشة طويلة ويكاد أن يأتي بأولاده بملابسهم الممزقة دليلا على أنه لا يكسب منك , أستمع لذلك بكل إندهاش وإستغراب وأنا آت بسجية أهل الجزيرة الطيبين عندما أنظر لملابسه وإلى سيارته وإلى مجوهرات زوجته وبناته ولكنه لا يكف عن الشكوى وعن البكاء!!! شئ عحيب فإذا دعاك اللبناني في بيته ليلا فأنت في قصر به خدم وحشم وإذا بالطعام فاخر وفي غاية السخاء وإذا هو إنسان آخر ألطف وأظرف وأكثر مجاملة وإذا بزوجته غاية الشياكة والأناقة فما معنى ذلك ؟ معناه أنه كتاجر لا بد أن يكون شاطرا ولا بد أن يغلبك فإذا ذهبت إلى بيته فأنت ضيف عليه ولك كل الإحترام ومن أجلك تهون الألوف وكل الأشياء . بعد الحرب الأهلية الأولى ولقد إبتلى الله هذا البلد الجميل الصغير بالحروب والتي أصبحت ترقم بالأرقام لكثرتها ففي الحرب الأهلية الأولى هاجر الكثير من اللبنانيين نسبة للدمار والخراب الذي حل بها وهجرة اللبنانيين للعمل بنجاح وبراعة في أماكن كثيرة من الدنيا وفي نفس الوقت لديهم جميعا الإستعداد للعودة إلى بلادهم وحتى لأطفالهم يغرزون فيهم هذه الروح الوطنية وحب الوطن ويتحدثون أمامهم بكل خير عن وطنهم من غير هلع أو تخويف ورغم نجاحهم العظيم في كل مشاريعهم في القارات الخمسة .. اللبناني ناجح في كل شئ هذا الإنطباع العام ... والمثال للبناني الناجح الوطني الذي عاد إلى وطنه رغم النجاحات والمكانة الإجتماعية والأسرية التي حظي بها في المملكة هو رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري فكان موظفا عاديا في السعودية إلى أن وصل لإنشاء أكبر شركة مقاولات في الشرق الأوسط إسمها ( سعودي أوجيه ) ومنح الجنسية السعودية ولكنه عاد إلى لبنان وبنى لبنان وأول شئ فكر فيه هو التعليم لكي ينهض بوطنه ولكي يقلل من العداوات فلابد من التعليم حتى لخصومه السياسين لعلمه ونظرته الثاقبة لأنه الأفضل أن يعاديك ويخالفك في الرأي متعلم أفضل من يكون خصمك جاهلا فقدم منح دراسية للبنانيين من حسابه الخاص في الداخل والخارج كأمريكا وفرنسا ولندن وألمانيا وإلى الكثير من الدول وبدون أي تمييز طائفي أو إثني برغم من كثرة الطوائف في لبنان حتى تجاوز العدد الآلاف من الدارسين وعندما ينتهي المبتعث من دراسته يأتي إليه خطاب عليه تفاصيل التكلفة الكلية لدراسته إن كان بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراة وفي ختام الخطاب جملة عظيمة جدا يقال لك : ( لا أريد منكم تعويضا لهذه التكلفة بل أذهبوا إلى لبنان لتبنوها ) .. لذلك عندما أستشهد رفيق الحريري بكاه كل اللبنانيون بكل طوائفهم وكانوا يبكونه بالأستاذ أو المعلم .. فبكى الرجال قبل النساء فبكين ونوحن ولطمن الخدود لفقدانهن هذا الرجل العظيم وكان بكاءا بحرقة قلب وفعلا كان أمر عظيم جلل على كل لبنان ... فأين رأس المالية الوطنية السودانية أن كانت تسمي نفسها بذلك من معلم لبنان وأستاذها رفيق الحريري ؟؟ فهل الوطنية بالشعر والغناء والتلحين ؟ أم بالتسابق للشعراء والشاعرات ؟ أم للفنانات والفنانيين ولاعبين الكورة ؟ وبناء الأندية الرياضية وشراء اللاعبين والتصوير مع الصحفيين والصحفيات ؟ لم نقل أتركوا هذا أو ذاك وكأنكم ستموتون غدا ولكن الوطن في مرحلة خطيرة فهنالك أولويات فالمسألة حياة أو موت للوطن لو كنتم فعلا تحبون عمل الخير للوطن أنظروا للأولويات وإلا لا خير فيكم ولا في أموالكم !!! ..الخيار الآخر نرجوكم يا أغنياء ورجال أعمال السودان كفى ما جمعتم من مال السحت وكفى لكروشكم التي لا تشبع ولا تمتلئ والتي تقول هل من مزيد نرجوكم أن لا تعبثوا بحياة المواطن الفقير الغلبان الذي جهلتوه وأفقرتوه فلا تمرضوه بجلب المبيدات الضارة والمواد الغذائية الفاسدة المسبب للأمراض الضرب على الميت حرام . شتان بين المعلم الأستاذ رفيق الحريري اللبناني الوطني وهؤلاء الطفيليين التجار السودانيين .. ففي 1994 العام الذي زرت فيه لبنان لم تتعاف تماما من غزو إسرائيل الذي بدأ في 1982 لمحاربتها منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بسبب محاولة إغتيال سفير إسرائيل بلندن والذي إتهمت فيه إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية تهمة فقط وبسببه غزت إسرائيل لبنان لمطاردة المنظمة .... المهم انتهت هذه الحرب الظالمة بشكلها المعترف به في عام 1985 إلا أن آثارها ومخلفاتها لم تنته حتى أبريل من عام 2000 عندما انسحب الجيش الإسرائيلي وأعوانه إلى جنوبلبنان .. فرغم الدمار كل محلات في بيروت تعمل , وكل دور السينما وكل الكازينوهات , وترى الوجوه الضاحكة والصحة والعافية كيف ؟ إنه المواطن اللبناني فيه طبيعة الجبال وأشجار الأرز , الصلابة والحيوية والشموخ . فلم يتركوا مدنهم وقراهم ليقيموا في مخيمات اللجوء وينتظروا منظمات الإغاثة بالدقيق والزيت ولم يتركوا الزراعة والصناعة وكانوا على بعد أمتار من الجنود الإسرائيلين يحصدون زرعهم وينظفون أرضهم للزراعة لتحضيرها لعام جديد بأمل جديد ليوم أجمل... هكذا هو شعب منطقة الشام سورياولبنان لا للكسل ولا للتقاعس ولا للإتكالية ... وفي أي مكان تجد التاجر اللبناني ناجحا مثلا تجد المطاعم اللبنانية في كل العواصم العالمية تقريبا.. فأينما ذهبت في أرض الله الواسعة لا تحتار كثيرا أسأل عن المطعم البناني أقرب شخص يدلك عليه هذا ما درجت عليه أنا في كل رحلاتي وهذا دليل على نجاح اللبناني . في أوروبا إنهم أوربيون وفي أفريقيا إنهم أفريقيون وفي نفس الوقت لبنانيون مائة في المائة فالمطاعم نظيفة أنيقة والطعام وطني والموسيقى والزبائن كلهم لبنانيون وأجانب وخاصة العرب وصاحبي هذا قال لي عمري لم أذهب إلى مطعم غير لبناني رغم إنه مقتدر جدا وقال لم أدع أي شخص في مطعم غير لبناني وهو فخور بذلك وأنت راضي في النهاية .... لم يمضي وقت طويل من حرب تموز (حسب التسمية الشائعة في لبنان) أو حرب لبنان الثانية (حسب التسمية الإسرائيلية) والذي يسمى في بعض وسائل الإعلام العربية "الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006" وشهدت لبنان دمارا واسعا وكانت إسرائيل تستخدم سياسة الأرض المحروقة وحرقت كل شئ ولم يبق شئ ولكن لقد إستعادت لبنان جمالها وأبهتها وفخامتها فالذين عادوا من لبنان أخيرا نسبة لعدم زيارتي لها قريبا يقولون إن لبنان قد عاد إلى سابق جماله رغم التوجس والخوف من الحرب السورية التي أطلت برأسها على لبنان . السؤال الذي يحيرني ويحير الكثيرين من أمثالي لبنان دولة فقيرة تقدم خدمات جليلة للزائر وللمواطن وبكل الذي ذكرته سابقا والحياة فيها سهلة جدا فليست لها موارد طبيعية مقارنة بالسودان وإنما مصادر خيراتها كلها الإنسان صاحب الفندق الذي يقدم لك الراحة والمتعة والجمال في أجمل صورة وصاحب التاكسي الذي يتعامل معك بلطف وحسن ضيافة ... وصاحب المطعم الذي يقدم لك الطعام في أبهى صورة ونظافة ...والمغترب الذي همه الأول والأخير بلده وهم كثر وتحويلاتهم وإستثماراتهم ضخمة وهي من أكتر البلدان إعتمادا على تحويل المغتربين فلم يخذل المغتربين شعبهم ووطنهم لماذا ؟ لأنهم محترمون في وطنهم لذلك أنهم وطنيون للنخاع .. وبالرغم من هذا العدد الضخم من المغتربيين اللبنانيين في القارات الخمسة لا يوجد لديهم جهاز شؤون المغتربين بالخارج به جيش جرار من الموظفين مهمته الأولى إستنزاف المغترب وليس لديه أي مهام أخرى .. بل للمغتربيين اللبنانيين قسم تابع لوزارة الخارجية والمغتربين ... فأين نحن من هذا ؟ [email protected]