يقف رجل راسماً على وجهه علامات المكر والغش والنصب والاحتيال، ليجسد ما هو قائم من نهب وسلب وانتهازية معلنة. يقف إلى جانبه رجل شرطة حاد الطبع، قاسي الملامح وعنيف، ليجسد ما هو قائم من ظلم وقهر وعسف وتعدٍ وتسلط. يشير المحتال لأول سائق ركشة..مخاطبا الشرطي: هذا السائق الذي أعطيته خمسين جنيهاً ليأخذ منها خمس جنيهات مقابل المشوار، لكنه هرب بالباقي.. وتبدأ الاحتجاجات...ثلاثة من سائقي الركشات أقدموا على إخراج (خمس وأربعون جنيهاً) من شقائهم اليومي ...دون أن يتوقفوا عن الاحتجاج بأنهم لم يرووا هذا الشخص من قبل، وإن هو إلا محتال...لكن نظراً لحجج المحتال، المدعوم بسلطة العسكري وتهديده ووعيده...يقدم سائق الركشة على الدفع دون أن يتوقف عن المحاجة، قائلاً في نهاية يأسه: (دي ما قروشك ...لكني خليتك ل(الله) ...وبلقى حقي قدام...) واحداً فقط طالب بالذهاب إلى الشرطة (السجن)، لأن جيوبه (خاوية على عروشها)! مشهد يدعو إلى عميق التأمل، إذا نظرت إليه من جانب التسليم والاحتساب والصبر على الظلم، مثلما يدعو إلى الحيرة والقلق، لأنه يؤكد على العجز والاستكانة واليأس من مواجهة التسلط الغاشم؟ لكنه درساً قاسياً في كل الأحوال! والدروس القاسية تدعو للبكاء! هذه المشاهد قدمتها إحدى الفضائيات السودانية (لتضحك الناس)، قبل أن يتبين لسائق الركشة (المظلوم والمكسور)، أنه أمام الكاميرا الخفية. ولا يخفي على ذي نظر تكاثف وتكاثر القنوات التلفزيونية التي تتقن التقليد والمحاكاة، ولا تجيد الوثوب إلى طموح أو غاية، ولا تقدر على سبر غور الأشياء لإخراج أو معرفة مكنوناتها، وهي من أعلى وأنبل وأعظم قيم الفن والإبداع، والأصل الذي تقوم عليه. فبالإضافة إلى الموهبة، يحتاج الفن إلى ذكاء اجتماعي عميق وأفق ثقافي رحب، يعطي تفسيراً منطقياً وواقعياً للمشاعر الإنسانية ويسبغ عليها يقيناً وأملاً. لذلك لا تكون الأعمال (الإبداعية) معبرة وعميقة إلا إذا لمست حياة الناس وتعاطت وتفاعلت معها وفهمتها وأثرت فيها وتأثرت بها. ومفهوم الفن أو الإبداع أعمق مما يقدمه البعض من أعمال سطحية، هامشية وبسيطة مليئة بالعيوب والثقوب، حتى أعتقد كثيراً من الناس أن الفن عملاً هامشيا، لا يليق إلا بالفاشلين الذين عجزوا على أن يصبحوا أي شيء آخر، غير إلهاء الناس وإضحاكهم، ومثل هذا الاعتقاد -الذي يعززه إنتاج فني درامي تلفزيوني كثيف- يحول دون إدراك القيم التي يقوم عليها الفن. والأعمال الدرامية (السودانية) أو كثيراً من الإنتاج الفني يقوم على المحاكاة والتقمص والنقل الذي يناقض ويضاد الإبداع، ويضعف بالتالي القدرة على نقل ما لدينا إلى العالم الذي نأخذ كل ما لديه، من غير أن نشركه أو نقتسمه تعددنا وتنوعنا وثرائنا الذي منه هذه القيمة الإيمانية الغيبية، خليتك ل(الله)، (حقي قدام) وما أعظمه من حق عند مليك مقتدر. [email protected]