"ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لسان الرمل المبين (4)
نشر في الراكوبة يوم 04 - 12 - 2016

بعد رحيل الضابط الفرنسي، واجهت التوأم أقدارها بلا أملٍ، ولا قنوط. وقالت في نفسِها: "لو كانت أختي التوأم بقربي؛ لما حزنتُ كثيراً".. انقضت أكثر من أربعة أشهر، كان الضابط قد دفع إيجارها مقدماً، وعليها بعد نهاية الشهر الخامس أن تغادر الدار المستأجرة. حتى النقود التي تركها لها الضابط، كادت تنفد. فهل ستغادر الدار بلا نقودٍ، وهي على وشك الإنجاب؟
جنديٌ صغير السن، كان الضابط الفرنسي قد طلب منه مرةً،إصلاح بعض الأثاثات المنزلية، زارها بعد رحيل الضابط أكثر من مرة. كان يسألها عن أحوالها، وكيف تعيش وحيدةً. في المرة الأخيرة حين زارها قالت له: "سأغادر هذه الدار بعد أسبوعين".. وحين سألها إلى أين؟ صمتت فاختلس نظرةً إلى بطنها، وقال في نفسه: "أين تضع مولودها إذن؟".. تحت ظلال الحيرة، راودت كلاًّ منهما آمالٌ غامضة. ظلَّ الجندي الشاب يمروح جيئة وذهابا. قلقٌ عاصفٌ يصفع خطواته. في بؤرة التوتر، يحاول أن يتخذ قراراً..هل يودِّعها ويخرج، ويتركها تواجه مصيرها وحدها؟ أم يطلب منها أن تعيش معه؟ وهل تقبل؟ هل يريدها زوجةً؟ ستنجب مولوداً في القريب العاجل، فهل سيتبناه؟ وحين حاصرته الأسئلة، تذكَّر المرة الأولى التي رآها فيها. في ذلك النهار، دخل بيت الضابط الفرنسي لإصلاح بعض الأثاث. رآها فتوهج بصدره برق الحنين، ثم سرت تحت جلده ململة الشهوة، فنكَّس بصره وعاد لينجز عمله. فهل تمنَّى في لا وعيه أن تصبح رفيقته، وهو الآن يستجيب للرغبة الدفينة؟ أم لعلَّه يعطف عليها، لأنَّها بلا أهلٍ، ولا سند؟ وقد يتسلط عليها أحدهم، ويعيد بيعها في سوق الرقيق!
الجندي الشاب وُلِدَفي قصر أحد الأمراء لوالدين يعملان في خدمة أصحاب القصر. الأمُّ تغسل الملابس، والأبُيفلح حديقة القصر. وعندما كبر الابن ألحقه الأمير بالمدرسة. كان ذكياً، ماهر اليدين، أثنى عليه معلموه؛ لذلك ألحقوه بالقسم الفني في المدرسة الحربية. وكان الضابط الفرنسي أحد معلميه. وعندما تخرَّج، عمل فنياً في صيانة المدافع في جيش الخديوي.ظلَّ الجندي الشاب يمروح حول المكان، بينما التوأم حائرة، ورازحة بين مطرقة الخوف، وسندان الحياء. فهل تطلب منه صراحةً، أن يأخذها لتعيش معه؟ وهل يقبل؟ ولِم اختارته؟ هل لأنَّها لا تعرف غيره؟ وإذا تركها وذهب، فهل ستضطر لعرض نفسهاحتى يشتريها أحدهم؛ لتجد المأوى،ولقمة العيش لها ولطفلها القادم؟
حيرةٌ وأطيافٌ هاربةٌ.. بغتةً صرخت في نفسها: "أختاه".. رنَّتْ الصرخةُ بخاطرها، ثم تردَّد بوجدانها صدى صرخة التوأم الأخرى، وهي تناديها قبيل اختطافها.. ظلَّت التوأم غائرةً في صمتٍ موجعٍ، تُنْصِتُ لما قد يأتي من البعيد، بينما الجندي الشاب، ينظرُ إليها بمزيجٍ من الشفقةِ، والشهوةِ، والرجاء. حفرت هذه اللحظة عميقاً في وجدانه. وبعد أن تزوَّجها، لازمه إحساسٌ حامضٌ بأنَّها ما تزال تحنُّ إلى الضابط الفرنسي، وأنَّها إنَّما تعيش معه لأنَّها بلا خيار. وبعد أشهر من حياتهما المشتركة، انجبت التوأم ابناً سمَّاه زوجها: "صابر"..
صابر وأسرته عاشوا مرارة العزل الاجتماعي. كان لون بشرتهم، وشعرهم، يشير إلى أنَّهم انحدروا من سلالة الرقيق. كان صابر أسود البشرة، رغم عينيه الزرقاوين. وكان وسط أقرانه السود، مثار سخرية من بعضهم بسبب لون عينيه؛ لذلك آثر العزلة. تعلَّم السباحة وصيد السمك. في صباه، ناوشته أشواقٌ مبهمةٌ، فقرر أن يرحل ويغادر مصر إلى أعماق أفريقيا. وذات نهار سأل أمه قائلاً:
- هذه ليست بلادنا، أليس كذلك؟
أومأت الأم بالإيجاب ثم قالت:
- أهلنا وعشيرتنا يعيشون وسط الغابات.
- إذن فلنرحل لنعيش وسطهم.
- ولكننا لا نعرف الدروب. وحتى لو عرفناها فهي غير آمنة.
- هل ستلتهمنا الوحوش أو تخطفنا الغيلان؟
- لا يا ولدي، لكنَّ الدروب مليئة بالأشرار.
وحين طَلَبَ منه أبوه بالتبني، أن يلتحق بسلك الجندية قال له: "العسكرية هي عمل الرجال الشجعان".. وبعد سنتين من انضمام صابر إلى جيش الخديوي، ضمن الأورطة السودانية، صدرت إليهم الأوامر للاستعداد للرحيل عَبْر البحار؛ لمساندة الجيوش الفرنسية، التي تقاتل في المكسيك.. آلاف من الجنود الأفارقة، مخروا المحيط الأطلسي غرباً، كي يحاربوا لصالح فرنسا، ضد الوطنيين المكسيكيين. وعَبْرَ ذات المسار، وخلال قرونٍ مريرةٍ، التهمتْ أمواج المحيط الأطلسي، الملايين من الأفارقة، بعد اختطافهم من قراهم، ودروب غاباتهم، بعد اقتلاعهم من ميراثهم الروحي والنفسي. اصطادوهم من مهد البشرية، وحين قاوموا الاسترقاق، حصدتهم أدوات القهر، والتعذيب، والتنكيل. فالتهمت أجسادهم الأسماك، وترسَّب أنينهم، وبقايا دمائهم، في ثنايا الأصداف والمحار، غاص عميقاً إلى أغوار المياه. وما زال صدى صرخاتهم، وشهقاتهم الأخيرة، يهوِّم فوق أثير البحار. والذين عبروا المحيط، مصفدين في الأقبية النتنة، أسفل السفن، كابدوا الشقاء، والذُّلّ والهوان، لأجيالٍ وأجيال..
في الثامن من يناير عام 1863 أقلعت الباخرة نهر السين بفرقة مكونة من أربعة بلوكات، ضمَّت 453 من الضباط، وصف الضباط، والجنود، المنحدرين من أصولٍ سودانية، من الرقيق السابقين، الذين تم اختطافهم من أعماق الغابات، ثم ترحيلهم عَبْرَ درب الأربعين، ليباعوا في سوق القاهرة للرقيق، ثم أُلحِقوا بالجيش المصري.
كان نابليون الثالث قد سعى لدى خديوي مصر، لمدِّه بقواتٍ مصريةٍ منأصولٍ زنجية، للمشاركة في الحرب، التي اندلعت بين فرنسا والمكسيك عام 1861لأنَّ أراضي المكسيك، وبخاصة المناطق الحارة ومناخها، لا تتناسب مع الأوروبيين، الذين فتكت بهم الحمى الصفراء، والدوسنتاريا. وكان في اعتقادهم أنَّ الزنوج يتمتعون بحصانة طبيعية ضد تلك الأمراض؛ ولهذا جنَّدت فرنسا عساكر من مستعمراتها الأفريقية، لخوض غمار تلك الحرب.
أبحرت الفرقة السودانية من ميناء الإسكندرية إلى ميناء طولون الفرنسي، ثم انضمُّوا لبقية القوات القادمة من المستعمرات الفرنسية، واستقلوا باخرة أخرى،أبحرت بهم صوب المكسيك. عَبَرَتْ الباخرة مضيق جبل طارق إلى بحر الظلمات، وعلى متنها آلاف الجنود الأفارقة، كي يحاربوا لصالح فرنسا، ضد الوطنيين المكسيكيين في بلادهم!مخرت الباخرة أمواج المحيط الأطلسي صوب البحر الكاريبي. صابر كان ضمن الأورطة السودانية. كان منعزلاً عن زملائه، يفكِّر في مصيره بعد هذه الرحلة، ويقول في نفسه: "هل سأعود إلى أمي بعد الحرب، أم أنَّني سأموت في أتون حربٍ لا أعرف أسبابها، ولا يهمُّني مَن ينتصر فيها، ومَن ينهزم".. ظلَّ يحدِّقُ إلى أمواج المحيط، إلى الآفاق المفتوحة. يحدِّقُ ويسائلُ نفسه عن الظلم الذي يحاصر الإنسان. وعن احتقار بعض البشر لبعضهم الآخر. عن الكراهية والحقد، الذي يعتمل في النفوس، عن الضغينة التي تقود الخطوات، وتوجِّه النظرات. يحدِّقُ إلى المياه اللانهائية، ويفكِّر في أمه، وأسراب الحزن بعينيها؛ وقال في نفسه: "أمي تداري حزنها من أجلي".. ما تزال تجوس بدماغه كلماتُها لحظة الوداع حين قالت له: "أهلنا رجالٌ شجعان وأنتَ ابني الوحيد".. صمتتْ بغتةً فلمح أسراب الدموع في أغوار مقلتيها؛ فعانقها مودعاً، وطمأنها أنَّ غيبته لن تطول..
في يوم 23 فبراير عام 1863 وصلت الباخرة فيراكوز إلى المكسيك، بعد 47 يوماً من الإبحار، فَقَدَت خلالها سبعة من جنودها. قائد الأورطة السودانية، البكباشي جبر الله أفندي توفي في المكسيك بالحمى الصفراء. صابر حَزِنَ لموت قائدهم. وفي أتون الدماء، والرصاص، بدا له أنَّ ثمَّة خللاً ما في حياته. إنَّه يكره الظلم والدماء، لكنَّه الآن يحارب الآخرين في أرضهم. وقال في نفسه: "مَن منَّا على صواب؟".. ورغم الأسئلة العصية، إلا أنَّه أبلى مع زملائه السودانيين في المعارك. قاتلوا بشراسةٍ، وبسالة. وحين وصلتهم أخبارٌ عن هجومٍ كاسحٍ، سيشنه المكسيكيون،لاحتلال الموقع الذي يتحصنون فيه، تشاوروا فيما بينهم، وقرروا الصمود لمجابهة المهاجمين، وتعطيلهم، ريثما تصلهم الإمدادات..كانوا 26 جندياً من الأورطة السودانية. صابر شارك بالاستماع فقط، ثم وافق على الصمود. كان رأيهم جماعياً توافقياً: "سنقاتل حتى النهاية. قد نموت، ولكنَّنا لن ننسحب".. 26 جندياً من أصولٍ سودانية، تمترسوا خلف ثلاثة مدافع. كانوا لا يعلمون عدد المهاجمين، ولا عدتهم وعتادهم. لم يطمحوا في نصرٍ قريبٍ، أو بعيد، لكنَّهم آثروا الصمود بدل الانسحاب. وزَّعوا المدافع التي تجرَّها العجلات، على ثلاثة سواتر ترابية، تفصل بينها مئات الأمتار، وخلف كلّ ساترٍ تمترست مجموعة. صابر كان في الوسط مع ثمانية من زملائه. ومع خيوط الظلام الأولى، اشتعلت من فوقهم القذائف، وانهمر الرصاص. كانوا يعرفون أنَّ المعركة غير متكافئة فحاربوا بهمةٍ استثنائية؛ كأنَّما تقمَّصتهم قوةٌ مجهولة. واصلوا القتال حتى منتصف الليل، عندها نشطت رياحٌ عاتيةٌ. ظلَّت قطرات المطر تبعثرها تيارات الهواء المتلاطمة. ورغم الريح، وقصف الرعود، إلا أنَّ هدير القصف ظلَّ يدوي من حولهم، وتنهال عليهم القذائف. لكنَّ مدافعهم الثلاثة واصلت هديرها بلا توقٌّف. كان صابرومعه آخر، قرب المدفع يتبادلان تجهيز القذائف،وإطلاقها، بينما الآخرون على الجانبين، يواصلونإطلاق الرصاص من بنادقهم. وحين تبعثرت السحب، وسكنت الريح، اشتدَّ القصف، فاشتعلت النيران من خلفهم، ومن أمامهم، وبجانبهم. وبعد ساعاتٍ عصيبةٍ من التوقُّع، والتحديق المضني عبر الظلمات، وعلى ضوء رشقات البنادق، خفَّت قليلاً شراسة المواجهة. صابر خلف الساتر الأوسط واصل العمل بمفرده، بعدما تناثر زملاؤه الثمانية إلى أشلاءٍ، حينما سقطت فوقهم قذيفة مدفع، وكان صابر وقتها قد زحف لسحب مزيد من الذخائر. وسط أشلاء زملائه، واصل الزحف حتى التصق بالمدفع، وضع القذيفة ثم أطلقها. انهمك في تجهيز القذائف وإطلاقها. وقال في نفسه: "عندما تهدأ قليلاً شدَّة القصف،سأبدأ في جمع الأشلاء".. كان يعمل بقوةٍ لا يدري من أين أتته. وفي لحظةٍ ما، انتبه إلى أنَّ الساتر على يمينه صامت. لم يفكِّر طويلاً، زحف نحو الساتر على يمينه، ولمَّا وصله؛تعثَّر في الأشلاء المتناثرة، ثم سمع أنين أحد الزملاء. كان الأنين خافتاً وسط هدير القصف المتواصل، والنيران المتلاحقة. لا شعورياً زحف نحو المدفع الصامت، وضع القذيفة وأطلقها، بينما أنين الجريح قربه ينحر في وجدانه. واصل القصف بأعصابٍ خائرةٍ. وقال في نفسه: "إذا أوقفت القصف، سيزحف نحونا الأعداء، ونقع أسرى.. كم بقي من الزملاء خلف الساتر الثالث؟".. ظلَّ وحيداً يواصل الزحف بين الساترين الأوسط والأيمن، يضع القذائف ويطلقها..
ليلٌ فادحٌ وأعصابٌ خائرة. وحين همد أنين الجندي الجريح؛ أفاق صابر من أتون الحماس، وقال في نفسه: "لقد تركت زميلي يئن حتى الموت دون أن أساعده! ولكن هل كان بوسعي مساعدته؟ إنَّ مهمة إطلاق القذائف من المدفعين كانت واجبي المباشر".. خلخل وجدانه سؤالٌ مباغتٌ، حين دنا من زميله الذي فارق الحياة قبل دقائق، لكنَّ أنينه ما زال يهوِّم فوق المكان. وقف صابر كالمذهول.. هل أضاع لحظاتٍ ثمينةٍ، كان بإمكانه فيها أن يواسى الجريح،حين كابد النزعات الأخيرة؟ لقد نسي صابر في خضم المعركة، أين وُضِعَ صندوق الإسعافات. فهل كان بإمكانه أن يضمِّد جراح الزميل، وينقذ حياته، أم أنَّ جراحه كانت مميته؟ شعورٌ حامضٌ بالأسى، ورشقاتٌ حارقةٌ من الندم، ألهبت وجدانه الخائر، الحائر.
في جوف السَّحر توقف انهمار القذائف، إلا من رشقاتٍ متقطِّعة. صابر زحف ليتفقَّد زملاءه خلف الساتر الثالث. وجد اثنين منهم جريحين، بينما الآخرون يواصلون إطلاق القذائف، فعاد إلى الساتر الأوسط وواصل إطلاق النيران. وقال في نفسه: "عندما تشرق الشمس سيطوِّقنا المهاجمون ونقع أسري. مات سبعة عشر منَّا، وجرح اثنان، وبقينا نحن السبعة، وعلينا مواصلة القتال حتى النهاية".. بغتةً انتاشه صوت الجريح، الذي ظلَّ يئنُّ بقربه حتى فارق الحياة.حتى الفجر، صمد صابر مع ستة من زملائه أمام مئات المهاجمين. واصلوا إطلاق القذائف من ثلاثة مدافع،بينما الشمس تغمر أجسادهم المنهكة. كانت أعصابهم خائرة، وذخائرهم كادت تنفد.. وحين هوَّمت فوقهم غيوم اليأس، أمطرهم المهاجمون بوابلٍ كثيفٍ من النيران؛ فاستسلم بعضهم، أو كاد، لقدرٍ مجهول، لكنَّهم واصلوا إطلاق النيران، آملين أن يصلهم مددٌ من الجنود والعتاد.. فجأةً توقفت القذائف المنهمرة. صابر قال في نفسه: "ربَّما هي حيلة لأسرنا".. مرَّت اللحظات عصيبةً، ثم مرَّت الدقائق ثقيلة.. وبين الأمل والتوجُّس، مضت ساعةً كاملةً، بينما رفيف الاحتمال، يراود أعصابهم المشدودة. عند الضحى انسحب الجنود المهاجمون..
خاضت الأورطة السودانية اثنا عشر معركة. حاربوا لأربعة أعوامٍ و17 يوماً ضد الوطنيين المكسيكيين. وفي 12 مارس 1867 بدؤوا رحلة العودة. عادت الأورطة إلى مصر وعدد أفرادها 313 بعدما فقدت 140 فرداً في المعارك، وبسبب الأمراض الفتَّاكة، بينما تزوَّج عددٌ منهم وآثر البقاء في المكسيك. كان الصمود، والبسالة، في كلِّ المعارك التي خاضتها الأورطة السودانية، قد لفتت إليهم أنظار الزملاء، والقادة. وبعد الحرب، تمَّ استقبالهم في فرنسا، وأقيم على شرفهم مهرجان عسكري ضخم، حضره نابليون الثالث.
في المارسليز وقف صابر وسط زملائه من الأورطة السودانية، في ثيابٍ عسكريةٍ زاهية، بيد أنَّه كان ذاهلاً عن اللحظة وإيقاعاتها. وبينما النشوة تدغدغ مشاعر الضباط، والجنود، ظلَّ صابر يتململ في وقفته. وحين سرت قشعريرةٌ مباغتةٌ تحت جلده، توهَّجت بخياله تلك اللحظة الفادحة، حين واصل إطلاق القذائف، بينما زميله الجريح يئنُّ بقربه، وينازع الرمق الأخير. استغرقته اللحظة، وكأنَّه يسمع أنين الجريح، وكأنَّه يشهدُ انبلاج ذلك الفجر الصريح. وحين نُودِي باسمه ليتسلَّم وسام الشجاعة، لمع بخياله الشرار.. مرةً أخرى، توهَّجت بدماغه تلك اللحظة الفادحة، فذهل عن ما حوله، ومَن حوله، حتى لكزه جاره ليتقدمويتقلَّد الوسام. وفي طريقه إلى منصة التكريم، قال في نفسه: "لماذا يكرِّمون الأحياء، ويتجاهلون الموتى من الجنود؟"..في حضرة نابليون الثالث، تمت ترقيتهم، ومنحهم أوسمة الشرف الإمبراطوري. ولدى عودتهم إلى مصر، استقبلهم الخديويإسماعيل.
عاد صابر من أهوال الحرب بجراحٍ نفسيةٍ غائرة، وأسئلةٍ مبرحة. كانت أمه على قوس الانتظار، لم تصدق أنَّه عاد سالماً. لملم صابر جراحه، ثم تزوَّج من فتاةٍ سمراء، أنجبت له ولداً سمَّاه ماهر، وتمنَّى أن يصبح ابنه من طبقة الأفندية، وأن لا يقترب من الجندية.
ماهر تعلَّم لأربع سنوات. كان خطَّه جميلاً، فرغب والده في أن يلحقه ليعمل كاتباً في أحد قصور الأمراء، لكنَّه لم يوفَّق. التوأم كانت حينما تنظر إلى حفيدها ماهر، تتململ بوجدانها الألحان القديمة، لكنَّها سرعان ما تخمد. كأنَّ هنالك قوةً ما تكبحها، كي لا تغادر سراديب الذاكرة. فشلت كلُّ محاولاتها في أن تطلق الغناء، الذي انكتم بصدرها طويلاً، كأنَّها نسيت لغتها الأم! تنظر إلى حفيدها فتسري تحت جلدها قشعريرة الخوف،وتناوشها مشاعرٌ مبهمة. وقالت في نفسِها: "هل تترصده لعنةٌ ما؟ ولكن ما ذنبه؟".. أطيافٌ غامضةٌ تراود خيالها، فتنداح ذاكرتها إلى لحظات الاختطاف الفادحة. تنظر إلى حفيدها فتشفق عليه من مصيرٍ مجهول.
ماهر تسلل خلسةً إلى سوق القاهرة للرقيق. كان في الخامسة عشرة من عمره. قادهُ حبُّ الاستطلاع، ونداءٌ مبهمٌ يجوس بصدره. وبعد زيارته الأولى، قرَّر البحث عن عملٍ في سوق الرقيق. وحين وجد فرصةً،ليكتب عقود بيع وشراء الرقيق، تسلَّلت إلى أحلامه الحكايات، عن مغامرات الرَّحيل عَبْرَ درب الأربعين، عن المخاطر، والأهوال، التي تجتازها القوافل، حتى تصل إلى محطتها الأخيرة. انداحت أحلامه حول الأرباح الطائلة، التي تدرَّها تجارة الرقيق. وقِيل له: "إذا كنت شجاعاً، ومغامراً، فستجني أرباحاً كثيرة".. أصبح السفر عَبْرَ درب الأربعين هاجساً وأملاً لا بدَّ من تحقيقه. حلَّق بأجنحة الأحلام، وتخيَّل نفسه من الأثرياء، يسكن قصراً فسيحاً، ويمتلك الرقيق، والإماء. يأمر، وينهي، ويضاجع كلَّ ليلةٍ فتاةً جديدة. هاجس الرَّحيل، وأحلام الثراء، قادته ليترك عمله كاتباً، ويعمل حارساً لإحدى القوافل، التي ستمخر قريباً رمال الصحراء، في طريقها من إمبابة على أطراف القاهرة، إلى بئر السوينة، غير بعيدٍ عن الفاشر. وقال في نفسه: "إذا لم تصبح سيِّداً، فستصير عبداً. هكذا الحياة، يسود فيها أصحاب الإرادة القوية، والمغامرون".. كان إحساسه بلون بشرته يضايقه في أحيانٍ كثيرة. وعلى الرغم من أنَّه لم يكن أسود كأبيه وجَدّته، إلا أنَّه تمنَّى في قرارة نفسه لو أنَّه كان مسترسل الشعر. فهل كان إحساسه بالدونية، هو واحدٌ من الدوافع التي تشدُّه إلى الرَّحيل، ليصبح سيِّداً على غيره من البشر، علَّ ذلك يخفِّف قليلاً من جراجه النفسية، وإحساسه بقلة شأنه بين أقرانه في السوق، والتجار الأثرياء، الذين يتباهون بأنسابهم، وانتمائهم لدماءٍ متفوقة. وقال في نفسه: "هل خلق الله البشر سواسيةً ثم قسَّمتهم الأقدار، أم لعلَّهم خلقوا سادةً وعبيداً؟".. حاصرته الأسئلة، فاعتملت بصدره نداءات المغامرة، لمعت بخياله أحلام المجد، والثراء. وقال في نفسه: "سأرحل عَبْرَ درب الأربعين، لأصنع لنفسي مجداً أستحقه. التفكير وحده لا يُجْدِي. الرَّحيل مع القوافل هو طريق الخلاص"..
التوأم حاولت أن تثني حفيدها ماهر عن الرَّحيل مع قوافل درب الأربعين. وحين رفض كلامها، وسَخِرَ منها، اختلست نظرةً خاطفةً إلى عينيه الزرقاوين. بغتةً تلوَّجت بخيالها أشباحٌ هاربةٌ، وكأنَّها أبصرت حفيدها في ثيابٍ من حرير، يمشي على حافة هاويةٍ بلا قرار. فشلت محاولاتها، بينما أحاسيسها تنبئها بأنَّ حفيدها مقدمٌ على مغامرةٍ خاسرةٍ لا محالة. لازمها شعورٌ مريبٌ طوال النهار. وفي الليل، حين اندسَّت تحت أغطيتها، راودتها خواطرٌ غامضة، دون أن تتمكَّن من أن تفكَّ طلاسمها. تناوشها الخواطر، ثم تنسلُّ هاربةً، وتتركها في دوامة من الحيرةِ، والتوجسِ، وملل الانتظار. وحين نامت بعد أرقٍ مرير، حلمت بصوت البنادق المنهمر من كلِّ الاتجاهات، فاستيقظت، ثم نهضت من فراشها. دارت داخل حجرتها، وتحت جلدها ململة الخوف، وشعورٌ غامضٌ بكارثةٍ ما. عادت وجلست وسط فراشها، وضعت كفَّيها على خدَّيها، ثم حدَّقت إلى أفقٍ مريب. وقبل أن تندحر تماماً ظلمة السَّحَر،تبرعمت قواها الروحية، ثم اعتملت بوجدانها قوةٌ مبهمة. تحفَّزت حواسها، وحين شحذت قواها العقلية، انبهمت بصيرتها، وناوشتها قشعريرةٌ مباغتة. مرةً أخرى وضعت كفَّيها على خدَّيها، حدَّقت إلى فراغٍ موحشٍ، ثم قامت إلى النافذة. تطلّعَت عَبْرَها، ثم جرَّرت خطواتها إلى خارج الحجرة. تفرَّست في النجوم التي تزغرد في بهيم العتمة؛ وقالت في نفسِها: "كأنَّي أسمع وقع حوافر الخيول".. برقٌ عابرٌ لمع بخيالها فانتعشت روحها، دبَّت تحت جلدها قوةٌ متصاعدة.. تحفَّزتْ حواسها فأبصرتْ شراراً يلمع أمام عينيها. شفيفاً انداح أفق الاحتمال، ثم غشيتها الرؤى فادحة الحضور والاشتعال. وكأنَّها شهدت حريقاً مروعاً، يطوِّقُ قريةً وادعةً، في أحضان الغابات. وكأنَّها أبصرت شقيقتها التوأم الأخرى، وسط جموع الأطفال والشيوخ، يلفحهم الرعب، تسربلوا بالدموع، يئنون من هولالكارثة، صرعى يتخبطون في أتون النحيب. وكان أرجوانُ الشموسِ الجريحةِ، يخضِّبُ سحباً شفيفةً، على أفقِ الغروب..
عباس علي عبود
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.