بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لسان الرمل المبين(2)
نشر في الراكوبة يوم 18 - 11 - 2016

غادرت التوأم الأخرى الغابة وحيدةً، يصفعها الذهول. جرَّرت قدميها هائمة الخاطر والوجدان. وكلُّ من رآها على الدربِ، توجَّس من أمرٍ ما. وحين سألوها عن توأمها الجريحة، صمتت. واصلت سيرها كالنائمة حتى دخلت إلى الكوخ، فانفجرت في البكاءِ والنحيب، وتطايرت من حولها الاحتمالات.. قيل إنَّ التوأم الجريحة، ضاعت في الغابة، وربَّما نهشتها الوحوش. اجتمع بعض أفراد العشيرة حول الكوخ، وحاولت عدد من النساء، معرفة حقيقة ما حدث، لكنَّ التوأم الأخرى اعتصمت بصمتٍ موجعٍ فتركوها. وقال أحدهم: "لنصبر بعض الوقت؛ وسنعرف ما حدث".. اعترض آخر قائلاً: "ربَّما تكونُ التوأم الجريحة في حاجة لمساعدتنا".. وقال ثالثٌ: "ربَّما اختطفها القنَّاصة".. سرت الهمهمة؛ تنهَّدوا وقالت خواطرهم: "هل ساعدنا القدر بالتخلص من التوأم الجريحة؛ حتى لا تصيبنا لعنة الخراب، أم أنَّها ستعودُ بين لحظةٍ وأخرى؟".. وقالت فتاةٌ يانعةٌ: "لنذهب إلى الغابة، فما زال الوقت أصيلاً".. تداولوا اقتراح الفتاة، ثم انطلق عدد من الشباب، مدججين بالرماح إلى الغابة. ومع غروب الشمس، عادوا ومعهم إزارٌ من جلد الثعلب، قيل إنَّه كان يستر جسد التوأم الجريحة.. "إنَّهم القنَّاصة بلا جدال. اختطفوها فحاولت التملص منهم فعرُّوها".. "نعم، ليس هنالك احتمالٌ آخر. فلو نهشتها الوحوش، لوجدنا آثار الدماء على الإزار".. هكذا قالوا، بيد أنَّ التوأم الأخرى اعتصمت بالصمت. لثلاثة أيامٍ ومحاولات استنطاقها لم تتوقف، لكنَّها لم تكلِّم أحداً. رفضت الطعام واللبن، كانت فقط تشرب الماء. أشارت إحدى خالاتها بأنَّ التوأمتين تعرضتا لروحٍ شريرةٍ؛ سلبت روح التوأم الجريحة، وأخفت جثتها في مكانٍ مجهول. ثم سلبت عقل التوأم الأخرى. فلنذهب إلى الكجور ليعالج هذه البنت المنكوبة..
انداحت إيقاعات النقَّارة بين دروب الغابة، وشوشت أوراق الأشجار، وناغمت الطيور. وعلى الإيقاع، تحرَّكت الأجساد، واهتزت الرؤوس. حلقةٌ كثيفةٌ من النساء، والرجال، والأولاد، وسطها التوأم الأخرى، غائرةً في أودية الصمت. جميعهم في انتظار الكجور، ليعالج التوأم الأخرى، من صمتها الحارق، ونحيبها المكبوت. وليفكَّ طلاسم اختفاء التوأم الجريحة..
ذبحوا ديكين أسودين. الدماءُ التي سالت، والأعناق المذبوحة التي ترنَّحت، عصفت بخيال التوأم الأخرى، فارتدت إلى سراديب نفسها، باحثةً عن فكرةٍ تطلُّ بها عبر نوافذ البصيرة، حتى كادت تشمَّ الدماء. تحفَّزت طاقاتها الروحية، واستحصدت قواها العقلية، لكنَّها رأتْ غيوماً مبهمةً، وبحيراتٍ من سراب. بينما توأمها المخطوفة على ظهر حصان، تقاوم وتستنجد بها، وبأرواح الأسلاف..
هجمت التوأم المخطوفة على القنَّاص، عضَّت حلمة ثديه حتى قطعتها، فصرخ ورمى بها من على ظهر الحصان.. عاريةً تماماً أحاط بها رجالٌ على صهوات الخيول. نهضت التوأم المخطوفة جالسةً على التراب. وضعت رأسها على فخذيها، وشبكت كفيها على ساقيها المضمومتين. لكنَّ السياط، سرعان ما ألهبت جلدها.. ذرفت أنيناً خافتاً وتأوَّهت، ثم انهارت مستلقيةً على بطنها، بينما الدماءُ تسيل من ظهرها، وأردافها. وحينَ أفاقت من هول العذاب، أبصرت شجرةً بيضاء الساق؛ فهبت واقفةً. عاريةً تماماً، ركضت وسط الرجال إلى الساق البيضاء. بأسنانها نهشت قطعةً من اللحاء. اثنان من القنَّاصة وقفا بقربها، فأشارت إليهما أن يضعا اللحاء على جرح الرجل النازف، الذي قطعت حلمة ثديه. وحين تردَّد القنَّاصةُ أشار أحدهم أن يضعوا اللحاء أولاً على جراح الفتاة، ثم ينتظروا النتيجة، فربَّما يكون مسموماً. أخرج أحدهم سكيناً من غمدها، وقطع عدداً من شرائح اللحاء، ثم تقدم إلى التوأم العارية، فأشارت إليه أن ينزع الغشاء الرقيق، الذي يغطي باطن اللحاء. وحين أدرك إشاراتها، نزع الغشاء الشفاف من باطن اللحاء، ثم وضعه على جراح التوأم المستلقية على بطنها. وحين سرى مفعول اللحاء، استكانت التوأم الجريحة، ثم جمح خيالها تستنجد بأختها التوأم الأخرى؛ لكنَّ صوت أحد القنَّاصة، انتزعها من التهويم في أودية التمنِّي. وحين تأكَّد الرجال أنَّها بخير، وضعوا اللحاء على جرح الرجل النازف. وبعد دقائق معدودة، شعر بالراحة من الألم المبرح الذي كابده، لكنَّه ظل صامداً، حتى لا يبدو جباناً وسط رفاقة. وقال في نفسه: "لولا هذه الفتاة السوداء، العارية، ربَّما نزفت دمائي حتى الموت.. لقد أنقذت حياتي".. خلع الرجل ثوبه؛ وبالسكين قسمه إلى نصفين. غطى بأحدهما التوأم العارية. تحت الثوب شعرت التوأم الجريحة بقليل من الراحة؛ فحاولت الهرب من إحساس الذُّلّ والمهانة، الذي تسلَّل بين مسام جسدها الدامي. شحذت بعض قواها العقلية، وطاقاتها الروحية، ثم أرسلت بعض خواطرها لأختها التوأم الأخرى، التي التقطت إشاراتٍ متقطعةٍ، وصوراً غائمةً، وهي وسط حلقة الكجور، تتفرس في الوجوه، وتحاول أن تستنطق العيون الشاخصة نحوها. قرأت في بعضها الترقُّب، وفي أخرى الحقد، والتشفي. بعض العيون ظلَّت هامدةً، لكنَّ القلق، والظنون، والخوف من المجهول، أطلَّ من عيونٍ كثيرة..
دارت التوأم الأخرى حول الديكين الأسودين المذبوحين؛ فسرت قشعريرة التوجُّس بين المتحلِّقين في انتظار الكجور، الذي تأخَّر في القدوم. وبينما التوأم الأخرى تحدِّقُ إلى الريش الأسود، تسلَّل الخوف إلى قلوب الرجال، والنساء. فهل ستضربهم لعنة الخراب؟
حدَّقت التوأم الأخرى إلى الأفق، فأبصرت طائراً أسود الريش، يحلِّق عالياً في دوائر لولبية. بغتةً سمعت صوت أختها المخطوفة، تستنجد بها، وبأرواح الأسلاف. اختلج وجدان التوأم الأخرى، كأنَّها أبصرت الدماء التي سالت من ظهر توأمها العارية، وسط ثلة من الرجال.. صرخت التوأم الأخرى، وحين ساد الانتباه، واشتعل الترقُّب في العيون، قالت لهم: "أنْتُم السبب".. كانت نبرات صوتها جريحةً، لكنَّها جريئة. وحين حاصرت الحيرةُ المتحلقين، أضافت: "كراهيتكُم، وحقدكُم علينا، أضاع توأمي الحبيبة.. اختطفها القنَّاصة وساموها العذاب، وهي الآن".. انفجرت باكيةً تغالبُ الدموع والنشيج. ثم لاذت بصمتها العنيد.
تفرَّقت حلقة الكجور وتباينت الآراء. معظمهم صدَّق ما قالته التوأم الأخرى. رجلٌ عجوزٌ قال لأسرته: "صدقتها لأنَّ نبرات صوتها كانت متسقةً.. قد تَكْذِبُ الكلماتُ، لكنَّ النبرات الصادقة، لا تخطئها الأذن".. وقالت بعض النسوة: "كيف افترقت التوأم الأخرى عن أختها؛ فتمكَّن القنَّاصة من خطفها؟".. تذكروا عندما أصاب الحدَّاد إحداهما ونجت الأخرى. لكنَّ الأمر الذي شغلهم أكثر، هو دلالة اختطاف التوأم الجريحة. فهل ستنجو عشيرتهم من لعنة الخراب؟ وقالت امرأةٌ عجوز: "إذا عاشت كلتاهما؛ فاللعنة ستضربنا".. تهامسوا، وتغامزوا، لكن لا أحد صرَّح برأيه علناً. بعضهم أضمر الشر للتوأم الأخرى، وآخرون لاذوا بالحياد. وعندما تسرَّبت النوايا إلى العلن، وتداولتها الألسن؛ هبَّ الشباب لحماية التوأم الأخرى، وتقدم أحدهم للزواج منها، لكنَّها صدَّته برفقٍ، وقالت له: "أختي المخطوفة ما تزال كسيرة النفس".. وفي المرة الثانية، حين تقدم الشاب طالباً ودَّها، قالت له: "ألا تخشى من لعنة التوأم؟!".. فقال لها: "ما يهمُّني هو أن أكون بقربكِ لأدافع عنكِ".. صَمَتَ حتى يستشف وقع كلماته عليها، ثم أضاف: "خبريني صدقاً، هل أختك بخير؟".. "نعم صحتها طيبة، لكن نفسها جريحة".. وحين حلَّ ميقات الحصاد قال لها: "شاركيني في الحصاد لنقتسم المحصول"..
حصدوا زراعتهم، ثم توغَّلوا في أعماق الغابات. وفي بقعةٍ ظنوا أنَّها آمنة، وضعوا متاعهم القليل، ثم أسرع الفتيان لقطع الأغصان الشوكية. ثم جمعوا المعيز، والأغنام، في زريبةٍ كبيرةٍ حتى تألف المكان. في البداية أرادوا أن يسكنوا في أكواخٍ متناثرة، تبعد عن بعضها البعض مئات الأمتار، حتى تتمكن كل أسرة من الزراعة حول كوخها حسب عاداتهم. لكنَّ الكجور أشار عليهم أن يتجمعوا للسكن في مكانٍ واحد. وحين تساءلوا عن الزراعة حول الأكواخ، اتفقوا على تخصيص مساحة مشتركة، لا تبعد كثيراً عن مساكنهم، وتقسَّم بين الأسر، على أن يذهبوا لزراعتها جماعياً، حتى لايباغتهم القنَّاصة، ويخطفوا الفرادى منهم. كبيرهم أرسل إلى العشائر المجاورة، وعرض عليهم أن ينضموا إليهم، للسكن في قريةٍ كبيرة، تستطيع أن تصدَّ هجمات الغزاة. فتجمعت ثلاث عشائر في قريةٍ واحدة. وبعدما استقر بهم المقام، سيَّروا دورياتٍ من الشباب المدججين بالرماح، لمراقبة دروب الغابة؛ لرصد الغزاة ودحرهم. حمل بعضهم نقَّارةً صغيرةً لإرسال إيقاعاتٍ محددةٍ، تُنْبئ سكان القرية، بأنَّ القنَّاصة قادمون، فيتأهبوا للمقاومة. فهل أفلحوا في تأمين أنفسهم وعيالهم؟ وهل ستعود حياتهم وادعةً بسيطةً، مثلما عاش أسلافهم لقرونٍ في أحضان الغابات؟
لاحظ أحدهم غياب الأعور في بعض الأيام، وعند ظهوره يهجم القنَّاصة، ويخطفون طفلاً أو فتاة من أطراف الغابة المحيطة بالقرية. الشكوك طاردت الأعور، بعض الشباب بدؤوا رصد حركاته.. توزَّعت الاتهامات سراًّ، وقيل بل هي لعنة التوأم. شابٌّ نحيلٌ قال جهراً: "الأعور وراء أحداث الاختطاف".. وتساءل آخرون: "هل الأعور في تواصل مع وحوش الغابة، التي اِلْتَهمت فتاةً قبل أيام من زواجها؟".. وقيل للجميع: "تحركوا في جماعاتٍ، لأنَّ مَن يسير وحيداً خارج القرية، سيتعرض لغدر القنَّاصة، أو تلتهمه الوحوش".. حالة من الارتباكِ، والقلقِ، والخوفِ، خيَّمت على سكان القرية، بينما هجمات القنَّاصة تتزايد. فهل لاحت في الأفق نُذُرُ لعنة الخراب. سرى همسٌ بين قلةٍ منهم، عن ضرورة قتل التوأم، التي تعيش وسطهم، حتى يأمنوا على أرواحهم، من لعنةٍ لا بدَّ أنَّها ستضربهم، إذا ظلَّت كلتا البنتين على قيد الحياة..
التوأم الأخرى شيَّدت لنفسها كوخاً على أطراف القرية. عاشت وحيدةً، تنهشها نظرات الشك، والاتهامات الصامتة، التي تحمِّلها مسؤولية المصائب المتلاحقة، التي توالت عليهم، منذ أن أسسوا قريتهم هذه الصغيرة. بينما أطياف التوأم المخطوفة ما انفكَّت تناوشها، في اليقظة، وفي المنام. والشاب الذي تودَّد إليها كثيراً واصل تحليقه حولها. وقال لها: "لن أملَّ الانتظار".. كانت مشاعره نحوها واضحةً وصريحةً، يعرفها جميع الأهالي، صغيرهم، وكبيرهم. وحين أطلقوا عليه لقب: "العاشق".. لم يهتم لهذا الأمر كثيراً. وكان إذا خاطبه أحدهم بهذا اللقب، فإنَّه يستجيب في بساطة، لا يغضب، ولا يبتسم، كأنَّ هذا اللقب هو اسمه منذ الميلاد.. وفي إحدى زياراته إلى التوأم الأخرى قالت له: "الأعور يترصَّدُ خطواتي".. صمت العاشق وتململ بصدره الغضب، لكنَّه ابتسم قائلاً: "سيلقى جزاءه".. أضافت التوأم: "الأمر مجرد ظنون. أنا لا أملك دليلاً أدينه به. ولكنِّي أشعر بأنَّ خطواته تتبع خطواتي. أكثر من مرة، عندما أخرج من كوخى إلى الخلاء، أراه يمروح بعيداً. ولا أدري ربَّما الأمر مصادفة".. العاشق ضبط نبرات صوته، لتكون في غاية الصرامة وقال:
- كثيرون غيرك اتهموه بالعمل مع القناصة.. نحن نرصد حركاته، وسيقع بين أيدينا.
- إلا إذا كان بريئاً.
- لا أظنُّ إنَّه بريء.
- ولماذا تعتقد بأنَّه مذنب؟
- لأنَّ كثيرين قالوا ذلك.
- كثيرون يشيرون إليَّ صراحةً، بأنَّني سبب المصائب التى حلَّت بهم. فهل هم على حق؟!
- الأمر مختلف.
- كيف؟
- لأنَّ من يتهمك يفعل ذلك بلا دليلٍ أو برهان.
- وما دليلك، أو برهانك، على أنَّ الأعور يعمل مع القنَّاصة؟
- رصدنا اختفاءه عن القرية، ومع عودته يظهر القنَّاصة.
العاشق عمل وسط فريقٍ من الشباب، للتأكُّد بالبرهان القاطع، أنَّ الأعور يعمل لحساب القنَّاصة. لكي تتمَّ محاكمته وسط أهالي القرية. وكان أول ما رصده الشباب، هو العلاقة المريبة بين الأعور والحدَّاد. كانا يقضيان الساعات وحدهما. ومرةً شوهدا خارج القرية، فكمن اثنان في طريق عودتهما، لكن الحدَّاد عاد وحيداً إلى داره. غاب الأعور عن القرية لأيام. وفي اليوم السابع، قُرِعَتْ النقَّارة فهبَّ الرجال، والشباب، لمجابهة القنَّاصة، الذين لم يتمكنوا هذه المرة من اختطاف أيِّ فردٍ من القرية. لأنَّ امراةً عجوزاً، كانت تجمع حطب الوقود من الغابة، سمعت وقع حوافر الخيول، فأرسلت حفيدها ركضاً، كي ينقل الخبر إلى شباب القرية، الذين هبَّوا في الوقت المناسب، وكمنوا في أماكن أعدوها مسبقاً، واستطاعوا قتل واحد، وجرح ثلاثة من القنَّاصة، الذين ولُّوا هاربين. لكنَّ الأعور لم يَعُد إلى القرية. فهل عَلِمَ بأنَّهم يترصدون عودته لمحاكمته؟ واقترح بعضهم إجبار الحدَّاد على الاعتراف، لكنَّهم تريثوا، وتركوه إلى حين..
التوأم الأخرى كانت لا تطيق رؤية الحدَّاد، ولا أن تسمع عنه، لكنَّ إحداهنَّ أسرَّت إليها أن تسأل زوجة الحداد، عن علاقة زوجها بالأعور. امتنعت التوأم وقالت: "لا شأن لي بما يفعله الحدَّاد. إن كان الشباب يملكون ضده دليلاً؛ فليحاكموه وسط القرية".. ولم يمض وقتٌ طويلٌ حتى اختفى الحدَّاد من القرية. ولا أحد يعلم متى غادر، ولا إلى أين، حتى زوجته قالت إنَّها لا تعلم شيئاً عن اختفاء زوجها! لكنَّها أضافت، أنَّه ومنذ أن فقد القدرة على طرق الحديد؛ عاش مهموماً، حزيناً. وحين سئلت: "وهل يُضْمِرُ الشرَّ للتوأم؟".. قالت لهنَّ: "إنَّه لا يُضْمِرُ الشرَّ لأحد"..
بعد اختفاء الأعور، ثم الحدَّاد، تواترت غارات القنَّاصة، حتى إنَّ الأهالي أصبحوا في حالة استنفارٍ دائم. وكان المَحَلُ الذي ضربهم في العام الماضي، يخيِّم فوق أراضيهم اليابسة، فاضطروا إلى الخروج للصيد في جماعاتٍ، لتعويض النقص في الحبوب. وتصاعد اللغط العلني مرةً أخرى حول لعنة التوأم. وقيل صراحةً: "ليس أمامنا خيارٌ آخر. إمَّا أن نهلك جميعنا، أو نقتل التوأم التي تعيش بيننا، لأنَّ أختها المخطوفة، ما تزال على قيد الحياة. لا نعرف مكانها، لكنَّها حيَّة".. تجدَّدت خلافاتهم القديمة. فريقٌ يؤيد قتلها لينجو الجميع، والفريق الآخر يستنكر ذلك. أمَّا العاشق فقالها صراحةً: "أنا حاميها، وأمُّها وأبوها".. وأيده بعض أصدقائه من الشباب، وتعاهدوا أن يقاتلوا معه كلّ من يتربص شراًّ بالتوأم الأخرى، التي جابهت الموقف بالصبر.
استيقظت التوأم الأخرى ذات صباحٍ وصور الأحلام ما تزال عالقةً بذهنها. وكأنَّها سمعت صرخةً؛ فأطلقت في نفسها زغرودةً صادحةً. كانت قد رأت في منامها أختها التوأم المخطوفة، وسط بركةٍ واسعةٍ من المياه الصافية، وحولها عددٌ من النسوة. كانت التوأم المخطوفة، تكابد آلام المخاض؛ تئنُّ وصوتها الواهن يخبو رويدا.. من بؤرة الصمت، انطلقت صرخة الميلاد. وحين استيقظت التوأم الأخرى، كان رنين الصرخة يوشوش أذنيها. امتلأ صدرها بطاقاتٍ روحيةٍ عالية. شحذت بصيرتها، ثم سألت أختها البعيدة عبر الخاطر.
غادرت التوأم الأخرى كوخها على عجلٍ. وفي الطريق أرسلت صبياًّ إلى العاشق؛ كي يوافيها تحت ظلال شجرة وسط القرية. وحالما حضر قالت له: "أنجبت أختى التوأم مولوداً ذكراً".. وبعد أن هنأها سألها: "كيف عرفتِ؟!ومَن أخبركِ؟".. فأجابته في بساطةٍ: "حلمتُ بأختي التوأم، وفي الصباح، أرسلتُ إليها خواطري، فأخبرتني بما حدث".. أطرق العاشق لا يدري ما يقوله. هل يصدقها أم يقول لها إنَّها مجرد أحلام وأوهام؟ طال الصمت بينهما. امرأةٌ عابرة حيَّتهما فلم ينتبها لتحيتها. عصفوران تقافزا على الأغصان وغرَّدا، فعاد العاشقُ والتوأم مرةً أخرى إلى الانتباه، بعدما انداح كلٌّ منهما بخياله بعيداً عن اللحظة الحاضرة. وقالت له: "يمكنُّني الآن الزواج، فهل أنت على استعداد؟".. رغم الكلمات الصريحة فإنَّ العاشق لم يصدق ما سمعه. وحين نظر إلى عينيها، خيِّل إليه إنَّها مريضة، أو ربَّما تكون الأحلام قد خلخلت أفكارها..
- قلتُ لكَ يمكنني الآن أن أتزوج، فهل أنتَ على استعداد؟
- بالطبع.
ثم أضاف:
- ولكن متى؟
- متى؟ متى؟ الأمر بسيط. ندعو الأهالي إلى وليمةٍ صغيرةٍ، ونعلنُ زواجنا ثم تعيش معي في كوخي، هل لديكَ مانع؟
- لا..
- إذن متى؟
- سأخبر أهلي وأصدقائي لنعدَّ الوليمة، ونعلن الزواج.
وحين التقت عيونهما هرب كلٌّ منهما ببصره بعيداً. كأنَّهما أرادا الهروب من مصيرٍ محتوم. نصف أهالى القرية حضر وليمة الزواج، وقاطعها النصف الآخر، ثم عادت الحياة إلى رتابتها. التوأم الأخرى حاولت أن تعيش كبقية نساء القرية، لكنَّ الشكوك التي حاصرتها لسنواتٍ، ما تزال تنهش وجدانها. واستمر الغمز واللمز من حولها، بيد أنَّ فكرة قتلها اختفت، وربَّما إلى حين. ظلَّت تستنجد بأختها المخطوفة كلما اشتد عليها الكرب، وترسلُ عبر خواطرها، تحياتها إلى أختها البعيدة. وذات مساء سألت زوجها: "هل ستعود أختي المخطوفة؟ قلبي يحدِّثني إنَّنا لن نلتقي".. ويوم أنجبت التوأم الأخرى بنتين توأمتين، تزلزلت القرية حين انتقل الخبر بين أزقتها، ودروبها. كان الوقتُ ظهيرةً عندما تسلَّل الخبرُ بين دروب الغابة، إلى الفرقان المجاورة. وعند الأصيل، قُرِعَتْ النقَّارة فهبَّ الشبابُ إلى رماحهم؛ لمقارعة القنَّاصة. قُتِلَ الزوج العاشق وجُرِحَ آخرون، واختطف القنَّاصة طفلاً، كان وسط الأشجار الكثيفة، يحاول صيد العصافير..
قبسٌ من نارٍ، وشواظٌ من لعنة الخراب، وليس ثمَّة إياب.. هل حلَّت اللعنة بالقرية، أم أنَّها قادمةٌ لا محالة. التوأم الأخرى عاشت لأكثر من عام تكابد حصار العيون، وسهام الكلمات. وقالت في نفسها: "سأقاوم من أجل البنتين".. ولكن إحدى الطفلتين التوأمتين اختفت! فهل اختطفتها الوحوشُ، وليس ثمَّة دماءٌ، ولا أشلاء؟! كان ذلك نهارُ الفجيعةِ، والحزنِ، والمأساة. ظلَّت التوأم الأخرى، ومنذ الصباح، تدور حول طفلتيها التوأمتين، تتناوشها أفكارٌ غامضةٌ، وأطيافٌ من أحلام البارحة تتناسل بذاكرتها. وكأنَّها أبصرت أشباحاً تتوارى خلف سيقان الأشجار. وقالت في نفسِها: "هل القنَّاصة قادمون؟!".. ظلت الرؤى تبدو ثم تنبهم. شيءٌ ما يلوح في الأفق، وهي تجرِّر قدميها لجمع حطب الوقود. بغتةً اشتعلت أفكارها.. أرهفت حواسها بينما خواطر أختها التوأم المخطوفة تعبر الصحاري الشاسعة.. في بؤرة الانتباة، ظلَّت التوأم الأخرى تحاول أن تفكَّ شفرة الخواطر، التي تهوِّم حولها، بعدما قطعت المسافات فوق الرمال والجبال.. هوَّمت حولها الخواطر، وراودتها أفكارٌ عصيةٌ، فأبصرت بعين خيالها أشباحاً وغباراً. رأت رجالاً ينبشون التراب، ثم يتوارون خلف سيقان الأشجار. رأت طفلةً تغالب الشهيق، وسط دوامةٍ من غبار. وَلْوَلَ قلبها، واعتمل بصدرها نداءٌ حارقٌ، فركضت إلى طفلتيها.. وصلت إلى كوخها وهي على شفير الذهول.. خيِّل إليها أنَّها رأت أشباحاً هاربةً توارت عند أطراف الغابة. وحين انتبهت إلى بكاء طفلتها الرضيعة، وهي تحبو إليها، اندفعت إلى داخل الكوخ، بحثاً عن طفلتها الثانية، ثم خرجت وتلفَّتت حولها، وكأنَّما أصابها مسٌّ من الجنون. دارت حول الكوخ وهي تغمغم، وتجوس بعينيها حول المكان، ثم هرولت لعدة أشواطٍ، بين الكوخ وأطراف الغابة. ومن وسط دوامة الحيرة، والارتباك، حملت طفلتها الباكية، وهرولت نائحةً، صائحةً، بين دروب القرية، وأزقتها، تنادي طفلتها الضائعة. اِلْتَفَّ حولها بعض الأهالي، بينما انتشر آخرون حول القرية، وعند أطراف الغابة؛ بحثاً عن الطفلة المفقودة.
تناسلت الروايات عن سرِّ اختفاء التوأم الرضيعة. وحين صرح أحدهم بأنَّهم القنَّاصة، سخروا منه وقالوا إنَّ القنَّاصة لا يخطفون الرضَّع، يمكن أن يقتلوهم، أو يتركوهم طعاماً للوحوش! ولكن مَن خطف التوأم الرضيعة؟ الأمُّ قالت وسط رهط من النساء والرجال: "كانتا تحبوان أمام الكوخ، ولم أبتعد عنهما كثيراً. كنتُ أجمع حطب الوقود، فراودني خاطرٌ أتاني من بعيد، فركضت إليهما، ولكنِّي وجدت واحدةً فقط. كانت تبكي وتصرخ".. صمتت، بينما العيونُ من حولها، تتفرس في قسمات وجهها المتسربلة بالحزن، والأسى.. دارت بعينيها حول الواقفين وجوماً حولها. بغتةً تركَّز بصرها على أحدهم؛ قشعريرةٌ عاصفةٌ سرت تحت جلدها، واشتعل بصدرها الغبن. كظمت غيظها ثم أضافت: "ثلاثةٌ من رجال القرية خطفوا طفلتي الرضيعة! ثم دفنوها حيةً عند أطراف الغابة! لكن روح الأسلاف ستنتقم من القتلة، ومن الرجال، والنساء، الذين صمتوا وهم يعلمون!".. خوفٌ عاصفٌ داهم الصدور، ولاحت بخيالاتهم نُذُرُ الكارثة. فهل ستضربهم لعنةُ الخراب؟
□□□
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.