بجانب إفرازاتها السالبة التي تتجاسر على العد والإحصاء، فإن سجل الإنقاذ يحتشد بنقائص اجتماعية كبيرة، أبرزها صعود الكيانات المناطقية والقبلية على المسرح السياسي، بصورة مقززة، وبطريقة غير مبررة، لدرجة أن السجال والعراك الكلامي واللفظي بين القرى والقبائل أضحى ضمن أخبار الصدارة في الصحف. وظني أن ذلك أمراً معوجاً، يشبه هذا الوضع الطارئ الذي تعيشه البلاد، منذ الإجهاز على الديمقراطية الثالثة..! وهنا ربما يقول قائل، إن حديثي هذا فيه تزيُّد، وتطفيف سياسي، بحجة أن تلك الكيانات ليست كلها باطل. ولكن الناظر إلى صحف الخرطوم الصادرة أمس والصادرة اليوم، سيجد أنها احتشدت بأخبار قبلية ومناطقية، ما كانت ستكون حاضرة في المشهد، لو أن الأمور كانت في طبيعتها..! قناعتي، أن الكيانات المناطقية رجسٌ من عمل "الكيزان"، ولذلك هي مُدانة عندي، وإن عبرّت عن أوضاع أهل المنطقة، وإن استحالت إلى واجهة تمثلهم في دواوين الحكومة، وتقتلع حقوقهم منها. وكل ذلك انطلاقاً من اعتقادي الخاص بعدم جدوى المنابر المناطقية، ومن إيماني بضرورة أن ينصهر الناس في تنظيم أو ماعون حزبي قائم على مشروع سياسي أو فكرة أو برنامج، بدلاً من الرهان على كيان جهوي ومناطقي وقبلي..! المثير للأسى أن ظاهرة الكيانات الجهوية وصلت إلى مناطق، كنا نظن أنها تعافت مبكراً من جرثومة المناطقية، وتحصّنت في أزمنة باكرة من داء الجهوية. لذا كان وقوعها في الفخاخ القبلية المنبوذة والبراثن الجهوية المرفوضة، أمرًا مثيرًا وجالبًا للصدمة والحسرة معًا. الثابت، أننا ما كنا سنصل إلى هذا الدرك السحيق الذي تمددت فيه القبلية والمناطقية، داخل المشهد السياسي والمطلبي والاحتجاجي، لو أن اليد الباطشة غابت، ولو أن المساحة تُركت للأحزاب لتعمل بحرية.! ببساطة لأن تلك الأحزاب كفيلة باستيعاب كل المكونات الديمغرافية في وعاء واحد، دون مُمايزة بالقبيلة، ودون انتصار للجهة أو استنصار بالمنطقة. بل إن الحاكمية كانت ستكون للكسب الفكري والعطاء الحزبي. لكن ماذا نفعل مع قادة المؤتمر الوطني الذين يملكون القدرة على ضرب الثوابت – كلها - في مقتل، من أجل التشبث بكراسي السلطة، دون أن يطرف لهم جفن، ودون أن يلين لهم جانب، حتى في عز نزيف الدم، وحتى في ظل تنامي الضائقة المعيشية التي أوشكت أن تحيل السودان إلى معسكر للنازحين داخل الوطن..! بل ماذا نفعل مع من سمّموا الحياة السياسية، وأفرغوا الأحزاب من فاعليتها المجتمعية، ونزعوا عنها صفتها كمنظومة سياسية ومجتمعية جامعة..! المثير في أمر الكيانات المناطقية، أنها أصبحت ملاذًا يلجأ اليه الكثيرون لانتزاع حقوقهم، والمثير أكثر، أنها تجد المباركة من فاعلين داخل المؤتمر الوطني، وخاصة من لهم علائق مجتمعية وجهوية بها. مع أن الفكرة نفسها تبدو غير مُتسِّقة من المنطق السياسي والاحتجاجي السليم، ذلك أنها يمكن أن تتحول – وهذا راجح جدًا – إلى خميرة عكننة، متى ما استقامت الأمور، وانسابت الحريات، وشُيّدت دولة القانون والعدالة الاجتماعية. وهنا تكمن الكارثة النائمة.! الصيحة