فيما يلي بعض النقاط العجلى التي عنّت لي بعد قراءة كتاب د. حسن عابدين " سودانيون وإنجليز" الذي صدر نهاية العام الماضي عن دار مدارك للطباعة والنشر وتم تدشينه قبل أيام في النادي الدبلوماسي بالخرطوم. أعتقد و بكل تواضع أن د. حسن -أستاذ التأريخ الإفريقي بجامعة الخرطوم سابقا ووكيل وزارة الخارجية و السفير ببريطانيا لا حقاً - قد بذل جهداً كبيراً في تجميع مادة الكتاب سواء من بطون الكتب أو المذكرات أو شفاهة من من تيسر له مقابلتهم من الأشخاص المعنيين بموضوع كتابه و لا غرو فهذا شأن أساتذة التأريخ و الباحثين الجادين و المدققين . الكتاب صغير الحجم ( 121 صفحة) لكنه يتناول موضوعاً مثيراً للجدل .. فالحديث الإيجابي عن دور المستعمر – أي مستعمر -يحتاج إلى قدر من الجرأة و الشجاعة: لا أقل من شجاعة الشيخ أزرق رئيس حزب تقدم السودان الذي طالب بتأجيل جلاء المستعمر لنحو عشرين عاماً .. أو المهندس النجومي الذي كتب (Great Trusteeship A). احتاط د. حسن لما قد يجلبه له هذا الكتاب من انتقاد فأشار في العنوان الشارح - تحت العنوان الرئيسي - إلي أنه كتاب عن (الوجه الإنساني للعلاقة التاريخية) و حشد في الكتاب شهادات كثيرة من إنجليز وسودانيين تؤكد ما ميز العلاقة بين الجانبين من انسانيات أوجزها أحد التربويين الذين أرسوا قواعد السياسة التعليمية الحديثة في السودان (روبن هودجكن) في كلمتين عندما قال ما يجمعنا مع السودانيين هو ال ( Common Humanity ). إن انجازات المستعمرين الإنجليز في السودان- كما أشار د. حسن - لا تنك : النشأة الباكرة للتعليم الحديث، البنى التحتية، الخدمة المدنية الممتازة، مشروع الجزيرة على سبيل المثال. وعن الخدمة المدنية السياسية على عهد الاستعمار البريطاني في السودان أورد د. حسن عبارة الكاتب الأمريكي جون قنثر في كتابه ( Inside Africa) " إنها الرباط الذي أحكم وثاق السودان وحفظ تماسكه كدولة حديثة " . من أبرز الشهادات على اعجاب المستعمرين بروح السودان والسودانيين التي أثبتها د. حسن ما كتبه السكرتير الإداري دوقلاس نيوبولد في مذكراته (عمل نيوبولد بالسودان من 1920 حتى وفاته في 1945 بالسودان ودفن بمقابر الكومونولث شمال شرق مستشفى الخرطوم) قال نيو بولد في مذكراته التي ترجمها للعربية ونشرها على نفقته في ثلاث مجلدات المرحوم محمود صالح عثمان صالح عطر الله ثراه : " أين هي روح السودان و السودانيين ؟! لن تجدها في مكان بعينه أو في هيئة بعينها ولا في مديرية واحدة ولا في كلية غردون وحدها ولا في القبائل العربية خاصة ولا في جبال النوبة أو في سوق أمدرمان.. إنها روح في كل هذه الأمكنة منتشرة مثل ذرات الرمل وذرات الغبار: روح لن يدّعيها فرد أو قبيلة أو طائفة بل هي ملك مشاع وإرث لكل السودانيين وكل من يحب السودان بوسعه أن يشارك في هذه الروح " . و من جانب الزعماء و القيادات القبلية السودانية: أورد د. حسن شهادات إيجابية من النظار بابو نمر و إبراهيم موسى مادبو والناظر منعم منصور، ومن النخب المتعلمة تضمن الكتاب شهادات إيجابية لعدد كبير منهم . وفي تقديري ربما يوجز رد السيد أحمد المهدي على سؤال المؤلف لماذا يحن كثير من السودانيين للإنجليز ولزمانهم بل وبعضهم قد أحبهم ربما يوجز المشاعر المختلطة التي يحس بها السودانيون تجاه الإنجليز .. حيث قال: " نعم أحبوهم و لكن ما زال في النفوس شيء من المرارة .. نحن أبناء وأنصار الإمام المهدي لن ننسى جرحاً لم يندمل وكذا هم الإنجليز لم ينسوا كل شيء .. وجرح الاستعمار والقهر الاستعماري لن يندمل أبد الدهر مهما كانت انجازاتهم الكثيرة والمقدرة " في ضوء أعلاه أرى أن كتاب د. حسن يطرح أسئلة أكثر مما يطرح أجوبة: ما الدافع لمثل هذا الكتاب؟ وما أهمية شهادات الإداريين الإنجليز الإيجابية عن المشاعر الإنسانية والعاطفة الصادقة التي أبدوها تجاه السودان وأهله ؟! هل أحب المستعمرون الإنجليز السودان وأهله لحسن معشرهم ولسجاياهم الكريمة ؟ أم لسعيهم لتحقيق مصالح بلادهم خاصة في فترة التكالب والتنافس الأوربي على إفريقيا أياً كانت تلك المصالح .. وهل كانت تلك المشاعر – أو الإنسانيات كما سمّاها أحد الإداريين – خالصة لوجه الله تعالى منزهة عن الغرض ؟! و ما أهمية الروح الطيبة والخصال الكريمة التي تعامل بها أجدادنا و أباءونا مع الإنجليز إبان حكمهم لبلادنا والآن هنالك في نظرات أبنائنا وأحفادنا سؤال كبير حائر: إذا كان الإنجليز قد تركوا وراءهم أطر التنمية الاقتصادية والاجتماعية واللبنات الأساسية السليمة لبناء دولة حديثة .. فماذا حدث ؟! ***** [email protected]