أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع الدكتور عبد المجيد عابدين في أصول اللهجات العربية في السودان ..
نشر في الراكوبة يوم 10 - 04 - 2017

أهداني أخي وصديقي الكاتب البارع، والبحَّاثة الحاذق، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيَّا، المحامي والمستشار القانوي مهنةً، والأديب والمؤلف الموسوعي علماً ومعرفة، الذي سعدت بملاقاته في الخرطوم مؤخراً، من بعد افتراق دام لعدة سنوات، نسخةً مصورة من كتيب نفيس للغاية عنوانه: "من أصول اللهجات العربية في السودان: دراسة مقارنة في اللهجات العربية القديمة وآثارها في السودان" لمؤلفه العلامة الراحل الأستاذ الدكتور "عبد المجيد عابدين" رحمه الله تعالى، أستاذ الآداب والدراسات العربية والساميَّة بالجامعات السودانية والمصرية سابقا.
وهذه النسخة المصورة من هذا الكتاب التي أهدانيها الأخ الأستاذ عبد المنعم، صادرة في عام 1989م عن "دار المعرفة الجامعية" بمدينة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية، وهي تقع في 125 صفحة من القطع الصغير. ولا أدري إن كان هذا الكتاب قد صدر من قبل من دار نشر أخرى في بلد آخر، وفي تاريخ سابق أم لا، بيد أنَّ المؤلف نفسه يذكر في مقدمته لهذا الكتاب، أنه قد بدأ يجمع في مادته، منذ أن وطئت قدماه أرض السودان لأول مرة في عام 1947م، وحتى تاريخ صدور الكتاب.
أما صدور هذا الكتاب عن "دار المعرفة الجامعية" بالإسكندرية، فيغدو منطقياً وطبيعياً، لأن المؤلف كان يعمل حينئذٍ أستاذاً للأدب العربي بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهي ذات الكلية التي تولى الدكتور عابدين عمادتها فيما بعد، وظل عميداً لها إلى أن اختاره الله تعالى إلى جواره في عام .....
ولا شكَّ في أنَّ البروفيسور عبد المجيد عابدين، كان واحداً من جهابذة العلماء والأكاديميين المصريين الذين عرفوا السودان والسودانيين عن كثب، معرفةً عميقة وحقيقية، وخبروا الحياة والثقافة السودانية خبرة وطيدة، وقدروها حق قدرها، وعملوا بكل همة واقتدار على التنويه بها، والتعريف بمقوماتها وخصائصها، ثم سعوا إلى إذاعتها ونشرها بين العالمين، عن علمٍ ووعيٍ وإخلاص وأمانة.
وذلك هو السبب الذي جعل عامة المثقفين والمتعلمين السودانيين، بمختلف أجيالهم وطوائفهم وخلفياتهم، يكنون له محبَّةً وتقديراً عظيمين. فكتابه العظيم "تاريخ الثقافة العربية في السودان" على سبيل المثال، قد كان وما انفكَّ يمثل مرجعاً أساسياً لا غنى عنه لكل باحث سوداني أو أجنبي جاد في بابه.
ولذلك فإنني ما زلت أتمنى على زميلنا الهمام، السفير الدكتور محمد صغيرون، قنصل السودان العام بمدينة الإسكندرية، أن يبادر بتنظيم بالدعوة إلى تنظيم ندوة تكريمية / علمية حول سيرة وتراث هذا العالم الجليل، الذي كان يجسد بحق أسمى نماذج التواصل والتعاون الثقافي والعلمي بين شطري وادي النيل. ولتكن هذه الندوة المقترحة تحت الإشراف العام لأخينا الأكبر، سعادة الباش سفير Arch-Ambassador عبد المحمود عبد الحليم، سفير السودان لدى جمهورية مصر العربية، وبمشاركة أكبر عدد من المؤسسات والشخصيات ذات الصلة في البلدين الشقيقين.
هذا، ولست أنا هاهنا بصدد التعليق أو التعقيب العلمي على مادة هذا الكتاب على نحو استقصائي ودقيق وشامل، وإنما هي محض خواطر سريعة، وملاحظات عابرة، عنّت لي حيال بعض النقاط التي استوقفتني عند مسائل محددة، عرض لها المؤلف في هذا السفر القيم، وودت أن أشرك معي القراء الكرام فيها، مدارسةً لهذا التراث، وتنويهاً بقيمة هذا الكتاب، وإشراكاً للقراء لما فيه من بعض الدرر، تعميماً للفائدة.
في صفحتي 32 و33 من هذا الكتاب، زعم المؤلف أن ظاهرة إبدال لام التعريف ميما فيما يُعرف بطمطمانية حِمْير مثل قولهم: طاب امهواء .. وركب امفرس، أي: (طاب الهواء، وركب الفرس) الخ، قلّما يُوجد في لهجات السودانيين، وهذا الزعم غير صحيح. ذلك بأنّ هذه الظاهرة موجودة بكثرة في سائر اللهجات العربية بالسودان، وخصوصاً في عربية غرب السودان، التي لا يندر أن تسمع فيها ألفاظاً مثل قولهم: امسحلية يعنون السحلية، وامباعوضة يعنون الباعوضة أي " البعوضة " كما في الفصيح، وامبشَّار أي: البشَّار وهو السحاب المبشر بالمطر وهكذا. كما يقول عامة السودانيين أيضاً أم بارح ل " البارح " بذات المعنى، كما يقولون "البارح" كذلك. وليس ذلك قاصراً على لهجات مصر كما قال المؤلف. على أن "البارح" في السودان كأنها لغة البوادي والأرياف، بينما "أم بارح" هي لغة المدن والحواضر.
وجاء في صفحة 33 من الكتاب أن مما رُوي في لهجات قبائل بلحارث وخثعم التي كانت تقطن في شمال اليمن وأواسطه، أنهم كانوا يقلبون كل ياء بعد فتحة ألفا، فيقولون: جئتُ إلاك (يعني إليك)، ومررتُ علاهُ يريدون "عليه"أ.ه.
قلتُ: وهذه الصيغة أو الظاهرة نفسها، عليها شاهد باذخ من العامية السودانية أيضاً، وهو قول المادح الشيخ أحمد ود سليمان :
العجب طيبة هاداك بُناها
يا ناوي لا تكسلْ قوماك علاها
يعني عليها، أي هيا بنا نحوها. وثمة نكتة نحوية أخرى فريدة وخاصة بالعامية السودانية في هذا البيت الأخير، ألا وهي صيغة التثنية التي يدل عليها الفعل "قوماك" أي فلنقم أنا وانت يا ناوي الخ، التي سقطت من سائر العاميات العربية المعاصرة خصوصا فيما يلي الأفعال، إلا في العامية السودانية التي احتفظت بهذه الصيغة الدالة على المثنى خاصة في فعل الأمر الدال على التثنية كقولهم: امشاكا وارحكاكا الخ، فكأنه من شاكلة قول امرئ القيس في المعلقة "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" .. أي: هيا فلنقف أنا وأنت لنبك من ذكرى حبيب ومنزل، حيث جرد الشاعر من نفسه ذاتها صديقا له يخاطبه، كما يذهب إلى ذلك بعض شراح هذا البيت.
في صفحتي 40 و41، أشار المؤلف مُحقَّاً إلى أن بعض اللهجات السودانية قد تأثرت بما أسماها بعنعنة قُضاعة، وهي إبدال الهمزة عيناً في مثل: سعل من سأل، ومسعول لمسؤول، وعِلاَّ من إلاّ، وعَضان لأضان أي أُذن في بعض لهجات كردفان وهكذا. ولكنه جعل الاسم السائر حالياً لمدينة "عطبرة"، الذي هو أصله "أتْبَرة" من قبيل التأثر بظاهرة العنعنة القضاعية هذه. والراجح أن كتابة ونطق "عطبرة" بالعين ثم الطاء، عوضاً عن الهمزة والتاء أي "أتبرة"، إنما جاء – وفقاً للدكتور جعفر مرغني -بسبب خطأ في تعريب المعربين المصريين خاصة في أوائل عهد الحكم الثنائي، لأسماء المدن والبلدات، وخصوصاً محطات السكك الحديدية، التي يبدو أنه قد اختطتها أولاً أيادي المساحين والمهندسين الإنجليز بحسب الخصائص الصوتية للغتهم هم. ولكن أولئك الانجليز رسموا تلك البلدة Atbara هكذا كما سمعوه، فرجّح المعربون تخميناً واجتهاداً منهم، أن يكون حرف ال A من هذا الاسم مبدلاً عن عين، وأن حرف ال T مستحيل عن طاء تعذر على الإنجليز نطقها بسبب العجمة، توهما من أولئك المعربين، فجعلوها "عطبرة". وقد ذهب أولئك الذين عرّبوا أسماء المحطات والبلدات السودانية، مذاهب طريفة أحياناً، منها على سبيل المثال، إطلاقهم على إحدى المحطات شمال الخرطوم بحري اسم "جبل جاري"، الذي كان ينبغي أن يكتب هكذا "جبل قَرِّي" على اسم حاضرة مملكة العبدلاب الشهيرة، لأنه بالفعل كذلك، وليس جبلاً جارياً، ولا علاقة له بالجري مطلقا.
ومما هفا فيه البروف عبد المجيد عابدين أيضا، قوله في صفحتي 54 و55، في معرض حديثه عن التعاقب بين صوتي "السين" و "الصاد" قديماً وحديثا، زعمه أن "السوداني يحتفظ غالباً بالصاد مطبقة إذا تأخر عنها الغين أو الخاء، فيقول صرخ، الصمغ، الصايغ" الخ. وهذا غير صحيح، بل الصحيح أنهم في الغالب يبدلون هذه الصاد سيناً فيقولون: سرخ، وسَمُغ، وسايغ.. بل إن بعض الناس في كردفان يقولون في صرخ وسرخ هاتين "زّرَخْ" بالزاي بذات المعني، فكأنهم قد تعاملوا معها على النحو الذي تنطق بها بعض الكلمات عند كثير من السودانيين مثل: الزَّعف للسعف، وأزقيني موية لأسقيني موية أي: اسقني ماء، وإزعاف لإسعاف الخ. وفي المزهر للسيوطي، سئل إعرابي: أتقول الصقر أم السقر؟ قال بل الزَّقر .. فهي من ذاك.
عرض المؤلف في الصفحات ما بين 61 و64 إلى ظاهرة ترقيق الحروف وتفخيمها عند العرب قديماً وحديثا، وأبان موقع العامية السودانية من ذلك بشواهد أوردها. ولكن الكاتب لم يُشر إلى مسألة مهمة للغاية في نظرنا، وهي أنَّ خصيصتي الترقيق والتفخيم للحرف الواحد في نفس الكلمة في العامية السودانية، قد ينتج عنها اختلاف تام في الدلالة والمعنى، وذلك هو ما تفردت به عربية أهل السودان، ومما ليس له نظير لا في الفصحى، ولا في سائر العاميات العربية المعاصرة الأخرى. فعلى سبيل المثال، الفعل "جَبَرْ" بترقيق الراء معناها: ثبَّتَ وأصلح، ومنه "جَبَر الكسر" .. أما الفعل " جَبَرْ " بتفخيم الراء الساكنة، فمعناها: "أجبر وأرغم عنوة على فعل شيء". فجبّار الكُسور، بترقيق الراء صفة مدح، أما قولهم "فلان جبَّار" بتفخيم الراء، فإنها صفة ذم، إذ أن معناها إما طاغية كما هو في الفصيح، أو شحيح وبخيل، ومقتِّر حتى على نفسه أحيانا كما ترد في العامية السودانية.
في صفحتي 96 و97 يلاحظ المؤلف محقاً، وجود التنوين في اللهجات العربية السودانية، كما يشير إلى أن التنوين سمة في تلك اللهجات تميزها عن كثير من اللهجات الحديثة. ويقدم على ذلك أمثلة من قبيل ما قيل في مدح الزبير باشا:
"سمّوك الزبير فارساً تصدَّ الخيل" ولعل الشعر لبت مسيمس،
وكذلك قول الحاردلو في "مسدار الصيد":
ساريتّنْ تجوِّد (هكذا) للصباح ما انفشَّتْ الخ.
ويمضي الدكتور عابدين إلى المقارنة ببعض اللهجات العربية المعاصرة الأخرى، فيوضح أن لهجات نجد ومصر ما تزال توجد بها بعض العبارات المتوارثة، كالأمثال ونحوها التي تنطوي على بعض الألفاظ المنوّنة، مثل قولهم: "يا فرحةٍ ما تمتْ" أو "إرد موافئ ولا غزالٍ شارد"، أو "ندرِنْ عليَّ" أي نذراً عليّ الخ. ويخلص المؤلف إلى أن التنوين في اللهجة السودانية مرتبط بالفتح دائماً، بينما هو في غيرها مرتبط بالكسر. ونحن نعتقد أن رأي العلامة عابدين، أو دعوته لعقد صلة ما بين تنوين العامية السودانية، وبين تنوين اللغات السامية القديمة بجنوب الجزيرة العربية، التي كان التنوين فيها يدل على التعريف والإشارة مثل " وثَنَنْ " أي الوثن، أو هذا الوثن، أمرٌ جدير بالتأمل فعلا.
فهنالك على سبيل المثال صيغتان لهذا البيت من هذه الأغنية الشعبية البدوية في السودان:
زولَنْ سرَبْ سربة
ختَّ الجبال غربَهْ
أو: الزول سرب سربة
ختّ الجبال غربه
فهي بذات المعنى.
ونحن نتفق مع المؤلف عند قوله في صفحة 100 "إن لهجات غرب السودان، أكثر حرصاً على الفتحة فيما إذا اتصل اللفظ بضمير الغائب المفرد الدال على المجرور أو المنصوب ... فبينما نجد أن أهل شرقه وأواسطه يقولون: "قصَّيتُو هو زاتُو"، نجد أن أهل غرب السودان يقولون في مثل هذا الموضع ، قصَّيتَه هو زَاتَه " الخ. وهذا صحيح بصورة عامة، ولكنه يصح بصفة أخص على لهجات القبائل البدوية المترحلة مثل حمر ودار حامد والكبابيش والشنابلة والبقارة عموماً ومن إليهم، ولا يصح على لهجات القبائل الحضرية المستقرة مثل الجوامعة والبديرية والشويحات والهوارة وكنانة الخ .. فهؤلاء ينطقونها " قصيتُو هو زاتُو " مثل أهل الوسط والشمال والشرق تماما. ولذلك فإننا نرى أن الشيخ عبد الرحيم البرعي عندما قال "وهوى الأمَّارة في نحرو أطعنَا" في قصيدته ذائعة الصيت "مصر المؤمَّنة"، إنما خالف قواعد اللهجة التي نشأ عليها، وإنما حقه أن يقول "أطعنُو" بحسب مقتضيات لهجته هو. وفي تقديرنا إنما ألجأته لذلك ضرورة القافية المفتوحة ليس إلاّ. يدلك على ذلك أنه قال في "نحرُو" بضم الراء ولم يقل في "نحرَه" بفتحها.
ونود أن نختم بالتعليق على هذه الملاحظة التالية التي أوردها المؤلف في صفحة 101 من الكتاب وهي قوله:
" ويوستقفنا (أل) أداة الموصول. وهي غير معروفة بهذه الصيغة في لهجات مصر والمغرب ونجد والشام واليمن. وإنما يستعملون (الليِّ) غالباً، والسودانيون لا يعرفون (الليِّ) إلا في القليل النادر، والغالب عندهم استعمال (ألْ). يقولون: ألمعاه (الذي معه)، السِّمعْ والشَّاف (الذي سمع والذي رأى)، البيتو قزاز ما بجدِّع الناس (الذي بيته زجاج لا يرمي الناس)، البارح رأيت الكُنتَ بزَّكَّرها (أمس رأيت التي كنت أتذكرها). فهي تدخل على الأسماء والأفعال والأدوات، وتُستعمل للواحد وغير الواحد، وللمذكر والمؤنث ... واللغة النموذجية الفصحى، تعدُّ هذه اللهجة شاذة في القياس والاستعمال .. وأورد لها الرواة بضعة عشر شاهدا من الشهر الفصيح. " أ.ه
ثم يورد الدكتور عبد المجيد عابدين بعضاً من تلك الشواهد، ولكنه لم يأت على ذكر شاهدين يذكرهما الباحثون واللغويون السودانيون في مثل هذا السياق عادةً، كمثل العلامة عون الشريف، والبروفيسور إبراهيم القرشي وغيرهما، وهما قول الشاعر:
ما أنت بالحكمِ التُّرضى حكومتُهُ ولا الأصيلُ ولا ذو الرأي والجدلِ
أو قول الآخر:
من القوم الرَّسولُ اللهِ منهمْ لهمْ دانتْ رقابُ بني معدِّ
والحقُّ أن "أل" هذه التي بمعنى "الذي" أو "التي" كما ترد في اللهجة السودانية، تدخل أحياناً حتى على أسماء الأعلام، فمن ذلك – على سبيل المثال – اسم "الرَّيَّح ْ" بمعنى: الذي أراح، أي كأنه أراح أهله وعشيرته من العنت والتعب تفاؤلاً، وكذلك "القلّعْ" يشبهونه بالتمساح الذي "قَلَّعْ"، أي أقلع وانبعث بقوة من بين أمواج النهر، رجاءً بأن يصير من يُسمى بهذا الاسم قوياً جسوراً مثل التمساح.
ولكن "أل" هذه التي تأتي بدلاً عن اسم الموصول، ليست قاصرة على العامية السودانية وحدها، فهي موجودة بذات النطق والدلالة في سائر اللهجات العربية ببلاد السودان الأوسط بمعناه الجغرافي الواسع، أي تشاد، وشمال الكميرون، وشمال شرق نيجيريا لدى عرب الشوا، وهي موجودة أيضاً كما لاحظنا، في اللهجة الموريتانية الحسانية التي يقول أهلها في مثل لهم على سبيل المثال: "ألوصَّاك على أُمَّكْ حقَرّكْ" .. يعني: الذي أوصاك على أمك لكي تعتني بها وتُحسن إليها، فقد احتقرك، لأن هذا هو من أوجب واجبات البر، وأولى مقتضيات البنوَّة الحقَّة. وكنت قد أوردت هذا المثال ذاته في مقال لي منشور في المقارنة بين العاميتين السودانية والموريتانية.
+++++
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.