مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    كريستيانو يقود النصر لمواجهة الهلال في نهائي الكأس    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صعود من القاع
نشر في الراكوبة يوم 08 - 05 - 2017

بدت تعليمات المدعو بهاء عثمان واضحة، في ذهن حامد عثمان المنهك، عندما ارتقى، بعد مرور نحو الشهر، من تلك الزيارة، إلى الطابق الثاني، من بناية تجارية قديمة تقع قبالة مبنى الجامعة الأمريكية الرئيس.
الشقق واسعة. أما العقار ككل فذو طراز أوروبي يعود، بطبقاته الثلاث الداكنة، الأرجح من تلوث شارع محمد محمود المزدحم ليلا نهارا، إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما فكر الخديوي إسماعيل باشا، على ما أظن، وهو يخطو خطوته غير المسبوقة، في إعادة بناء القاهرة القديمة، على غرار باريس الحديثة. أي حلم كبير ظلّ يداعب مخيلة الباشا وتحقق وقتها. لكن القاهرة اليوم تبدو لي بعيدة جدا، وبما لا يقاس اطلاقا، من "طموح البدايات الواعدة". أم تظن أن الأمر مختلف قليلا هنا، يا "صديقنا شكر الأقرع"؟
كان صمته ذاك مباغتا ووجهه بدا متجهما، وهو ينتظر إجابتي على سؤاله المتقدم، فقلت أجيبه وقد خيل إليّ أنّه سيموت في أية لحظة إذا لم أفتح فمي عندها:
"وكيف لي بربك أن أعرف ذلك وأنا لم أُولَد وقتها بعد، يا حامد عثمان؟"
كذلك، أو بالضبط، ظلّ يصر حامد عثمان اللعين هذا، متى ما وثق فيك، على وضع ما درج على تسميته "رأيي الشخصي البحت"، حتى على طيز الذبابة الصغير. فأنا (شكر الأقرع) لدي ما يكفي وتماما، حتى أعلم ما كانت عليه هذه القاهرة اللعينة الأرجح بالأمس، أو ما هي عليه اليوم، أو ما ستكون عليه في الغد، فما يهمني من هذه المدينة، في نهاية المطاف، ليس سوى لقمة طعام ومطرح رأس، إلى أن ألتحق بركب الهاربين، على أجنحة الأمل، إلى رحاب دولة غربية، أو أخرى، أو سمّها ما شئت، فالمهم عندي أن تكون "آمنة"، تلك الدولة. عدا ذلك، فليذهب، مجتمعا، إلى قاع الجحيم، ثم ليقتلني من بعد ذلك الشيطان اللئيم، لو أن الشفقة أخذتني عليه تاليا.
ومحمد محمود المسكين هذا، لم يسلم، في حد ذاته، من "رأيي الشخصي البحت" ذاك، إذ أخذ حامد عثمان يتساءل، عن "إنجازه"، الذي لا نعلمه، "يا شكر الأقرع"، حتى "يُسمّى مثل ذلك الشارع الحيويّ باسمه". بيدٍ لا تخلو من رعشة قام حامد عثمان بالضغط أخيرا على زر الجرس الجانبي الأسود الصغير الموضوع، على إطار باب الخشب البني العملاق القديم، "قدم الجدة كاشفة" نفسها، وانتظر. كان الوقت عصرا. لاحظ حامد عثمان أثناء صعوده أن عتبات الدرج الرخامية لم تكن مستوية لكثرة ما داس عليها النّاس عبر العصور والحقب. وكان ثمة لافتة صغيرة على جانب الباب. توضح هوية المكان، بعبارة لها الأرجح رائحة حذاء جديد:
"الجامعة الأمريكية بالقاهرة: قسم العلوم السياسية".
ثمة دفقات من هواء رطب، أخذت تتسلل إليه في الأثناء عبر مفاصل وفراغات إطار الباب المغلق، وقد بدت لسبب لا يعلمه سوى الشيطان باردة منعشة، ومشبعة برائحة لطيفة طيبة، كرائحة فرج امرأة اغتسلتْ للتو، حتى أن ذلك العبير أخذه خلال تلك الثواني بالفعل، غاسلا غضبه وسخطه ومرارته تلك، بعد أن أنفق وقتا طويلا، تاه خلاله هنا وهناك، كي يتعرف أخيرا على اسم شارع محمد محمود اللعين، الذي سبق له حتى أن مر به هو نفسه حامد عثمان من قبل جيئة وذهابا عشرات المرات، من دون إيلاء أي قدر من العناية لاسمه. كان ثمة خيال قد أخذ يقترب قاتما مموّه الشكل من وراء الشراعة الزجاجية المغلقة. فابتسم حامد عثمان بشعورِ مَن يترقب إجابة كارثية من ذلك النوع القاتل:
"عفوا، لا توجد مقاعد خالية في الجنة اليوم".
هكذا، فتح له الباب فراش مصري، وهو رجل خمسيني برأس صغيرة من منطقة صفت اللبن في الجيزة يدعى "فرج"، وما لبث بعد أن سمع اسم "ريسان الكوفي" أن دلّه بإشارة من يده على غرفة داخلية ذات باب عال مطلي باللون الأبيض، كما لون الجدران الداخلية، ويشي بفخامة ملوكية، الأرجح أن حامد عثمان لم يشاهد مثلها عيانا من قبل، مشيرا إليه أنْ:
"مكتبه هناك".
كانت تلك أول صدمة يتلقاها حامد عثمان اللعين، الذي كان يعتقد جازما في نفسه أن كل مّن يعمل في الجامعة الأمريكية يتحدث الإنجليزية ولا بد، بما في ذلك "البوابون". من عمق تلك الحيرة، وقد اختفى فرج متواريا داخل المطبخ لمتابعة أمر ما، طرق حامد عثمان على ما بدا أحد أبواب الحظّ النادرة، ولم ينتظر طويلا. بدا السقف عاليا وبعيدا، بينما يسمع أحدهم، وهو يصيح، من الداخل، باللغتين الإنجليزية والعربية على التوالي، قائلا: "تفضل". وذلك صوت حامد عثمان اللعين نفسه: "إذا سمعت مَن يتحدث الإنجليزية، يا شكر الأقرع، في أحد الأماكن، فاعلم أن ذلك المكان لا يشكو، يا صديقي، من قلّة الطعام، أما رائحة ضراط المترددين عليه، فعادة ما قد تشبه عبق التفاح. مع أنّك، يا شكر الأقرع، وأحلف غيابا على المصحف الشريف، لم تتذوق طعم التفّاح قطّ في حياتك". لم أصادف في حياتي رجلا ثرثارا مثل حامد عثمان اللعين هذا، مع أنّه لا ينفك في العادة من القول: "أما أنا يا شكر الأقرع فلا أحبّ الثرثرة مثل أولئك الرفاق".
كان يجلس وراء المكتب. يتطلع إلى حامد عثمان بابتسامة وفضول. رجل في خريف العمر. متوسط القامة. ليس بالبدين. ابتسامته المتطلعة لمعرفة القادم ما تنفك تتسع. مد القادم يده إليه، وهو يعرّف باسمه ذاك، قائلا: "حامد عثمان حامد، من طرف الأستاذ بهاء عثمان". لسبب مثير للحيرة، أو لا يعلمه الأرجح في نهاية المطاف سوى الشيطان، تخيل حامد عثمان اللعين خطفا وجود شارع في مكان ما من هذا العالم يحمل اسمه. هكذا، مرة واحدة، يصيب الجغرافيا مس من الجنون، ونقرأ خلف زجاج عربة أجرة مبطئة ولا بد لافتة مكتوب عليها عبارة:
"شارع الشهيد حامد عثمان".
ما أن نطق حامد عثمان باسمه اللعين، حتى تهلل وجه الدكتور ريسان الكوفي، ونهض وراء المكتب، ومد يده مجددا ترحيبه بحامد عثمان، على نحو بدا أشبه، هذه المرة، بمعانقة دفء البيت، في ليلة باردة. رآه حامد عثمان المذهول، وهو يسير تاليا لملاقاته، ليصافحه ثانية، مشيرا إليه بيده الأخرى بالجلوس، على أحد كرسيين رماديين وثيرين، كانا يقبعان مثل "زوجين" متوافقين أمام مكتبه الخشبي ناصع البياض. ثم بدل ريسان الكوفي رأيه بغتة. وأجلس حامد عثمان باحتفالية حيث كان يجلس هو، قائلا: "من الآن، فصاعدا، هذا مكتبك، يا أستاذ حامد". أي نفوذ، بل أية ثقة يوليها الدكتور ريسان الكوفي إلى المقتحم الغامض المدعو بهاء عثمان. وفكر حامد عثمان الذي أرضعه الحزب "الريبة"، ضمن أشياء لذيذة أخرى، قائلا في نفسه قبالة أمواج الترحيب المتصاعدة تلك: "لا بد أنهما عضوان في جمعية سرية، الأغلب ماسونية، ريثان الكوفي المتنطع هذا وبهاء عثمان العجيب ذاك". وابتسم ريسان. "اللعين!، لا بد أن لديه معدة معبأة بالطعام، وقد ظلّ يبتسم طوال الوقت، يا شكر الأقرع". جلس ريسان، هذه المرة، أمام المكتب، على أحد ذينك الكرسيين الرماديين، وأخذ يحدد لحامد عثمان مهام وظيفته المفترضة، وإطار "أبحاثه" العام.
وهو يمزج بين اللغتين العربية والإنجليزية، أوضح ريسان الكوفي لحامد عثمان تصوراته تلك بشأن العمل، ببساطة ووضوح، من دون أي تأخير، كأي شخص آخر متحضر نشأ، في مدينة غربية، ويعرف جيدا معنى عبارة: "الزمن هو المال". ثم غاظ حامد عثمان المنهك أن ريسان الكوفي ظلّ يتحدث إليه بما بدا له كنوع من المباشرة الواثقة، والتي لم تترك أدنى مساحة متخيلة لإمكانية أن يُرفض عرضه ذاك من قبل حامد عثمان بإحدى تلك العبارات الثورية الشائعة، من شاكلة: "المجد للشيطان مَن قال لا في مواجهة مَن قالوا نعم".
ولو أن نواعم السمسارة كانت في الجوار لحظتها لغمزت لحظتها لحامد عثمان، وهي تهدئي من مخاوفه الناشئة، قائلة:
"لقد مضى عهد الرفض، يا هذا".
سلّم ريثان الكوفي ذلك الطلب، إلى حامد عثمان، حتى يستخرج بطاقة شخصية له، في صبيحة اليوم التالي من مكتبة الجامعة، لتسهيل مهامه البحثية، وقد مدّه كذلك فوريا بنسخ من مفاتيح المكتب، ثم ابتسم كمن يقول:
"عليك أن تغادر الآن، يا حامد".
وقد كان.
لحظة أن احتواه ضجيج شارع محمد محمود خارج المكتب ثانية، ولفحه حرّ شهر مايو الخانق، فكر حامد عثمان: "ريسان الكوفي هذا، قد يبدو مثل صديقه بهاء عثمان، وهو يصل إلى هدفه، بأقصر الطرق وأقلّها مشقة له. أما أنا فعليَّ أن أفحص بهدوء، في أعقاب قسط من النوم، ما أصاب رادارات الرفض في داخلي من عطب. ثم تحسس المبلغ الذي منحه له ريسان الكوفي منذ قليل، وهو يقول:
(هنالك رائحة كريهة)".
كان على حامد عثمان إذن أن يقوم بالبحث، أثناء فترة الحصار، في تلك الأيام، على نظام صدام حسين، في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي منذ بداياته، تطوراته، وحتى مآله الذي بدا ماثلا وقتذاك، مثل أطلال بيت توشك، في أية لحظة، أن تسقط متلاشية، كفريسة سائغة لبراثن النسيان والعدم. الحال تلك، لم تستمر صراعات حامد عثمان الداخلية طويلا، وقد حلّ تناقضاته على ما بدا من دون أي عناء، حتى من قبل أن يلتقي شارع محمد محمود بميدان التحرير القريب، إلى درجة أنني (شكر الأقرع الذي سبق للخيانة أن خانته) فكرت أن أعرض عليه فرصة أن يقوم بتوسيع دخله بنقل أخبار المعارضة الخاصّة ولا بد إلى أحد أولئك السادة المستفيدين. إلا أن أمثال حامد عثمان هذا الأرجح أنّهم يقومون بالخيانة لحظة أن يتم تجنب الإشارة إليها باسم "الخيانة".
كذلك وشبح الجوع والتشرد ماثل، ضرب حامد عثمان، في أثناء تلك الخطى القصيرة المتفكّرة، بتخوفه اليساري القابع في داخله، من كل ما له صلة بأمريكا. وقرر أن يخلص في عمله لصالح ريسان الكوفي. أما ذلك الصوت فصوت حامد عثمان نفسه، وهو سكران: "أنا سوداني لفظه وطن وريسان الكوفي هذا كندي من أصل عراقي لم يعد يربطه ببلاد الرافدين سوى قبور الأسلاف أو ربما الذكريات. فليكن إذن (يا شكر الأقرع) فيما أقوم به من بحث نفعا لصانع قرار يقبع في مكان ما وراء المحيط الأطلسي متأهبا بترسانته لسحق قوم إلى الشرق من الخليج بيني وبينهم آلاف الأميال. ولست أبالي، وقد أُطعمتُ من جوع، طالما أن تلك الجنازة المحمولة، على أعناق أولئك الرجال، الذين ينتظرون بدورهم دورهم ذاك في الموت، ليست في نهاية المطاف جنازتي الشخصية، أنا حامد عثمان حامد اللعين".
جاء ريسان الكوفي، إلى القاهرة، أستاذا زائرا، من إحدى الجامعات المرموقة، في غربي كندا، لعلها "كالجاري"، وقد بدا منذ الوهلة الأولى إنسانا لطيف المعشر. رقيق الحاشية. له ضحكة بهاء عثمان الواثقة المنطلقة نفسها. مثل كريم معطاء. وقد ظلّ يجلب لحامد عثمان على مدى سنوات كلما ذهب إلى الخارج من الويسكي الفاخر زجاجة، قائلا في كل مرة:
"ممنون لك حامد، أخي".
كان لزوجة ريسان الكوفي الأمريكية البيضاء العجوز تقريبا وجه دمية. لا تدري وأنت تبصرها إن كانت سعيدة في تلك اللحظة أم حزينة. أعلى وشك القيام بحرب ضدك. أم أن السلام يغمر دواخلها تجاهك. لا تتحدث كثيرا. كان نادرا ما تحضر إلى القاهرة. قال ريسان الكوفي لحظة التعارف تلك بينما يتفقد ملابس حامد عثمان الرثَّة إنه سيهبه منحة للدراسة في كندا. "ولو شئت أمريكا أو لندن، يا حامد". وقال:
"خذ يا حامد هذا المبلغ لتعتني بهيئتك العامة أكثر".
كاد حامد عثمان أن يبكي، وقد لاح له فجأة أفق النهاية المحتمة لعذابه، مثل أي عاطفي لعين آخر عرفه العالم في ذلك الوقت. وقد بدا أن ما يمنحه له ريسان الكوفي في تتابعه الجارف ذاك كرما يقع خارج مستوى طموحاته السابقة مجتمعة. المنفيون في القاهرة تجذبهم عادة أشياء صغيرة للفرح، مثل رائحة شواء تتسلل من مطعم فخم في الجوار، ظهر ساق أنثى مكتنزة ترتفع عنه حافة الفستان قليلا بينما تهم بالركوب إلى متن عربة عامة، وهذا الرجل بدا كما لو أنّه يضع في يد حامد عثمان مفاتيح الكون برمته. "لدي خطط عظيمة بشأنك، يا حامد". "أنت شاب ذكيّ". أخذ حامد عثمان يدرك شيئا فشيئا أن ريسان الكوفي هذا قد ظلّ يستخدم معه طوال الوقت سلاحا لنعومته لم يخطر له من قبل أبدا على بال: سيف الوعد.
كان على حامد عثمان إذن أن يطرق فترة شائكة من تاريخ الحركة اليسارية في العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم. فترة بدت حبلى بمقاييس "الآن" وقتها، بآمال عظام، فتمخضت بمقاييس ما هو "تا"، ولم يمضِ وقت طويل، عن أحزان لا مبرر لها. وقد مرّ حامد عثمان اللعين قبلها، على سبيل حفر البحث في التأريخ أعمق فأعمق، بذلك المدعو "فهد"، يوسف سلمان يوسف، مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وعرّابه ذاك الأكثر حضورا وتأثيرا، على مآله اللاحق، حتى بعد إعدامه عام 1949، على يد نوري السعيد، تحت ذريعة: "حماية مؤخرة الجيش في فلسطين".
عند نقل فهد من سجن الكوت، بغية إعدامه في بغداد، هذا ما يذكر الشهود، قال:
"أيها الرفاق: قد لا نلتقي بعد، أنتم مسؤولون عن التنظيم وصيانة جوهركم الثوري".
كانت الساعة تشير إلى الرابعة ونصف فجرا، لحظة أن تمّ تنفيذ حكم الإعدام، وغرق كل شيء في الظلام والصمت، العدم، لو لا أن الصدى بقي يتردد هناك. إذ تمكن القائد فهد كما تمكن عبد الخالق محجوب تاليا في السودان من أن يهتف على بعد خطوات قليلة من إعدامه ذاك، قائلا: "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق". لقد تحققتْ فيه هكذا حالا كما رغب هو وأراد نبوءة جيفارا الأصلي، تلك القائلة: "كي تكون ثوريا محترما عليك الحصول على وسام أو الموت". لو لا أن فهد ظني مجرد حالمٍ آخر خاله أن العشب أكثر نضرة على الجانب الآخر من النهر.
إنْ ينسى حامد عثمان، من شخصيات تلك البحوث "المريبة"، فلن ينسى ذلك المدعو عزيز الحاج علي حيدر، وقد برر هذا الأخير حبّه للحياة، في كتابه "ذاكرة النخيل: صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق"، كمن يعتذر عن ضعف إنسانيّ ألمَّ به بغتة، لحظة أن اعتقله نظام البعث أواخر الستينات"، حيث رأى في عزلة الأسر التي تسبق محاكمة ظالم ولا بد أن من العبث مغادرة هذا العالم، في وقت مبكر، تماما كما فعل أسلافه من طينة أولئك القادة الأوائل، فهد وسلام عادل، الذين حملا معهما إلى القبر حرارة شبابهما وفي العالم أنثى لم تفضّ بعد وطعام طيب لم يمس ومغانم أخرى، فأفضى عزيز الحاج علي حيدر عندها طواعية بكل ما لديه، أي بما طُلِبَ منه، وما لم يُطلب منه، على حد سواء، إلى أن تمت مكافأته في الأخير ممثلا للعراق في مكتب اليونسكو في باريس. تاليا، لم يترك عزيز الحاج على حيدر مناسبة تمر إلا برر موقفه. ضعفه الذي "لن يُغتفر". وظَّف كل معارفه. وبعد أن أدرك جيّدا معنى أن تتبدل محبة الحزبي لحزبي آخر إلى شيء لا يطاق، كعداء الفيلة للفيلة، لم يتورع عزيز الحاج علي حيدر، حتى عن اللجوء إلى استخدام سلاح النكات. قال "إن شيوعيا"، ظلّ يمشي في أحد شوارع بغداد أيام المد الثوري، رافعا فوق رأسه مظلة، مع أن الجو صحو وجميل. وحين سئل لماذا تفعل ذلك، أجابهم قائلا:
"إنها تمطر الآن في موسكو، يا رفاق".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.