"في سبيل إلقاء ضوء أكبر على حقيبة الفن"! حسب ملاحظة خاصتي أننا نستطيع أن نقسم الغناء والإيقاعات والطرب في السودان في أربع انماط/أنواع أو قل حقائب كبيرة ونوعية (متوازية): 1- حقيبة الجسد/الدم (الهيئة الجسمانية ومرجعيتها) 2- حقيبة الغيب/الروحانية/الماورائيات 3- حقيبة المدنية/المدينية و4- حقيبة الدولة/الوطن. 1- حقيبة الجسد "الجسدانية ومنها الفروسية" هي قاعدة الغناء في السودان وهي في أصلها قبل أن تصبح بيزنس/ترفيه في الزمن الراهن كان هدفها غير ترفيهي في لحظتها التاريخية وإنما كان هدفها هو تمجيد الجسد والطبيعة. أشياء حسية: "الجسد والطبيعة ومتلازماتهما". مثل أغاني المناحة تمجد جسد/دم/صفات الميت وأغاني الحماسة تمجد جسد/صفات الرجل الفارس الحي : "أسد بيشة خطواتو متقامزات، الدود النتر، ماهو الفانوس ماهو الغليد البوص". وتمجد الحصاد (تمجيد الطبيعة والإحتفاء بها لأن بها يزدهر الزرع والضرع والصيد وهي أيضاً مريحة للنفس، انها طبيب نفسي مجاني وهو هدف بدوره جوهري لصحة الإنسان النفسية فالجسدية)، ثم: جسد المرأة.. الغزل في جسد المرأة أو صفاتها المعنوية الممتازة (دفع وإثارة المعنويات من أجل التكاثر والتصالح والسلام والانسجام الجماعي) وفق معايير المجتمع وحوجاته في كل لحظة وأخرى من التاريخ والتاريخ يبقى مختبئاً في الواقع دون وعينا!. وأغاني حقيبة الفن السودانية تتبع هذه الكلية التي أسميناها حقيبة الجسد/الدم/الطبيعة والمعاني التي تتبع.. وهي في الاصل متخلقة عن بنيات المجتمعات العشائرية/القبلية التاريخية أي هي نتاج مخيلة جسدانية عمرها مئات وربما آلاف السنين قبل أن يصحى الناس بغتة على صهيل خيول الإستعمار الغربي الذي جاء بمفاهيم الدولة الحديثة (الدولة الوطنية) وهي خطوة عظيمة في طريق المسير الشاق والطويل نحو إنسانية كاملة. والجسد الصحي القوي في المجتمعات التاريخية ضروري لإزدهار المناشط الإقتصادية الحيوية مثل الرعي والزراعة والحصاد والصيد في المجتمعات القديمة على وجه العموم. (لنتذكر هنا نظرية النشوء والإرتقاء لداروين). الآن في التاريخ الحالي هناك أشياء تغيرت فيما يخص وسائل الإنتاج.. في هذا الزمان أصبح الإنتاج ممكنناً من "مكنة " والأفكار والتصورات المجردة ايضاً تباع بالمال/القروش. كما أن الجسد القوي الصحي (كما المعنويات العالية) أشياء ضرورية للحرب في التاريخ (أشياء ما زالت قائمة في واقعنا السوداني والمشرقي) وهي من أهم عوامل تشكيل التاريخ على مر العصور القديمة منذ رواية قتل قابيل أخاه هابيل وحتى تاريخ قريب "دخلوها وصقيرها حام " خراب سوبا (تصور خاص بي لزمان نشأة النسخة الأولى من الأغنية).. وحتى تاريخ اليوم.. الصراع كما هو!. 2- والنوع الثاني من الغناء في السودان هو إيقاعات الغيب/الروحانية وهي من العبادة "شعائر مقدسة" أو إيقاعات وهمهمات أو كلمات تمجد العبادة والنزاهة والإخلاص لله والنبي/الرسول محمد والأولياء الصالحين من كانو. ومن أمثلة ذلك المديح في السودان. وللمسيحيين وأهل الكجور والظار ايضاً إقاعاتهم وأغانيهم المختلفة التي تمجد الماورائيات "ما وراء الطبيعة" مثلهم والآخرين. وهذه الإيقاعات والاغاني قابلة أيضاً للتحول إلى ترفيه أو/و بيزنس في حالة اللا عبادة.. لحظة السلام. الآن المديح يغنونه في قاعة الصداقة بالخرطوم كترفيه مشروع الأجر عبر الدفع في شباك التذاكر وهذا هو مقتضى الحال. (نحن هنا لا مع ولا ضد فقط نحلل). 3- النوعية الثالثة "أغاني المدنية الحديثة" أغاني المدن الكبيرة وهي نتاج للحداثة التي بدأت منذ إندغام السودان في السوق العالمي مع العهد التركي ثم توج بالإنجليزي. وهذه الأغاني عندها بدورها هدف حياتي عملي وهو الكسب المادي المباشر عبر بيع "الترفيه" لعمال وموظفي وسكان المدن وكل من له إمكانية وأفق ورغبة في الترويح عن النفس (بيزنس). 4- النوعية الأخيرة هي أغاني الدولة/الوطن ومنها أغاني وإيقاعات الحرب "العسكر/البوليس" وعندنا سلاح الموسيقى في السودان وله أسما مختلفة (أنشاه الإنجليز عام 1915 وهو قسم في الجيش/الدولة أساس الموسيقى الحديثة في السودان، البعض يقول بذلك!). كما أن الأغاني التي تمجد الوطن ككلية جامعة تصنف في هذه الجزئية كعزة في هواك "خليل" وكثير من أشعار محجوب شريف وحميد وأغاني مصطفي سيد احمد. الغناء في البدء عنده دائماً هدف واقعي في التاريخ ثم يتحول إلى ترفيه عند إنقضاء أجل هدفه أو قد يموت ويفنى إن لم يعد له هدف.. وهذا يحدث بشكل بطئ وعلى مدى زمني طويل ويحدث بتدرج وهو ما نراه الآن في السودان. إذ ان أغاني الحماسة والحصاد والخصوبة والمديح والوطن كلها قابلة لأن تتحول إلى ترفيه "بيزنس" يتباع بالقروش في الإذاعات والتلفزيونات والمحطات الفضائية والإنرنت وفي القاعات "الصداقة مثال" وفي حفلات المناسبات المختلفة كالأعراس (هنا إضاءة اضافية على اللونية رقم 3 من أنماط الغناء في السودان.. غناء المدن.. راجع أعلاه ). وتحول الغناء كنشاط حياتي في المدن إلى ترفيه وبيزنس يحدث لأن البيزنس جزء من إقتصاديات المدينة كعكس الريف والتاريخ الذي تخلقت عنده (في زمانه) تلك الإغاني لأهداف عملية أخرى ولو بدورها عندها علاقة بحياة ومعاش الناس ووفق ظرفها التاريخي. كما أن للمدن نظمها وإيقاعاتها الخاصة النازعة إلى المعنوي في الضد من الحسي (أشعار الحلنقي مثال) لكنها تستغل أيضاً في البيزنس مخيلة التاريخ كفلكلور لتبيعه في السوق وهذا بالضبط ما يحدث الآن في السودان حيث تباع أغاني الحماسة والحرب والمناحة والمديح والأغاني الوطنية في السوق. فيشتري الناس التذاكر ليذهبو إلى قاعة الصداقة لسماع حسين شندي وهو يغني "دابي السرا" أو الكابلي وهو يغني "ماهو الفانوس ماهو الغليد البوص" أو إنصاف مدني وهي تغني "الدود النتر، وشدولو وركب فوق مهرك الجماح ضرغام الرجال/الأسود، وإلخ". أو فلان من كان وهو يغني "أمريكا وروسيا قد دنا عذابهما" أو الفحيل يغني "عزة في هواك" أو فرقة ساحور تغني "شيخي حسب الرسول" أو مكارم بشير وهي تغني النهاية للحلنقي.. (كله بيزنس) وترفيه وخير وكله واقع.. وتلك مجرد أمثلة . أغاني الحقيبة هي أغاني المدينة (الترفيه والبزينس) وهي من أعظم أنواع بيزنس الغناء في السودان منذ نشأتها في بداية القرن الماضي حدود العام 1920 وحتى تاريخ اليوم لأنها من الصنف الأول (راجع أعلاه) الذي قلنا أنه هو قاعدة مخيلة الناس أي الجسد/الدم /الطبيعة. وكل هذه الانماط "الأربعة" تسطيع أن تتأثر وتأثر في بعضها البعض من حيث الكلمة والإيقاع واللحن والموسيقى لكن تظل دائما أهدافها المبدئية متوازية إلى أقصى حد ممكن.. والبيزنس واحد!. محمد جمال الدين.. هذا على هامش الجدل الدائر هذه الأيام حول أغاني الحقيبة!