كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاكل ملكية واستخدام الأراضي الزراعية في السودان، مشروع الجزيرة نموذجاً
نشر في الراكوبة يوم 02 - 06 - 2017


+++++
مقدمة :
تُعنى هذه الورقة بواحدة من أهم القضايا التي تواجه الوطن، وذلك ما لها من ارتباط وثيق بحياة الناس، وباستقرارهم اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً، بل وبمسألة وجودهم في المكان الأول. إنها قضية الأرض في عموم السودان، ولكن بتركيزٍ خاص على قضية الأرض في مشروع الجزيرة، وذلك لما لها من تاريخ معروف وواضح، هذا من جانب، وأما من الجانب الآخر فهو أن مشروع الجزيرة يمثل، وبكل المقاييس، ركناً أساساً في وجود القطاع الحديث الذي انبنى عليه الاقتصاد السوداني، وفي مسيرته كذلك. والاهم من ذلك ان في مسيرة المشروع وتطوره كان ان لعبت القوانين المنظمة له، ومنذ إنشائه، دوراً كبيراً في ترسيخ تلك المسيرة وفي دفع ذلك التطور.
هناك حقيقة تاريخية أصبحت تتكشف امام العالم وبشكل أكثر وضوح، وفي كل يوم، فلابد لنا من وضعها والإشارة اليها بدءاً، ونحن نتناول قضايا الأرض في السودان. وتلك الحقيقة هي بروز الظاهرة العالمية التي أضحت معروفة بظاهرة "الاستيلاء على الأرض."(Land Grabbing) وهي ظاهرة لم تعد محل اهتمام الاقتصاديين لوحدهم، وانما كذلك استرعت انتباه قادة الرأي في العالم والمدافعين عن حقوق الانسان، بشكلٍ عام، وعن حقوق المواطنين الأصليين في امتلاك أرضهم، بشكلٍ خاص، "إنه، وبناءاً على ما اورده البنك الدولي ان هناك 464 مشروعاً لأجل الاستيلاء على الأرض بدأ تنفيذها فيما بين 2008 و2009، وان 22 مليون هكتار (اي ما يعادل 54 مليون فدان _ الكاتب) قد تمّ الاستيلاء عليها فيما بين 2010 و2011 لوحدها. إن اهم سبب من وراء التكالب على الأرض هو محاولة السماسرة العالميين تامين الغذاء اللازم للأقطار ذات الكثافة السكانية العالية، والتي تُوَاجَهُ بمواسم زراعية متذبذبة وغير طبيعية (مثل الصين، الهند وكوريا الجنوبية). فهذا التكالب والاستيلاء المسعور على الأرض تمّ بشكل واضح في سبعة دول افريقية حيث ان سعر الهكتار الواحد كان بأقل من دولار (اي ان الفدان بأقل من نصف دولار – الكاتب)." (روس، اليكساندر، استرداد الأرض، اوكلاند، آي كى للنشر، 2014، ص 9-10.)
في ضوء هذه الحقيقة يأتي تناولنا لقضية "مشاكل ملكية واستخدام الأراضي الزراعية في السودان". وهي حقيقة مخيفة، ولكن، وبقدر ما انها تزيد من تعقيد تلك المشاكل، إلا انها تحفز وتعطي دافعاً حقيقياً لأجل التصدي المسئول، ومن ثم لبذل المساهمة التي لا غنى عنها لأجل حلحلة تلك المشاكل.
امتلاك الأرض وتمليكها، أضحى محل اهتمام عالمي:
يكاد ان يكون هناك اتفاق عام بين كل المدارس الفكرية سوى كانت الاقتصادية او غيرها، بان أحد العوامل المزكية للحروب المنتشرة حول العالم، هو عامل امتلاك الأرض وتملكيها، بل وهو يمثل العامل الأهم. وقد أصبح هذا الامر محل الاهتمام والبحث والدراسة ليس من قبل البحاثة الأفراد وإنما من قبل الهيئات الدولية كذلك، وحيث توصلت جل تلك البحوث والدراسات إلى نفس النتيجة. وفي هذا المقام نود ان نشير إلى بعض الامثلة التي توكد ما ذهبنا اليه في شأن الصلة بين مشاكل ملكية الأرض واشتعال الحروب.
ففي افغانستان، مثلاً، وهي أكثر الدول معاناة بسبب حروبها الاهلية الطويلة، وضح ان ازدياد التناحر على ملكية الأرض أصبح يحمل وجهين حيث يدخل كعامل في تزكية الحروب واستمرارها، من جهة، ويقف كذلك كنتيجة مترتبة على اتساعها من الجانب الآخر. وفي هذا الصدد أشار مسئول البرامج في المعهد الأمريكي للسلام، بارماك باجواك إلى أنه،" سيكون هذا هو الصراع الكبير المقبل في أفغانستان. ويشكل هذا الأمر خطراً كبيراً، لأن الصراع سيشمل جميع أنحاء البلاد، وسيكون حقاً خارج نطاق السيطرة." (موقع منظمة إرين في 10 سبتمبر 2013).
وفي الحقيقة، ان الشيء الذي فاقم من امر الوضع في افغانستان هو وجود عاملين آخرين خطرين، هما، الاول تكاثر وانتشار "مافيا الأراضي"، والثاني، هو انتشار السلاح. فهذان العاملان يمثلان ظاهرة طاغية الوجود في كل الدول التي تعاني من عدم الاستقرار نتاج الحروب الاهلية، وهي حالة تنطبق تماماً على ما يجري الآن في السودان.
وفي هذا الاتجاه من طرح الأمثلة الحية بصدد مشاكل الأرض، تقف منطقة جبال النوبة كواحد من تلك الأمثلة، حيث الصراع حول الأرض بين السكان الأصليين كطرف، ومجموعة المستثمرين الوافدين تحت حماية حكومات المركز كطرف آخر. وفي ذلك كمنتْ وتكمنُ جذور الغبن الذي لم تكن الحروب الدائرة ولعقودٍ في المنطقة إن هي إلا مظهره الجلي، "توجد حوالي (200) مشروعاً للزراعة الآلية تمت مراجعتها بمنطقة هبيلا، والتي أنشئت بتمويل من البنك الدولي ويدعمها البنك الزراعي التابع للدولة، ولقد منحت الحكومة عقود إيجار أربع مشاريع تعاونية محلية، وأربع مشاريع لتجار محليين. ومنح مشروع إيجار واحد لمجموعة من تجار هبيلا، أما البقية والتي تبلغ (191) مشروعاً لقد منحت لأفراد من غير أهل منطقة جبال النوبة، معظمهم من تجار وموظفين حكوميين وجنرالات متقاعدين من القوات النظامية من شمال السودان والجزيرة. " (آدم جمال أحمد، ملكية الأرض وانفجار النزاع في جبال النوبة، موقع حركة العدل والمساواة، 31يوليو 2010).
إن الانسان في جبال النوبة، كشأن كل الشعوب الأصيلة، لا ينفصل عن الأرض وهو ملتصق بها دون انفصام، فلذلك ما يحكم العلاقة بينه وبينها تقاليد وأعراف تليدة، ضاربة في التاريخ. إن الأرض في جبال النوبة معلوم استخدامها وملكيتها امتداداً من سفح الجبل إلى حدود المجموعات الاخرى، وذلك من جبلٍ إلى جبل. وقد يحس الباحث ثقل الغبن الذي يحط على مواطني الجبال وهم يرون أرضهم تُهدى وتُباع وتُشترى، ليس لهم، وإن كانوا يُحرِّمون ذلك على أنفسهم، وإنما للآخرين، "فالشاهد أن الأرض الطينية في عرف تقلي وعموم أهل الجبال لا تُباع ولا تُشترى. فهي تُعتبر امٌ محرمٌ أكل ثمنها. باعتقاد أن الإنسان خلق من طينة الأرض. لذلك جاء تقديسها عند مواطن الجبال. فلم يرد عبر تاريخ تقلي إن احداً ملك أرضاً باستثناء أبناء الملوك عند زيانة شعر أحد منهم وقت الصغر فتسمى أرضاً باسمه. فالأرض الطينية ملك القبيلة ينظم استعمالها شيوخ محددون مأذون لهم دون سواهم بالتصرف في الأرض وفق تدابير من رئاسة المملكة". (محمد مريود محمد علي، مملكة تقلي التاريخ والثورات، ونظم الإدارة والحكم، حصاد للطباعة والنشر، توزيع مكتبة مروي، بدون تاريخ).
فلذلك لن يمر السلام إلا عبر الأرض ووفق تأكيد حق ملكيتها وبحرية استعمالها بواسطة أهلها الحقيقيين.
وليس الامر بأقل منه في دارفور. إن الأرض هي محور التغيرات التي انتظمت كامل المنطقة. اتسم الوضع الجديد باستغلال النفوذ وبالقمع وبالفساد المرتبط بجشع الاستثمار، والذي من نتائجه المباشرة استعار الحرب، " إن الأراضي كانت تستخدم في السابق لغرضين الأول للسكن، والثاني للاكتفاء الذاتي من الزراعة، والمستفيد الاول هو المواطن، ولكن مع بداية نظام الانقاذ دخلت أغراض الاستثمار في الغابات والمزارع ولحق بها التنقيب العشوائي والنفط ولكن السلطات أدخلت الاستثمار عبر شركات أجنبية تستفيد من الأراضي وتُصدر الناتج، فتحول مالك الاراض إلى مستخدم وليس مالك". (د. جمعة كندة، تحقيق قامت به شبكة عاين بعنوان، "نزاع الاراضي في السودان: دارفور ... نزع الاراضي وتغيير التركيبة السكانية"، 23 فبراير 2016"). والمفجع أنه لم يتوقف الامر عند حد ان يبقى الملاك الحقيقيين أجراء، وإنما تمت عملية إحلال او بمعنى أكثر دقة عملية استيطان، وليزج على إثرها بالسكان الأصليين في معسكراتٍ للجوء داخل أراضيهم! وهنا نقف جميعاً لنشهد تكراراً مأساوياً لفصولٍ بائسةٍ من التاريخ الانساني، عموماً.
نشر البنك الدولي في عام 2010 واحدة من اوسع دراساته حول حقوق ملكية الأرض. وقد جاءت إشارة بالغة الأهمية في العرض لتلك الدراسة تقول ب "أنه مع ارتفاع أسعار الأغذية والوقود الذي يخلق حوافز لشراء الأراضي على نطاق واسع في شتى أنحاء العالم، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن تعمل الحكومات والمجتمع الدولي لحماية حقوق ملكية الأراضي للسكان المحليين."(حقوق ملكية الأراضي مفتاح للاستثمارات السليمة، موقع البنك الدولي، الشبكة العنكبوتية، بتاريخ 8سبتمبر 2010).هذا يوكد بعضاً مما ذكرناه عاليه حول اهم الاسباب التي تكمن وراء اندياح ظاهرة "الاستيلاء على الأرض" للحد الذي كاد فيه ذلك الاندياح ان يغطي كل اطراف المعمورة. كما وانه في نفس الوقت يشير إلى مسئولية الدول فيما يتعلق بضرورة حماية حق ملكية الأرض بالنسبة للمواطنين. وقد وردت في الدراسة إشارة اخرى ذات مغزى تخص امر ملكية الاراضي في السودان، وهو موضوع ورقتنا هذه، حيث قالتْ،" وفي الواقع، فإن بعض المستثمرين في أفريقيا يبدون أكثر اهتماما بالمضاربة على رفع أسعار الأراضي من اهتمامهم بزراعة المحاصيل، وهم لا يزرعون بشكل كامل الأراضي التي تَملَكُوها. فعلى سبيل المثال، في السودان، حيث يشكو كثير من المزارعين المحليين من فقدان حقوق ملكية أراضيهم".
ولكن، لا اكثر وضوحاً حول قضية ملكية الأرض ووجوب حمايتها، باعتبار انها تقع ضمن مسئوليات الدول، لا اوضح مما ورد في اعلان الامم المتحدة حول "حقوق السكان الاصليين" (Declaration on the Rights of Indigenous People) ,(DRIP)، والمجاز في 13سبتمبر 2007، حيث جاء في المادة (8)(2) ما يلي:
"على الدول ان تقوم بتوفير الآليات الكفيلة بالحماية، وبتدارك:
ب/ أي فعل يكون الهدف منه او الغرض تجريدهم من ملكية اراضيهم، ومناطقهم او مواردهم".
ان هذا الاعلان الذي توافقت عليه الامم املته ضرورة التصدي لظاهرة الهجوم الفالت على حقوق ملكية الاراضي، والذي اصبحت تعاني منه، وبشكل اساس، مجتمعات الشعوب الاصيلة في كل انحاء العالم. وهو امر يرتبط ولحدٍ كبير بضعف تطور تلك المجتمعات مع تركيز الهيمنة والقرار في ايدي قوى اجتماعية غاشمة، إذا كان ذلك على المستوى المحلي في الدول نفسها او على المستوى العالمي. إنه ومما لا شك فيه ان ما سلف سرده يؤكد، وللأسف الشديد، الحقيقة المرعبة بانه، وفي ظل العولمة الجارفة، قد تمّ إلحاق "الأرض" وكمورد نادر بالسوق الرأسمالي العالمي، وقد تم بذلك عملياً تحويلها الى سلعة تستلزم المنافسة، وتغري بالحصول عليها!
إنه وعلى ضوء هذه الخلفية نحاول معالجة قضية الأرض في السودان وفي مشروع الجزيرة على وجه التحديد.
الأرض وملكيتها في السودان:
كانت ملكية الأرض في السودان ملكية عامة، مشاعية بين السكان الاصليين، إذا كان ذلك في دارفور او بين المجموعات النوبية في شمال السودان او في الوسط في مناطق الجبال او المناطق الأخرى، وذلك بالطبع قبل ظهور الدولة، ولو بشكلها البدائي، كتطور طبيعي في تاريخ السودان، وكتعبير عن التمايز الاجتماعي الناتج عن ذلك التطور. ولكن نقطة التحول المهمة في تاريخ ملكية الأرض هو ان نحا شكل الملكية منحاً حاسماً مع ظهور الدولة الحديثة، أي بعد ان انتظمته القوانين التي انتجتها تلك الدولة الحديثة، والتي استعانت في استكمال دورها بالتقاليد والاعراف التي صاغتها تلك المجتمعات لتنظيم حياتها، ولتنظيم علاقتها بأرضها عبر مراحل تاريخية ضاربة في القدم.
إننا ولأجل الاقتراب من غرض هذه الورقة نرى ان ننظر إلى قضية الأرض في السودان من أكثر جوانبها اهمية من الناحية الاقتصادية، اي من ناحية توظيفها كموضوع للإنتاج الزراعي. وذلك بالقطع من منطلق ان القطاع الزراعي يمثل الركيزة لاقتصاد البلاد، حيث نجد ان الزراعة ظلتْ تساهم بأكثر من 45% من الناتج القومي الإجمالي، وتساهم بأكثر من 90% من الصادرات. (موقع بنك السودان ووزارة الزراعة)، وذلك إلى وقتٍ قريب قبل ان يصبح معدل نموه سالباً، إذ تدهور نصيب القطاع الزراعي في الناتج المحلي ليصل إلى 32% فقط، (موقع وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، العرض الاقتصادي للعام 2014). وذلك بالقطع يرجع لأسباب كثيرة والتي من ضمنها، كما هو معلوم، المعضلات المتعلقة بقضايا الأرض!.
فبالإضافة إلى ما ذكرناه، يعمل بالقطاع الزراعي أكثر من 75,7% من القوى العاملة. كما وأنه يمثل القاسم المشترك بين كل القطاعات الاقتصادية الأخرى، من صناعة وتجارة وبنوك ونقل...الخ.
ولإعطاء صورة أكثر دقة عن القطاع الزراعي في السودان بشقيه النباتي والحيواني، وكلاهما متأثران بقضية ملكية الأرض ومشاكلها، تشير التقديرات إلى ان المساحة الصالحة للزراعة في السودان بعد الانفصال حوالي 60 مليون هكتار اي ما يعادل 144 مليون فدان، والمساحة المستغلة منها حوالي 28 مليون فدان، أي ما يعادل 13.50% من مساحة الأرض الصالحة للزراعة. وتاريخياً تنتظم الاراضي الزراعية ثلاثة نظم للزراعة، وهي، :
أولاً/ الري المنتظم ويغطي حوالي 3.3 مليون فدان تقريباً،
وثانياً/ النظام المطري الآلي ومساحته تقدر بحوالي 9.9 مليون فدان تقريباً،
وثالثاً وأخيراً/ النظام المطري التقليدي ويغطي مساحة وقدرها 14.8 مليون فداناً بالتقريب.(*)
وعلى ضوء هذا الواقع نأتي لننظر لأراضي مشروع الجزيرة والمناقل. يحتوي المشروع على مساحة قدرها 2,2 مليون فداناً. وقد اخذ المشروع 97 عاماً بالتمام والكمال ليصل إلى هذه المساحة، وهي سنوات امتدت منذ السنة التجريبية الأولى للمشروع بمنطقة طيبة الشيخ عبد الباقي في العام 1911، حيث بدأ المشروع ب 250 فداناً فقط، وليصل إلى مساحته الحالية في العام 2008، (د. سلمان محمد أحمد، أراضي مشروع الجزيرة بين الملكية والحيازة والنزع، موقع الراكوبة).
عليه، فإن نسبة مساحة المشروع (2,2 مليون فدان) إلى مساحة قطاع الري المنتظم (3.3 مليون فدان)، تساوي 66,67%، اي ثلثيه. فهذه النسبة او السمة، إذا صح لنا القول، هي العامل الاساس في تفاقم مشاكل مشروع الجزيرة، إذ انها وبشكل واضح، ظلتْ تمثل الدافع وراء محاولات إعادة صياغة الملكية بالنسبة لأراضيه! وهي محاولات بدأ التفكير فيها بعد فترة وجيزة من انتهاء عقد الشركة الزراعية (1950)، والتي حل محلها "مجلس إدارة مشروع الجزيرة". وبالتحديد نجد أن محاولات التمهيد للخصخصة بدأت العام 1960 من قبل البنك الدولي، وبواسطة لجنته التي عُرِفتْ في تاريخ المشروع ب"لجنة ريتس".
وهنا يتبادر السؤال، ولما السعي لإعادة صياغة ملكية الأرض في المشروع، ومحاولة مصادرة حق ملكيتها من اصحابها، إذا كان إغراءاً او قهراً، وبنص القانون في الحالتين؟!.
إن واحدة من الاجابات على هذا السؤال، والمرتبطة بالحقيقة التي ذكرناها اعلاه حول حجم المشروع المغري، حين مقارنته بالنسبة للقطاع المروي عموماً، كان ان اوردناها في مقام آخر، حيث تقول، "فهذا مشروع جاهز وبنياته التحتية الاساسية لا تحتاج سوى بضع ملايين من الدولارات لتعود لفعاليتها وسابق كفاءتها، فإذا كان الامر كذلك فلِمَ المخاطرة في مناطق زراعية اخرى؟!"، هذا بالإضافة إلى حقيقة في غاية الاهمية، وهي توفر طريقة الري الانسيابي غير المكلفة، وذلك مما يساعد على تخفيض تكلفة الانتاج، وكما كان حادث بالفعل منذ قيام المشروع. ففي ذلك توسيع اكيد لهامش الربح. عليه فهذه هي الاجابة المباشرة، ودونما مواراة!.
..................
(*) هذه الأرقام تم التوصل اليها نتيجة تعديل حسابي (Calculation Adjustment) أجريناه على ضوء الارقام الواردة في موقع وزارة الزراعة، قبل الانفصال، وعلى اساس النسبة 69.8%.
........................
ملكية الأرض في مشروع الجزيرة والمناقل:
إن قضية ملكية الأرض في مشروع الجزيرة والمناقل تمثل واحدة من الحالات النادرة، ليس بالنسبة لقضايا الأرض في السودان وانما على مستوى العالم. فهي حالة نادرة، حيث تتوزع ملكية الأرض فيه بين ارضٍ مملوكة ملكاً حراً للأهالي، وقدرها 900,000 (تسعمائة ألف فداناً)، وتمثل 41% من ارض المشروع، وارض مملوكة ملكية عامة، اي تملكها الدولة، وقدرها 1,300,000(مليون وثلاثمائة ألف فدان)، وتمثل 59% من أرض المشروع. وأما من حيث أن الأرض وسيلةٌ للإنتاج، اي حواشات، ففيها مزارعون يملكون ملكاً حراً، ومزارعون يملكون ملك منفعة، وكلاهما يعتبر مستأجر(Tenant)، وفقاً لقوانين المشروع، ثم هناك الدولة المالكة للمشروع بحكم ما تملكه وبحكم ما قامت بإيجاره إيجاراً قسرياً من اصحاب الملك الحر، وأعطته للذين لا يملكون ارضاً، أي أعطته لهم كملك منفعة. وحتى اصحاب الملك الحر ينقسمون إلى فئتين، فئة تقيم بالمشروع ويسكنون فيه، وفئة اخرى يملكون ارضاً بالمشروع ولكن لا يقيمون في منطقة الجزيرة، ومن امثال ذلك عدد من الاقباط السودانيين، (إبراهيم علي إبراهيم، الجوانب القانونية لمشكلة الأراضي بمشروع الجزيرة، موقع الاقتصادي السودان
www.sudaneseeconomist.com).
وقد يكون من المفيد ان نشير أيضاً إلى ان مساحة الملك الحر، ومن حيث توزعيها الجغرافي، يقع منها 410 ألف فدان في منطقة الجزيرة الأم، اي 45.6%، و490 ألف فدان منها في منطقة امتداد المناقل، اي 54.4% (راجع د. سلمان م. أ. سلمان، سابق). هذا هو التركيب العضوي لأرض مشروع الجزيرة من حيث ملكيتها وجغرافيتها والانتفاع بها. ولكن لنأتي لملكيتها وهذا هو الأهم.
سننظر لقضية ملكية ارض مشروع الجزيرة من ثلاث منطلقات:
اولاً/ من منطلق قوانين الأرض في السودان،
وثانياً/ من منطلق تقارير اللجان التي حاولت ان تعالج مشكلة الأرض في مشروع الجزيرة بشكلٍ خاص،
ثم ثالثاً وأخيراً/من خلال القوانين الخاصة بمشروع الجزيرة والخاصة بتنظيم العمل وبعلاقات الانتاج والشراكة فيه.
بخصوص قوانين الأرض، إن اول قانون خاص بالأراضي في السودان صدر في العام 1899، ووفقاً له تم ولأول مرة تسجيل الاراضي للأفراد، "بعد ذلك صدرت عدة قوانين بلغت ثلاثة عشر قانونا للأراضي أهمها: قانون ملكية الأراضي لسنة 1905 وقانون تسجيل الحجج لسنة 1907 ثم قانون تحديد الأراضي غير المشغولة ومساحتها لسنة 1922، ثم أخيرا قانون تسوية وتسجيل الأراضي لسنة 1925 والذي يعتبر أهم القوانين المتعلقة بتسجيل الأراضي والتعامل فيها. عملت جملة هذه القوانين على مسح الأراضي، وتسجيلها، ووضع الضوابط الخاصة بالتصرف في الأراضي سواء بالبيع أو الهبة أو الميراث أو غيرها، حيث اشترط التسجيل كشرط للتصرف في الأرض." (إبراهيم علي إبراهيم، لجوانب القانونية لمشكلة الأراضي بمشروع الجزيرة، موقع الاقتصادي السودان www.sudaneseeconomist.com)
في العام 1927 صدر القانون المعروف ب"قانون اراضي الجزيرة للعام 1927″، ومن اهم ما جاء في هذا القانون هو موضوع ما عُرف بالإيجار القسري للأرض من الملاك، حيث نصت المادة (8) منه على:
"(1) يجب أن تستأجر الأرض التي تنزع بموجب أحكام هذا القانون في أول الأمر لفترة لا تزيد على أربعين سنة تحسب من اليوم الذي حصل فيه الإعلان الوارد في المادة 5، ومع ذلك يكون للحكومة الحق في أن تستأجر الأرض بصفة مؤقتة لأغراض تتعلق بالمشروع لأي مدة من السنوات تقل عن الأربعين سنة يقررها المحافظ.
(2) يكون للحكومة الحق في أي وقت خلال المدة التي تكون الأرض فيها أو خلال أي امتداد لتلك المدة بمقتضى أحكام المادة 15 أن تشتري أية أرض مضمنة في أي إعلان صدر بموجب أحكام المادة (5) إذا كانت الأرض مطلوبة أو قد تطلب لعمل أية تشييدات أو مبانٍ دائمة أو لتأسيس حقل تقاوي أو حقل أبحاث أو لغرض عام آخر يتعلق بالمشروع.
(3) يجوز للحكومة عند انقضاء مدة استئجار الأرض أو عند انقضاء أي امتداد لتلك المدة أن تخصص أية أرض تقع داخل المنطقة المروية ولم يتم شراؤها وفقاً لأحكام البند (2) لخدمة المشروع والصالح العام، لمالكي الأراضي التي تقع داخل المساحة المروية إذا كانت تلك الأرض مما لا يراد ريها بل هي مطلوبة أو قد تطلب لعمل التشييدات أو مباني دائمة أو لأي غرض آخر لازم للمشروع ويجوز للحكومة أن تعلن أن ملكية تلك الأراضي ستؤول للحكومة تبعاً لذلك ويتحمل التعويض عن تلك الأراضي جميع ملاك الأراضي الواقعة في المنطقة المذكورة بنسبة مساحة الأرض التي يملكها كل منهم".
ففي مقارنة ذلك بما ورد في قانون مشروع الجزيرة لعام 2005، والذي ادى عملياً لتعقيد مشاكل ملكية الأرض، نجد، اي في قانون 2005 تهديداً غير مسبوق لمبدأ الملكية الخاصة. وهو ما يتناقض ومبدأ "الخصخصة" الذي يقول به النظام الحالي، والذي قصد به ان تؤول ملكية الأرض لمؤسسات الرأسمال الطفيلية المحلية والعالمية. وحيث ورد في المادة 16-1 منه:
16″ (1) تعتبر جميع الحواشات المخصصة للمزارعين بالمشروع قبل صدور هذا القانون كما لو تم تمليكها بموجب أحكام هذا القانون".
وذلك تمهيداً لتضمين النص الذي بموجبه يتم الاستيلاء على أرض المشروع من باب منح حق التصرف في الملكية، حيث جاء النص في المادة 17-1:
" التصرف في الحواشة:
17 (1) مع مراعاة أحكام البند (5) (ج) من المادة 16 يجوز للمزارع المالك التصرف في الحواشة بالبيع أو الرهن أو التنازل وفق الموجهات التي يضعها المجلس".
وبالطبع، يجئ كل ذلك مقروناً بشروط التمويل المجحفة والظالمة من البنوك والمصارف الإسلامية، التي لا تجعل خياراً آخر للمالك غير ان يتنازل عن ملكيته تحت شرط الرهن!، "فلقد كان ان وصل سعر الفائدة التي طبقتها البنوك على قروض المزارعين في مشروع الجزيرة إلى 54%" !، (دراسات تحالف المزارعين، اورده صديق عبد الهادي، مشروع الجزيرة وبؤس الحركة الإسلامية، 2016 ص 136). وقد كان على العكس من ذلك تماماً ما تضمنه قانون 1927، وهو قانون المستعمر، حيث ورد في المادة 13 منه:
" بطلان بعض المعاملات:
13- (1) كل بيع أو نقل أو تحويل أو أي تصرف آخر في المحصول المزروع أو الذي قصدت زراعته على الأرض المضمنة في إجارة زراعية أو في إيراد ذلك المحصول وكل رهن أو حق ينشئه المزارع و المستأجر باعتبار أنه مضمون أو يراد ضمانه بالمحصول المذكور أو بإيراده يكون باطلاً بطلاناً مطلقاُ ولا أثر له إذا حصل أو أنشئ بدون موافقة الحكومة كتابة.
(2) كل تعاقد يكون المزارع المستأجر طرفاً فيه ويكون بمقتضاه ملزماً أو يمكن أن يكون ملزماً بدفع أي مبلغ من المال يحسب بالإسناد الصريح أو الضمني إلى قيمة أي محصول مزروع أو يراد زرعه على الأرض المضمنة في إجارة زراعية يكون باطلاً بطلاناً مطلقاً ولا أثر له إذا أبرم ذلك العقد بدون موفقة الحكومة كتابة".
ويتضح من النص ان في ذلك ليس منع للمرابين من السطو على جهد المزارعين وحسب وانما فيه صيانة وحفاظ على ملكية الأرض ضمناً. بل والاكثر من ذلك ان قانون 1927 وضع الضمانات لبقاء ملكية الأرض، اي الحواشة، داخل الاسرة الواحدة، وهو ما نصت عليه المادة (16) منه.
ومن جهة ثانية ولخصوصية حالة ملكية الأرض في مشروع الجزيرة، جاء استثناءٌ خاصٌ في "قانون نزع ملكية الأراضي لسنة 1930″، حيث نصت المادة (32) على الآتي:
"لا يفسر هذا القانون على انه يغير او يعدل احكام قانون ارض الجزيرة لسنة 1927 فيما يتعلق بنزع ملكية الأرض بموجب أحكام هذا القانون".
هذا هو الارث القانوني المتعلق بملكية الأرض في مشروع الجزيرة، والذي نرى أنه ليس من العقل ولا من العدل بمكان إسقاطه جملة وتفصيلاً.
ومن منطلق تقارير اللجان التي تناولت البحث في قضايا المشروع بشكل عام، نستخلص وقوفها عند مسالة ملكية الأرض كإحدى اهم المسائل. ومن أبرز اللجان هي"
1. لجنة البنك الدولي، والمعروفة رسمياً باسم "بعثة دراسة الجزيرة"، "Gezira Study Mission" ، ولكنها في ادب الاقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة فقد اندرجت وعُرِفت ب"لجنة ريتس". انتبهت هذه اللجنة لمشكلة الأرض وإيجارها في المشروع، وجاء تنبيهها حول ذلك الامر مبكراً، اي في اكتوبر 1966. رأت اللجنة بان يتم تجديد عقد إيجار الأرض لمدة اربعين عاماً أخرى. وورد في تقريرها ما نصه:
"The mission suggests that since, in a number of cases, this period has now elapsed, it would be wise for the government to take action to officially renew the lease for another period of say, 40 years, in order to avoid any confusion or future contestations"(Report P. 58)
وترجمته المباشرة هي،
"تقترح البعثة، وطالما ان هناك عدة حالات، لانتهاء هذه المدة، بانه من الأعقل للحكومة ان تتخذ خطوة رسمية لتجديد الإيجار لمدة 40 سنة أخرى، وذلك تجنباً لأي تعقيداتٍ او مواجهاتٍ مستقبلية" (تقرير البعثة ص 58).
والان، يحدث بالضبط ما نبهت اليه تلك البعثة او اللجنة. لأنه وبعدم قيام الحكومة آنذاك، والحكومات التي اعقبتها، بخطوة تجديد عقد الايجار مع الملاك كان ان اضعفت الثقة بينها والملاك، مما اضطرَّ بعد ذلك كل الحكومات لمحاولة معالجة المشكلة بطرقٍ اصبحت تهدد حق الملكية للأرض! وقد جاءت الترجمة الحقيقية لذلك منعكسة في صدور قانون 2005!.
2. أما اللجنة المهمة الثانية، فهي اللجنة التي تتبع لوزارة الزراعة والغابات، والمعروفة ب "لجنة معالجة أيجار أراضي مشروع الجزيرة". وهي من أكثر اللجان التي خاطبت جذر المشاكل المتعلقة بملكية الأرض في الجزيرة. وذلك لأنها اطلعت على عمل جملة لجان، تصدت من قبل وبالتحديد لمشاكل الأرض وايجارها في المشروع، وذلك مثل "لجنة مراجعة فئة الايجار للأراضي المؤجرة من قبل الدولة بمشروع الجزيرة، مايو 1991″، و "لجنة إعادة النظر ومراجعة فئة الإيجار للأراضي المؤجرة من قبل الدولة بمشروع الجزيرة، ديسمبر 1999″، وكذلك "مذكرة رئيس الإدارة القانونية بمشروع الجزيرة حول أراضي الملك الحر داخل مشروع الجزيرة، 15 سبتمبر 2002". وقد كانت اهم توصية تقدمت بها، هي "6. ضرورة الحفاظ على وحدة اراضي المشروع وذلك للأهمية الاستراتيجية للمشروع كوحدة بكل ابعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية".(تقرير اللجنة ص 6). كما وأنها، أي نفس اللجنة، تبنت نزع الأراضي على ضوء قانو نزع الاراضي لعام 1930، وذلك بعد أن يتم الغاء المادة (32) من ذلك القانون، والخاصة باستثناء اراضي مشروع الجزيرة.
3. إن آخر لجنة تصدت لقضية الأرض في مشروع الجزيرة هي لجنة "مراجعة الأداء بمشروع الجزيرة"، تحت رئاسة د. تاج السر مصطفى. تبنت هذه اللجنة ما جاء به قانون 2005 حول الأراضي في مشروع الجزيرة. لا غرو، فرئيس هذه اللجنة كان رئيساً للجنة تكونت في عام 1998 وكان ان تقدمت بتوصية شهيرة لخصخصة مشروع الجزيرة. شكل تقرير تلك اللجنة الأرضية الصلبة التي انبنى عليها تقرير لجنة البنك الدولي والمعروف ب "السودان وخيارات التنمية المستدامة في مشروع الجزيرة،27اكتوبر 2000″، (Sudan, Options for the Sustainable Development of the Gezira Scheme, October 27, 2000) ، والذي على ضوئه صدر قانون 2005.وهو القانون، الذي وفي تصديه ومعالجته لقضية الأرض في مشروع الجزيرة فتح الباب علي اسوأ الاحتمالات، والتي تتمثل في أن تؤول ملكية الأرض في مشروع الجزيرة للرأسمال والمؤسسات المشبوهة، ليست المحلية لوحدها وانما العالمية العابرة للأمم.
هناك ملاحظة مهمة حول ملكية الأرض في مشروع الجزيرة لابد من إدراجها. إن نسبة امتلاك الأرض بين النساء في السودان تصل في متوسطها إلى 13%، (عواطف عقيد، ملكية الأرض وختان البنات من أبرز مشاكل المرأة في السودان، عرض مونيكا هوغن، موقع قنطرة، 03/03/2005). إن تدني نسبة ملكية النساء للأرض يمثل ظاهرة عامة في البلدان المتخلفة خاصة في افريقيا. ففي مشروع الجزيرة يوجد 17,500 مزارعة من جملة 125 ألف مزارع، أي بنسبة تصل الى 14%. قد لا يكون هناك فرق كبير في النسبة، ولكن الاختلاف النوعي يأتي من جوانب أخرى مهمة، وهي اولاً أن هؤلاء النساء يعتبرن عضوات في أكبر نقابة وتنظيم ديمقراطي في السودان، اي في اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، ثم ثانياً ليس فقط باعتبار الدور الذي لعبه الاتحاد وانما باعتبار الدور الذي قام به مشروع الجزيرة في دفع مسيرة الاقتصاد السودان لعقود، وكن النساء كمالكات للأرض منتجات وفاعلات في صياغة ذلك الدور.
خلاصات الورقة:
1- ملكية الأرض في عموم السودان تمثل عاملاً اساساً في تأجيج الصراع الاجتماعي وفي نشوب الحروب، وبالتالي عاملاً في عدم الاستقرار، مما يهدد الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للسودان، بل ووجوده ككيان ودولة.
2- إن قضية الأرض في مشروع الجزيرة والمناقل، إن كان إيجارها او ملكيتها، تمثل مهدداً حقيقياً، وبذات المستوى المذكور عاليه، فهي تحتاج لمعالجة عاجلة وجادة.
اقتراحات في سبيل المعالجة:
1- الاتفاق حول مبدأ ان المشروع يمثل وحدة اقتصادية واجتماعية وتنموية واحدة، وغير قابلة للتجزئة.
2- مطالب ملاك الأراضي هي مطالب مشروعة، يجب مواجهتها بكل صدق دونما تذاكي وتحايل من قبل الدولة.
3- ان تقوم الدولة بدورها كمالكة وراعية للمشروع، والبعد عن تسييس قضاياه وعدم تجييرها في خدمة اجندة الدولة السياسية
4- الإشراك الحقيقي للمزارعين، ملاك وغير ملاك، في أيجاد الحلول لقضايا الأرض، وذلك عبر ممثليهم الحقيقيين الذين يتم اختيارهم ديمقراطياً.
الخاتمة :
إن المعالجات التي تمت بخصوص مشاكل ملكية الأرض في مشروع الجزيرة حتى الآن، وإلى حدٍ كبير، لم تكن في مستوى الخطورة التي تشكلها هذه القضية. إن مشاكل ملكية الأرض في الجزيرة تمثل، ودونما تضخيم، قنبلة موقوتة تهدد ليس الجانب الاقتصادي للمشروع لوحده، وانما تهدد وجود التماسك والتساكن الاجتماعي، وفي نهاية المطاف تهدد كذلك وجود الانسان في هذه المنطقة، التي يرجع تاريخ السلام الاجتماعي فيها إلى القرن الخامس عشر، اي إلى ما قبل بدايات الظهور الأول لدولة الفونج
++++++.
صديق عبد الهادي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.