خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    كمين في جنوب السودان    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحت تأثير خدرٍ كحولي خفيف
نشر في الراكوبة يوم 29 - 06 - 2017

في نحو السابعة صباحا، تحت تأثير خدرٍ كحولي خفيف، بدأ حامد عثمان مزاولة أعماله اليومية المعتادة داخل مكتبه، بمطالعة كتاب نجم محمود:
"المقايضة: برلين -بغداد".
كاد النهار أن ينتصف لحظة أن رنّ جرس هاتفه الجوال.
سيتذكر حامد عثمان أنّه حدد، قبيل أن يرن الجرس بدقائق، أبعادَ ذلك الشعور المقبض، الذي ظلّ ينتابه أثناء بحثه، في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، من حين لآخر. فضحك بفتور، لاكتشافه أخيرا أنّه ظلّ يمارس وظيفة مساعد الباحث تلك كعقائدي، لا يخلو في بناء مواقفه "من تعصب"، وهو ما لم يكن جديرا بباحث محترف، حيث يأخذ مثلا في ذرف الدمع سخيّا، وهو يتابع قراءة مشهد "السفلة"، أو.. "أولئك الأوغاد"، وهم يقتادون زعيم الحزب الشيوعي العراقي فهد "ذلك المغوار" لإعدامه. وكان يشرع كذلك داخليا في الغليان، وهو يعثر في أثناء بحثه مثلا عن دلائل "قويّة جدا"، لا تقبل الدحض أبدا، عن تخاذل " الرفاق السوفييت المخزي الجبان"، في لحظة أشد ما يكون فيها "رفاق العراق" حاجة "إليهم". ثم بذلك الاشمئزاز، الذي يصيب الصخرَ نفسه بالغثيان، يتفل حامد عثمان أخيرا باتجاه وجه الفراغ المحيط، قائلا: "ثم ليخصي الشيطانُ إذن ذريةَ الكفرة هنا بقدسِ مبادئنا".
مبكرا، في نحو السادسة صباحا، هبطت عربة الأجرة السوداء القادمة من ضاحية مدينة نصر، من كوبري السادس من أكتوبر العلوي. ما أن لامست بعجلاتها منتصف أرض ميدان عبد المنعم رياض، في انطلاقها ذاك، باتجاه الجامعة الأمريكية في ميدان التحرير القريب؛ حتى طلب حامد عثمان، كمن تذكر على حين غرة أمرا هاما، من السائق الشاب، أن يتجه به صوب منطقة الأوبرا، وينزله هناك، تماما عند منتصف كوبري قصر النيل الأثريّ. رمقه السائق لحظتها بنظرة جانبية بها من تناقض المشاعر المتدافعة خطفا الكثير. فابتسم حامد عثمان رامقا السائقَ الغارق، في حيرته للتو، وراء المقود المبطن بدائرة رمادية، من الجلد الصناعي القديم المتشقق، أما العربة فقد توقفت منذ ثوان عن الحركة تماما. هكذا، شرع، حامد عثمان، في مد ساقيه، على استقامتهما، وهو يرتفع، بمقعدته قليلا، بينما يخرج محفظته المنتفخة، وقد فعل ذلك بما بدا صعوبة تامّة، من جيب بنطلونه الخلفي، أو.. كما لو أنّه يحاول عبر كل ذلك التباطؤ وباختصار شديد أن يهدئ من روع ومخاوف ربما قد تكون ناشئة هناك، في نفس السائق، للتو والحين، من وجود راكب معه، بنزعة والعياذ بالله "انتحارية". ما لبث أن تصاعد هدير محرك العربة المبتعدة.
كان رهط من السيّاح "الأجانب" قادما من اتجاه الجيزة. السماء مكسوة بسحب رمادية كثيفة متحجرة. القاهرة لم تستيقظ بجنون مركباتها الطليق بعد. وضع حامد عثمان شنطة الظهر حذاء حاجز الكوبري. أخرج علبة بيرة هنيكين الخضراء الشهيرة. وبدأ يرتشف منها. ثمة شعور غامض بالحنين أخذ يصارعه خفيفا إلى منابع النيل ومصادره الأولى، وهو ينظر إلى الأمواج الرمادية القادمة في تلاحقها، تباعا من اتجاه مبنى ماسبيرو القريب. إلا أنّه سرعان ما التفت، وحيّا رهط السيّاح، الذي وصل أخيرا محاذيا له، بسحنات وملامح وجوه أفراده المبتسمة. كانوا يؤدون رياضة الصباح. ويصلحون من حين لآخر من شعورهم الكستنائية والشقراء الذائبة نعومة، في الزوبعة الباردة الخفيفة لهواء النيل المنبعث من أسفل. وقد صدرت عنهم ضجة حميمة بدت عفوية. وهم يبصرون علبة البيرة تلك في يده. فحيّاهم مرة أخرى رافعا العلبة في الهواء قليلا كما لو أنّه يرفع نخب الرياضة في تأجيل الإصابة بأوبئة الشيخوخة التي لا تحتمل. ثم.. تابعوا خطاهم الرياضية تلك قدما، باتجاه ميدان التحرير، ليعود مرأى النيل، ويملأ عينيه وقلبه مجددا، بالوحشة والشوق والحنين، إلى ما قد لا يمكن الآن تحديده. فسأل نفسه إذ ذاك، بصوت عال، قائلا:
"أتظن أن الظرف غدا ملائما الآن لمقابلة نجم محمود في المكتب"؟!
ذلك إذن صوت مها الخاتم، طرق أذنه، على غير توقع، وهو يدعوه، بما بدا نبرة تردد خفي حيية مستكشفة، لحفل شاي تقيمه هي "غدا"، في شقتها "القريبة من شقته"، في مدينة نصر. ثم لسبب ما، أضافت وهي تضحك على نحو بدا ملغزا، قائلة:
"بالتأكيد، سيحضر الآخرون الحفلَ، كذلك، يا رفيق".
كانت تعني، بأولئك "الآخرين"، ما تبقى من أعضاء الخلية، الذين من بينهم أعمى لا يحضر إلى مكان، إلا ويكون في معيته دائما قطار مسرع من الخبث لا سبيل لوقفه، أو هذا على الأقل ما قد فهم حامد عثمان، الذي أخذ يفكر عندها بحزن في نفسه، وهي لا تزال منصتة هناك، على الجانب الآخر من الخط، تنتظر جوابه؛ قائلا:
"الأوغاد دائما هناك، يا حامد".
سألها قاطعا متاهة صمته تلك:
"لعلها مناسبة سعيدة، يا مها"؟!
قالت: "بالتأكيد، يا رفيق حامد".
وهو يحسّ بشعور الصيّاد في مكمنه لحظة أن يرى الضحية تتهادى وادعة مطمئنة نحو فخٍ الشيطان نفسه شارك في نصب شِراكه، أضافتْ هي قائلة: "إطلاق سراح القيادي منتصر الزين مناسبة تدعو للاحتفال". قال:
"طبعا".
وواصل: "عظيم. فأمر الفرار من بين أنياب الطغمة أشبه بالعثور من بعد يأس على أسباب الحياة الضائعة". وقد لاحظ حامد عثمان تاليا في أثناء انتظارها ذاك لتأكيد حضوره "غدا" أن نبرة صوته بدت متكلفة نوعا ما، ورد السبب، في قرارة نفسه، إلى رنين الهاتف الذي باغته، فلم يعد بوسعه الخروج الحال تلك بسهولة من حقل اللغة "العلمية"، التي ظلّ غارقا في حبائلها منذ الصباح الباكر، ومن ثم مواجهة حضورها ذاك المربك أصلا بطبعه في كل الأحوال، لا مثل كتابٍ سمّه "متحدث"، بل مثل إنسان فلنقل لا "في حاجة ماسّة إلى الحذلقة"، بل "إلى المضاجعة"، لا أكثر، ولا أقلّ، "يا حامد". بعد برهة ممتدة أخرى من الصمت، قال:
"للأسف لن أتمكن من الحضور، يا مها".
وتوقف كما لو أن الكلام سقط في هاوية.
كان الصمت حجر الزاوية في بناء شراكه.
كما قد توقع، لم تسطع هي صبرا. فسألته:
"لماذا، لا تود إذن حضور حفلنا، يا حامد".
وتخيل ملمحَ حزن وهو يرتسم على مُحيّاها.
قال: "عاهديني يا مها ألا تخبري أحدهم؟!".
مجددا تخيل الحيرة وهي تطبق على خناقها.
"إذن لك ما قد أردتَ يا رفيق حامد. أوعدك".
فقال بما بدا أسى: "سأزور المقابر في الغد".
وكما قد توقع أن تلتمس منه توضيحا "ماذا".
عندها، عندها فقط، أخذ حامد عثمان يتبع خطى تنفيذ ذلك السيناريو المعد في دهاليز وحدته القاتلة، قائلا: "نعم. سأزور المقابر، غدا، يا مها الخاتم. فعذرا إن صادف ذلك موعد حفلك. أفعل ذلك دائما، في نهاية كل أسبوع، ولي بالمناسبة طقوسي قبل الزيارة: أطفئ النور مساء. تكون النوافذ مغلقة. أتمدد على السرير. ثم أبدأ التفكير في موتاي. تماما كما لو أنني أقوم بدفنهم مجددا. ربما أشرح لكِ لاحقا هذا الأمر الذي قد يبدو لكِ عبر هذا الهاتف ربما ضربا من الغرابة أو الجنون. ولكن تذكري أنّه سرّ، لا أود أن يُساء فهمي، ورجائي ألا يتسرب إلى أذن أيا كان من الرفاق، بالذات إلى مسامع ذلك الأعمى اللعين".
كان من الواضح لها أنّه يبذل على الطرف الآخر من خطّ الهاتف جهدا خارقا ليتابع سرد أكثر ما قد سمعته طوال حياتها حتى تلك اللحظة غرابة. وبنبرةِ صوت مَن اعتاد على توقع الأسوأ، قالت "لم أفهم بعد". لم يعقب. ولم تستطع هي صبرا، وهو ما توقع حدوثه كذلك، إذ سألته:
"هل مات لك هنا أخ أو صديق أو قريب، مثلا؟".
ولم يلتزم الصمت، هذه المرة.. على ذلك الجانب.
بل أغلق السماعة، كما لو أنّه فقد الاتصال فجأة.
لم يجب تاليا على نداءات الرنين المتكررة بإلحاح.
قال في نفسه "كلما كان غامضا.. كلما بدا جذابا".
مر نحو الأسبوع، على تلك المحادثة، وكان حامد عثمان يتجرع وقتها، داخل مكتبه، شيئا من قارورة، ظلّ يجلبها، كلما تباعدت زجاجات ريسان الكوفي، من إحدى شقق العرقي المتناثرة، على أطراف مدينة نصر، عسى أن تخفّ وطأة الحنين، على عتبات روحه، قليلا. أو كما لو أن الخمر وقود، لا بد منه، للمضي قدما عند متابعة أشياء، عسير على المصران هضمها، مثل كتابة تلك الأبحاث المريبة. ولم يفطن حامد عثمان الحال تلك إلى أن الغروب حلّ منذ بعض الوقت، وأن محض كأس واحدة تبقتْ هناك، في قعر زجاجة العرقي، ومع ذلك، لا شيء قد تغير هناك، إذ لا يزال على الدرجة نفسها من المكابدة، وهو يغالب وطأة حزن كثيف آخر لا علاج له باغته تقريبا، على مشارف الأصيل، ومن دون أي سبب واضح، وإن بدأ يتكاثف ثقيلا على قلبه، بعد أن أمسك به الشيطان من عينيه، وأخذ يتنقلّ بمساره البصري ذاك، في مادة بحوثه المتوافرة، في أي مكان داخل المكتب. وقد كان ريسان الكوفي يمتلك بالفعل قدرا هائلا من الكتب والمراجع والمصادر والنشرات السريّة للثوار تعود إلى أزمنة تبدو الآن سحيقة وموغلة حثيثا في البعد والنسيان. كان حامد عثمان يمسك مثلا بوثيقة، فيحسّ كما لو أن ثائرا ألقى بها للتو في يده، بينما يقف هو على ناصية شارع ما في مدينة البصرة، أوائل الخمسينيات. ويتساءل: "ما الذي يقف إذن وراء ريسان الكوفي هذا"؟!
في حوالي التاسعة ليلا، بدا حامد عثمان منهكا، ومع ذلك، ظلّ يتابع السير، بالذهن الخامل نفسه، على مسار ذلك البحث، الذي يتناول انشقاق الحزب الشيوعي العراقي، إلى جناحي "القيادة المركزية"، بقيادة عزيز الحاج علي حيدر، و"اللجنة المركزية" بزعامة عزيز محمد الموالي للسوفييت. فجأة، تصاعد رنين الهاتف داويا. أما تلك، فكانت مها الخاتم، على الجانب الآخر، من خطّ الهاتف، وهي تطلب مقابلته، "قريبا لو سمح ظرفك"، في "مسألة خاصَّة". ففكر في نفسه: "لعل بذرة الفضول التي رميتها قبل أيام على تربة بستانها نمت الآن". لم يخب حدس حامد عثمان، حين أردفتْ كمن يضع سببا للمقابلة: "ولكن أولا ما الذي كنت تفعله يومها في المقابر، يا رفيق"؟ مرة أخرى، أخذ هو يرجوها، بهدوء النهر المنطوي، على انفعال المنابع، أن تحضر، إلى مكتبه "أولا"، "ربما غدا"، بعد منتصف النهار. أو كما لو أن ينبوع السؤال قد تفجر ثانية داخلها:
"أتقول مكتبك يا رفيق حامد"؟
أدرك حامد عثمان حالا، تحت تأثير العرقي المتأخر نوعا ما، ولكن المتزايد، أنّه لم يسبق له أبدا أن أخبر أحدهم بنوعية عمله ومكانه ذاك، وقد اعتمد هنا الأرجح على عودة معاوية الكامل الطوعية تلك إلى الوطن، في بحر أقلّ من أسبوع على تلك الزيارة، حاملا معه ملابسات لقاء حامد عثمان، كشاهد وحيد، بقريبه بهاء عثمان، سبب الصلة المباشرة، بينه وريسان الكوفي. كذلك ألفى حامد عثمان نفسه محاطا بالغموض، وجهل المحيطين به بأكثر مواقعه عادية في العالم كالمسكن أو مكان العمل، إثر استفحال خشية بدت مرضية من النّاس، ومدفوعة من داخله بمخاوف من أن تترصده إمكانية "زوال النعمة"، مثلما ظلّ يردد أحيانا. وقد صنع تلك الجزيرة، وسط بحر من الحذر والتمويه وإن شئت المراوغة الحاذقة، هو الفار حديثا من جحيم الفقر وشقيقه المدعو "الحرمان". فأخذ يشرح لها، عبر الهاتف، في عجالة، "لماذا أنا متكتم هكذا، يا مها"، مشددا عليها في آن الأرجح لا جريا على عادته في تلك الأيام فحسب، بل تأكيدا لعادته تلك نفسها، على ألا تخبر "أحدَ أولئك الرفاق"، بأمر وظيفته، ثم.. "حاذري من فخاخ الأعمى اللعين بالذات، يا مها". إلا أنّ حامد عثمان كان يضع بذلك، أي على طريقة تمويه الفخاخ بالحديث عن الفخاخ، أولى تلك اللبنات، في هيكل الأسرار الأبدي بينهما. أجل، "امنح الأنثى أمانا وستذهب معك إلى نهايات سرير العالم". ولا يدري هو كيف قضى ما تبقى من الليلة وأجزاء أخرى من نهار تال في انتظار فتاة يكاد يقتلها الفضول، لرؤية ما ظلّ متواريا، خلف زياراته المنتظمة للمقابر..
قالت فور وصولها:
"أمرك غريب حقا"؟
هكذا، لم تستطع مها الخاتم أن تخفي مدى دهشتها المتسع، وهي تعاين أجواء وظيفة حامد عثمان وفخامة المكتب، لأول مرة، وقد راعها عميقا عمق تكتمه ذاك، بإخفاء كل شيء قد يتعلق، بحياته الخاصّة، عن النّاس.
لقد بدا واضحا، عقب انقطاع المكالمة التلفونية، التي اعتذر فيها حامد من تلبية دعوتها، أنّها لم تكفّ لحظة، عن التفكير، في مسألة زيارة المقابر المنتظمة تلك. وحدث شيء طارئ، كاد يفسد شراك حامد عثمان، التي دأب، في وحدته المزمنة، على نسجها، بأصابع خيال أسود حالك. فما أن يبدأ النظر إليها، وهي جالسة هكذا قبالته، أسيرة الدهشة والحيرة ونفاد الصبر، حتى يبدأ في تخيلها عارية، إلى جانبه، على السرير. كان عليه إذن أن يضبط فاعلية شراكه بالحركة، فغادر جلسته المتخشبة وراء المكتب، واتجه بخطى خاف أن تخذله نحو ركن داخلي، حيث قام بفتح باب ثلاجة صغيرة، وأحضر لها زجاجة مياه معدنيّة. أربكه مجددا نظرتها، وهي تتناول زجاجة المياه من يده، أي كما لو أنها تراه، مثلما حدث أثناء ذلك الاجتماع، للمرة الأولى.
أخيرا، تمكن حامد عثمان أن يعود أدراجه وراء المكتب.
هدأت نفسه قليلا. وأخذت تعود واضحة إلى ذهنه، ملامح الفخ. ثم لم يصدر عنه ما يشفي غليلها بعد. أما هذا فجزء من "الخطة"، لو لا أنّها باغتته، مرة أخرى، وقد اختفى عن وجهها قناع التي كان سيقتلها منذ دقائق الفضول، وأخذت تضحك، هكذا بعفوية، من لغز الموقف كله. جاراها هو في الضحك. أما هناك، في أعماقه الخفيّة، فقد شعر، بهبوب ريح معاكسة، كالسخريّة ولا بد، قد تزلزل أركان عرش فخه القاتم كرصانة قبر، فأرسل اللعين حالا ببصره بعيدا وراء إحدى النافذتين الكبيرتين المطلتين، على شارع محمد محمود، وهو يقول: "ليست هي بالمقابر الحقيقية، يا مها"، واختنق الصوت (يا للغرابة) في حلقه، أو كما لو أنّه يوشك بالفعل على البكاء. ثم شعر ولم يفق من آثار ضحكتها المباغتة تلك بعد كما لو أنّها أمسكت بعروق قلبه عندما أجرتْ أصابع يدها اليسرى هناك، ما بين أذنها وشعرها. مجددا احتاج إلى ثوان يستعيد خلالها توازنه الهشّ القابل للتأرجح في أية لحظة.
قل في نفسه "رزق ساقه الله إليك فلا تجعله يفلت بحماقة". ثم قال:
"فالمقبرة تلك لا تنطوي سوى على جثث تجاربي الماضية، يا مها".
وكانت فخامة المكتب تضفي على كلماته امتياز القابلية للتصديق.
"إذا لم نتأكد جيدا من دفن تلك الجثث، تعود برائحتها التي لا تحتمل، مفسدة علينا نقاء الهواء، ثم ما نلبث أن نختنق، فنموت". كان على حامد عثمان إذن أن يبذل جهدا وافرا لتوضيح فكرة الوجود المجازي لتلك المقابر: "فالمنفى، يا مها الخاتم، مثل حيوان خرافي لا مرئي يكبر متضخما كلما طال أمد بقائه وتكبر معه حاجته التي لا تنتهي من أجساد المنفيين الغرباء وأرواحهم. إنه يحصد أجمل ما لديهم وفيهم. لا يتركهم في نهاية المطاف سوى جثث تسعى. المنفى (يا مها) سرطان الحواس. يبدأ بحاسة البصر وينتهي بحاسة اللمس. فإذا العالم يخف حتى يبدو وكأن لا وجود له هناك. عندها تغيب الفواصل، تتداخل الحدود، يختل سُلَّم الأولويات، وتندثر القضايا الكبرى تحت ركام كثيف من الحروب الداخلية الصغيرة الطاحنة. والمنفى حين يطول أمد بقائه (يا مها الخاتم) يتحول تدريجيا إلى مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة: السلطة المخولة ضمنيا لقتل الأذكياء وصناعة أبطال من ورق يخالها الساذج جميلة حين تطل في خيلائها من على عرش فراغها ذاك المكتظ دوما بروائح المقاهي ومجالس الحجرات المؤجرة كمصانع خفية لإلحاق الأذى بمن لا يزال يمتلك هناك عقلا حيّا وسط سهول هذا الموات المترامي كالأسى هنا وهناك". أو كما لو أن حديثه راق لها، أخيرا. حديث أراد له حامد عثمان منذ البداية وعلى غير ما ظلّت تقود إليه جملة تلك الطرق المتعارف عليها في الإغواء أن يلامس بالمفردات الكثيفة للموت جراحها المقيمة برفقِ ورقةِ أن وهم الشفاء لجرحٍ تعفَّن لقرارات طائشة في الماضي أمر يمكن أن يغدو حقيقة. "أقول لك شيئا، يا حامد". وبعد صمت: "أنت إنسان. إنسان بالفعل. يا حامد. لا أجاملك، أبدا، يا حامد. أنت مختلف. أعني تقدمي حقيقي". أطربه أن مها الخاتم تردد اسمه اللعين على نحو كاد أن يدفعه إلى الرقص بغتة.
هكذا، في وقت مبكر جدا، أخذتْ تتراجع، عن ذهن مها الخاتم المنهك، قضايا الثورة والحرية والهويّة وتحرر المرأة والتنمية المتوازنة والمساواة والحرب والعدالة العمياء والسلام والتوازن البيئي وغيرها من هراء هذا العالم، ولم يعد يشغلها أثناء توغلها داخل مدى شراكه شيئا فشيئا لا مغبة الوقوع، بل أمر الكشف عن أحد أسرار حامد عثمان الصغيرة: "حفر القبور، دفن الجثث، ثم مواصلة المضي قدما، نحو آفاق مستقبلية، دون أدنى مرارة، أو ندم". قبل كل ذلك، والنهار يغادر منتصفه بالكاد، قال حامد عثمان مقلّدا نبرة ريسان الكوفي يومها:
"تفضل، يا مَن هناك"، تقالها بالإنجليزية وتاليا بالعربية.
وكان تناهى طرق بدا خجولا على باب المكتب الموارب.
ورآها حامد عثمان تاليا، وهي تطل أخيرا عليه، وعلى وجهها دهشة ممزوجة، بشك وحذر وآثار بثور سوداء متفرقة. لا شك أن جدار روحها آخذ حثيثا في التآكل منذ مدة.
في أثناء اجتماعات الخلية الجديدة، بدا من العسير عليه، كلما وقع بناظريه عليها، تقبل فكرة المطابقة بينها هي الآن وبين ما رآه بوصفها هي لأول مرة، في فناء مكتب الأمم المتحدة. ولحظة أن جلستْ قبالته داخل المكتب لأول مرة كان حامد عثمان على علم تام تقريبا بأحوال فريسته المحتملة. والمعلومات يسيرة. لم تكلّفه سوى دعوة منتصر جيفارا على بيرة في مقهى علي بابا المطل على ميدان التحرير. قال حامد عثمان عند منتصف الزجاجة الخامسة لكليهما: "لا أعتقد أن جمال جعفر مارس علاقة كاملة معها". وأوصى الجرسون علاء بزجاجتين أخريين. ما أن تجاوزا الزجاجة العاشرة حتى أخذ حامد عثمان يقتنع، لدقة أوصاف جيفارا وموثوقية معلوماته النهائية غير القابلة بالمرة لأي مراجعة محتملة، أن جيفارا اللعين هذا كان يقاسمهما السرير كمتفرج، بالنيابة ولا بد عن الفضيحة. غاظ ذلك حامد عثمان. فأخبر جيفارا أنّه ذاهب إلى الحمّام، فغافله وخرج من المقهى، وهو على يقين تام أن ما في جيب جيفارا لحظتها لا يكفي لشراء زجاجة واحدة. إلا أنّه سرعان ما عاد مترنحا. ونادى على الجرسون علاء. فنقده "الحساب". وغادر من دون أن يقوم بوداع جيفارا. كان العالم مقفلا وقتها أمام مها الخاتم بعد أن فشلت آخر محاولاتها للقبول في مكتب الأمم المتحدة كلاجئة. أما عملها في تلك المنظمة الأمريكية فقد بدا عُرضة على الدوام للفقدان. كان الأكثر تصديقا آثار أقدام الشائعة تلك على وجهها. سوى أن جسدها بدا قبالته ممتلئا قليلا. جسد يشع منه نداء رغبة مَن عرف وخوف مَن لا يزال يدفع ثمن رغبة لا ثمن لها في عرف العالم المحيط به سوى العار أو الضياع. "في اللحظة التي شرعت أفكر فيها في أكل الصراصير، في شقة عين شمس (يا مها)، جاءتني هذه الوظيفة، كمائدة هبطت من السماء، وفي الواقع أكلت بعض تلك الصراصير بالفعل، لكنها تكون أكثر لذاذة حين أُغليها مع قعور البصل التي أختلسها أحيانا من أكياس قمامة الحاج إبراهيم العربي التي يقوم شخص ما بوضعها ليلا عند مدخل البناية". شيئا فشيئا، أخذتْ مها الخاتم تنتعش بالهواء البارد للمكيف وبروعة أكاذيب حامد عثمان المتقنة، والمفصَّلة ولا مراء بمهارة، "على مقاسها". وكان تفاعلها المطَّرد ذاك، يدفع بحامد عثمان للمضي، حتى في أثناء زيارتها السابعة، إلى متابعة حياكة الشراك قدما، على منوال الحزن نفسه، بينما الحنين إلى ما بين ساقيها يُضفي على نبرة صوته مسحة صدق آخر بليغ وتأثر. أثناء ذلك، ظلّت مها الخاتم تتوغل داخل عينيه. بمشاعر متناقضة. كما لو أنّها تبحث هناك عن نثار يشبه نثار حكاياتها القديمة مع جمال جعفر. ذات يوم، من أيام شهر ديسمبر الباردة، وحامد عثمان يرى دمعةَ تعاطف مع مأساة أخرى اختلقها كذلك هو للتو وهي تسيل متدفقة من إحدى عينيها، أدرك أن الضحية لا محالة واقعة. كيف لا، وقد طلبتْ منه، عند زيارتها الثامنة، برجاءِ غريبةٍ لغريب، أن "نكون" معا، على تواصل أكثر، "في الأيام القادمة، يا رفيق".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.