السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح الدولة الأمريكية - ترمب والإنتلجنسيا الجديدة
نشر في الراكوبة يوم 24 - 07 - 2017


توطئة
التحليل السياسى ومن ثم إستراتيجيات الاحزاب والفعاليات السياسية فى السودان (وينطبق هذا على معظم الدول الطرفية) غارقة فى المحلية التى تحول دون التفكير فى العمل السياسى وممارسته فى إطار نظرة لا يغيب عنها تاثير العالم على البلاد بهدف إجبارها على الإمتثال لخطط الدول العظمى التى جعلت النطاق الجغرافى للدول الفقيرة تابعاً لها من أجل خدمة مصالحها. ومن هنا جاءت فكرة هذا المقال من منطلق أن التخلص من الإفراط فى المحلية يستلزم، كخطوة أولى، الإلمام بطبيعة دول العالم، وبالاخص الدول ذات الأثر الأكبر فى العالم والإتجاهات السياسية الفاعلة فيها. والمقال محاولة لعرض أهم ملامح الدولة الأمريكية ومغزى فوز ترمب بالرئاسة فيها.
كما أن المقال عبارة عن التوسع فى كلمة كانت جزءاً من سلسلة مقالات للكاتب فى نقد نسخة " محلية" لمفهوم "نقد العقل" رأت، فيما رأت، أن صعود دونالد ترمب للسلطة السياسية فى امريكا هو "إنتصار لعقلية الكاوبوي التى كانت مختبئة تحت قشرة الحداثة الأمريكية" فى إنتظار اللحظة المواتية للكشف عن نفسها"!!
المقال
أمريكا: ملامح عامة
* أمريكا بلد محافظ حيث ما زال المحافظون فيه يؤمنون فى أن أمريكا تخصها عناية إلهية عَبَّر عنها أوتو فون بسمارك بقوله: " هناك عناية الهيه تحمى الاغبياء والسكارى والاطفال والولايات المتحده الأمريكية."
"There is a providence that protects idiots, drunkards, children, and the United States of America"
ومناهج التفكير فى أمريكا فى مجالات إدارة الدولة والمراكز البحثية والاوساط الإعلامية،إلخ، كما فى كل دول الغرب، يغلب عليها الطابع البراغماتى. وحتى االعواطف لم تسلم من البراغماتية؛ فكثيراً ما يستشهد الأمريكان ببيت الشعر الذى صاغه الشاعر الإنجليزى "ألفرد تنيسون": "من الأفضل أن تكون قد احببت وخسرت من أن لا تكون قد أحببت إطلاقاً"-
"Tis better to have loved and lost than never to have loved at all."
والشاعر لم يقصد بقوله غير المعنى الحرفى (literal meaning)؛ وهو اراد ان يقول أن تجربة متعة الحب أعظم من الألم الذى تسببه خسارته؛ وهو راى يخالف مبدأ التريث المتسم ببعد النظر قبل الإقدام على الشغف الأعمى بكائن أو فكرة ما خصوصاً إذا ما أستخدم القول المعنِىّ مجازيا (metaphorically). والمعنى الذى رمى اليه الشاعر يوجد أساسه فى نظرة متجذرة فى العقلية الغربية تركن إلى حبس العقل فى حدود الإنطباعات الحسية والإستقراء المنطقى للوقائع عن طريق الحدس.
* من أهم معالم بداية اليوم فى أمريكا هو دق جرس افتتاح التداولات في سوق نيويورك للأوراق المالية حيث يؤشر هذا الحدث الى بداية يوم جديد فى عمل الدولار الذى تدور مع دورانه القوة الهائلة (juggernaut) للإقتصاد الأمريكى المتعطشة لتحقيق الأرباح.
* طبيعة الدولة الامريكية- دولة رأسمالية تحكم بنظام حزبين (two party system)، الديمقراطى والجمهورى، يتبادلان الحكم عن طريق الديمقراطية الليبرالية الجفرسونية (الشكلية). والحزبان مجيران مسخران لحماية النطام الرأسمالى، والتناقض بينهما يعكس المصالح المتضاربة للراسماليين كسمة متأصلة فى نظام الإنتاج السلعى وخاصة فى دولة مثل امريكا ينتشر فيها الانتاج، ذو الاوجه المتعددة، مغطياً مساحة شاسعة من الارض.
* الاقتصاد الامريكى يقوم على أساس الملكية الخاصة الراسمالية و العمل المأجور الذى يُستغل لتحقيق فائض القيمة ومن ثم الربح فى مجرى عملية إنتاج البضائع. وهكذا فإن التناقض الأساسى فى أمريكا هو بين راس المال والعمل المأجور. والنقطة المهمة والتى تغيب عن بال الذين يروجون لمسالة تراجع الطبقة العاملة كقوة اجتماعية فى الدول الرسمالية المتقدمة هى أن العمل المأجور هو العمل المجرد المقيس بالوقت لإنتاج البضائع غض النظر عن طبيعته، سواء فى المصانع أو فى مجال الخدمات، ومن يقوم به. وإنطلاقاً من هذا التجريد فإن التناقض بين رأس المال والعمل المأجور يجد تعبيره فى أمريكا فى تحقيق فائض القيمة الإجتماعية؛ فالإنتاج القومى، الذى يشمل السلع الملموسة (tangible) او الخدمية، يتم تخصيص قيمته لصالح المالكين لوسائل الإنتاج بعد خصم إجمالى الاجور والضرائب وخدمات القروض، الخ. وهكذا فإن الخيط الذى يربط معظم الأحداث السياسية هو التناقض بين رأس المال والعمل المأجورالذى يتمظهر حالياً فى نظام يركز أربعين فى المائة من الثروة فى يد واحد فى المائة من السكان والتململ مؤخراً وسط التسعة وتسعين فى المائة الآخرين وإحتجاجهم علي عمله كما حدث فى"حركه-احتلوا وول ستريت- (occupy wall street) سبتمبر2011"
* شهدت أمريكا خلال العقود الخمسة الأخيرة تراجعاً كبيراً فى التصنيع (de-industrialization). وهذا يعزى أساساً لإرتفاع تكلفة العمالة وبالتالى نزوع أرباح الشركات الخاصة للتدنى الشيئ الذى يجعل تصدير رؤوس الأموال للبلدان الطرفية، حيث الأجور المنخفضة، أمراً محتماً تتوقف عليه إستمرارية النظام الراسمالى الامريكى؛ وهذه هى الخلفية لظهور الإستعمارية الرأسمالية الأمريكية (American imperialism).
* الناتج االمحلى الإجمالى الامريكى يعادل حوالى 19 تريليون دولار ( حوالى 17% من الناتج المحلى الإجمالي لكل دول العالم: 114 تريليون دولار) وهو يفوق الصين التى يعادل إنتاجها 11 تريليون دولار. وتعانى أمريكا من عجز مزمن فى ميزانها التجارى يقدر حالياً ب 500 مليار دولار؛ والعجز فى الميزانية الفيدرالية الأمريكية يبلغ أكثر من 3 تريليون دولار.
* الدين العام يقدر بأكثر من 19 تريليون دولار وهو مبلغ لا يشمل الالتزامات غير الممولة للاستحقاقات المختلفة (unfunded liabilities) كأموال الرفاهية(welfare) وتقدر بأكثر من 60 تريليون دولار. المديونية تفوق الناتج المحلى الإجمالى.
* الجيش الأمريكى أقوى جيش فى العالم. وامريكا هى البلد الوحيد الذي استخدم السلاح النووى فى أغسطس 1945 عند نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اليابان فى هيروشيما وناجازاكى. ولتعزيز هيمنتها على العالم، توسع أمريكا سنوياً حجم الإنفاق العسكرى وتبلغ ميزانية الدفاع الأمريكية حالياً أكثر من 700 مليار دولار (17% من ميزانية الدولة).ً
* المجتمع الأمريكى مجتمع إستهلاكى (consumerist society). متوسط الإستهلاك المنزلى للفرد الأمريكى يعادل 35,000 دولار سنوياً (مقارنة ب 4,000 "11%" دولار للفرد فى السودان و1,600 "5%" دولار للفرد فى إثيوبيا؛ وفى الواقع إن نسبة إستهلاك الفرد فى الدولتين أقل من هذه النسب بإعتبار أن متوسط إستهلاك الفرد لا يعكس التفاوت الكبير فى دخول الفئات الإجتماعية المختلفة). ومجموع الاستهلاك المنزلى الأمريكى 11.4 تريليون دولار 27% من الإستهلاك العالمى. وحوالى 68 مليون شخص "22%" من الأمريكيين يعتمدون على مساعدات مختلفة تقدمها الدولة ومعظم الأمريكيين مديونين للمصارف، فمن النادر أن تجد شخصاً لايتعامل بالبطاقة الإئئتمانية، والتي هي شكل من أشكال المديونية للمصارف.
* صارت معظم النشاطات الإجتماعية والتعاملات الإقتصادية ومنها مختلف أشكال المتاجرة فى أمريكا تتم إلكترونياً فى المجال الإفتراضى (virtual domain) من خلف شاشات الكمبيوتر؛ وحتى العملة بدأت تأخذ لها مكاناً فى نطاق التعامل الإفتراضى بظهور ما يسمى بالنقود الرقمية (digital money) أو العملة المشفرة (cryptocurrency).
* تشهد أمريكا تغييراً جذرياً على الصعيد الاجتماعى بإعادة تعريف (re-definition) كثيراً من المفاهيم و أساليب الحياة وتبدل القيم التقليدية التى ترتبط بها مثل مفهوم الزواج، والعائلة والعلاقات الجنسية، الخ. كما أن الدين إختفى من حياة نسبة كبيرة من الأمريكيين. لهذا وفى مجرى هذه التحولات الإجتماعية خسر اليمين المحافظ معركته على صعيد البنية الثقافية والسلوكيات الإجتماعية (الإعتراف بزواج المثليين كمثال) وصارت خاصية التيار المحافظ هى إقتصار دعوته، إلى حد كبير، على المسائل الإقتصادية والمالية.
* يتعرض الكيان الأمريكى لتحولات ديمغرافية ملموسة أدت لنشوء مجتمعات (communities) محلية من المهاجرين من قوميات تتباين معتقداتها وسلوكياتها عن الآيديولوجية الامريكانية " Americanism" حيث أن جورج واشنطن أو العلم الامريكى لا يعنى اى شيئ لمعظم أعضائها.
* وعلى صعيد مشكلة العنصرية فإن قانون الحقوق المدنية لسنة 1964 والتشريعات اللازمة التى تمت لاحقاً لتحقيقه أزال كل اشكال التفرقة والتمييز ضد السود التى ظلت عالقة حتى بعد إلغاء الرق عقب الحرب الاهلية الامريكية (1861-1865). ولكن مشاعر العنصرية المبطنة والتمييز ضد السود، التى تغذيها الدوائر اليمينية، ما زالت تتخذ بعض الأشكال فى المجتمع الأمريكى؛ ورغم المحدودية النسبية لهذه المشاعر العدائية تجاه السود، إلا أن الحزب الديمقراطى يستغلها عبر الترويج لسياسات الهوية بهدف زرع الخلافات بين فئات العمال الأمريكيين المختلفة أجناسهم وعدم توحدهم حول مطلب الديمقراطية الإقتصادية الذى يقع فى دائرة إهتمامهم جميعاً. هذا بالإضافة الى أن بعض النشطاء حولوا التظلم العنصرى الى صناعة (grievance industry) تدر عليهم ثروات طائلة.
* يشير الخبراء إلى أن هناك أكثر من ثلاثمائة مليون قطعة سلاح فردية في أمريكا، هذا بخلاف الأسلحة الغير مرخصة؛ وأن أكثر الأسلحة هي البنادق نصف الآلية من طراز"AR-15" والنسخة المعدلة منها طراز "M-16" وطراز"M-4" المتميزة بإطلاق النار بسرعات عالية. وحمل السلاح يجئ بمقتضى قانون حيازة السلاح الذى أقره الدستور الأميركى (التعديل الثانى-وثيقة الحقوق،1791) باعتبار ذلك حقا لكل مواطن والدافع الأساس لإصدار هذا القانون هو سياسى (بعيون مؤسسى الدولة الأمريكية) حيث أن وجود مليشيا حسنة التنظيم ضرورى لأمن أية ولاية حرة.
الدولة الأمريكية والإنتلجنسيا الجديدة
تشهد الدولة فى أمريكا تضخماً هائلاًً مع إتساع البون بينها وبين عناصر المجتمع الأخرى وتبع هذا ظهور نخبة جديدة من الانتلجنسيا تقود مؤسساتها مستعينة بخدمات إستشارية واسعة. وهذه السمة تأتى مصداقاً لنظرية كارل ماركس الخاصة بالدولة؛ فضمن ملامح الدولة على حسب ماركس بجانب طبقيتها هو أنها فى الراسمالية تتحول لجهاز بيروقراطى ضخم تتوسع الشقة بينه وبين مكونات المجتمع المدنى بما فيها بعض الفئات الراسمالية. لكن هذا التباعد الإجتماعى بين جهاز الدولة وباقى المجتمع لا يعنى إطراح الدولة لمهمتها الاساس الخاصة بحفظ حقوق الملكية الخاصة ولا كونها نتاج تناقضات فى المجتمع غير قابلة للتعايش (irreconcilable)، كما أنه لا يعنى غير تفاقم فصل الدولة السياسية عن المجتمع المدنى الذى يشمل دولاب الإنتاج ( الملكية الراسمالية الخاصة) وهو المبدأ الذى تاسست عليه الدولة الراسمالية أصلاً.
و الانتلجنسيا الجديدة و(مستشاريها) تتمتع بقسمات تختلف عن الصورة الكلاسيكية لهذه الفئة. فهذه النخب، التى تتكون فى الغالب من خريجى الجامعات العريقة (Ivy league)، حولت مؤسسات الدولة لوحدات ذات سطوة عالية تتعارض قراراتها احياناً مع القوانين التى تحكم عملها. وتستمد هذه الإدارات النخبوية قوتها من الطبقة الأولغاركية المالية التى تعود لها فى نهاية الأمر السيطرة على جهاز الدولة الشيئ الذى مكنها من أن تصبح جزءاً من مَنْ يسمونهم فى الغرب بال (pooh-bah). وال pooh-bah هم السادة ذوى المكانة المرموقة الذين يجمعون بين يديهم سلطات واسعة. والانتلجنسيا الجديدة رغم التعليم العالى لافرادها إلا ان افاق معارفهم وثقافتهم محدودة: وصفهم أحد الكتاب بأنهم لا يستطيعون تعريف الأشياء ويميليون فى النقاش الى الثبات فى حالة من الجدل الدائرى ومقدرتهم الاساس هى إجتياز الامتحانات التى يضعها أشخاص مثلهم.
وإتساع نفوذ المسؤولين فى أجهزة الدولة وهيمنتهم على جوانب حياة المواطنيين يجرى فى علاقة طردية مع إزدياد نفوذ الطبقة الأولغاركية المالية الذى إستمدته من إضمحلال الصناعة فى أمريكا. فالسيادة صارت من نصيب راس المال المالى بعد أن أصبح رأس المال الصناعى تابعاَ لها. إنتقل مركز ثقل الإقتصاد من مين ستريت (main street) الذى يرمز الى الإقتصاد الحقيقى المنتج (productive)-التجارة والصناعة- الى سوق المال الأمريكى، وول ستريت (wall street) حيث التعامل فى أدوات رأس المال المالى ومعظمه (fictitious). ورغم أنها فى إدارتها لمرافق الدولة تقف على مسافة واحدة من الحزبين (الجمهورى والديمقراطى) الذان يتناوبان على حكم البلاد فيما يخص هدفها الرئيس وهو حماية النظام الرأسمالى المتمثل فى الأولغاركية المالية، ورغم أن الحزب الذى يصعد لرئاسة الدولة يعين منسوبيه فى الوظائف الحكومية العليا، إلا أن الانتلجنسيا المسيطرة على جهاز الدولة بينها وبين الحزب الديمقراطى ود "خاص". فالحزب الديمقراطى هو الاقرب لسوق وول ستريت المالى من المحافظين فى الحزب الجمهورى الذين ينادون بدعم القطاعات الإنتاجية لزيادة معدلات الثروة وبالتالى التخلص من الدين العام وإستحقاقات الرفاهة الإجتماعية. والإنتلجنسيا الجديدة كوليد شرعى للأولغاركية المالية تتمتع بحماية الحزب الديمقراطى وتستره على تجاوزات سطوتها الإدارية، وفى المقابل تسدد (الإنتلجنسيا) الثمن بالإنحياز أحياناً ضد الحزب الجمهورى، كما حدث مؤخراً فى الفضيحة الكبرى التى تورط فيها مكتب خدمات الدخل الداخلى (IRS) الذى مارس تعسفاً فيما يخص تسوية الضرائب لأفراد ومنظمات لها صلة بالجمهوريين والتى كشفت عن القوة التى يتمتع بها مكتب الضرائب إذ لم تؤد التحقيقات إلى إدانته.
على خطى الإنتلجنسيا الجديدة تسير جل الاجهزة الإعلامية من تلفزيونات وصحف وهوليوود العاصمة العالمية لصناعة الافلام السينمائية؛ والمزيعون والمزيعات والنجوم فى هذه الكيانات يصنفون ضمن فئة المليونيرات ويطلِق عليهم المحافظون صفة "اليسار" وهى صفة تشمل كل التابعين للحزب الديمقراطى. وبالطبع اليسارية هنا لا علاقة لها بأى توجه تقدمى فى المجال السياسى للديمقراطيين ومؤيديهم بل هى إشارة الى مستوى محدود من الليبرالية فى مجال السياسات الإقتصادية والمالية للحزب الديمقراطى (الأكثر إرتباط بالأولغاركية المالية كما مر ذكره!!).
كذلك أصبحت الاكاديميا متوشحة بشعارات ليبرالية يسارية، بالمفهوم السابق ذكره، موضوعها يدور حول عزل اليمين من الحياة الجامعية بصورة كاملة فى إطار من الشعبوية الداعية الى إذابة الفوارق الإجتماعية والإقتصادية بدون طرح أى تصور لكيف يتحقق هذا، وإلى حل قضايا النوع والعنصر بتعزيز سياسات الهوية بدلاً من تجاوزها لصالح ما يوحد شعوب الولايات المتحدة الأمريكية.
دونالد ترمب وال pooh-bah
لا يُفهم إرتقاء ترمب للسلطة السياسية إلا فى إطار إدراك أن نتيجة السباق نحو البيت الأبيض الأمريكى يمر عبر إمرة الطبقة البرجوازية (الأولغاركية المالية) التى بمقتضى الواقع الإجتماعى/الإقتصادى المُعَبَّر عنه فى الدستور وفى سبيل حماية النظام الرأسمالى تفرض هيمنتها على أجهزة الدولة التنفيذية والتتشريعية والقضائية بالإضافة إلى تحكم أذرعها الممتدة على وسائط الإعلام. وبحكم ميلها النسبى نحو الحزب الديمقرطى (الذى أشرنا إليه اعلاه)، فإن الأولغاركية المالية الحاكمة أيدت هيلارى كلينتون المرشحه الديمقراطية فى الإنتخابات الرئاسية الأخيرة.
قاد رجل الأعمال دونالد ترمب حملة إنتخابية باسلوب عملى تجارى (business-like manner) يتنافى مع الأسلوب المحافظ للحزب الجمهورى؛ وكان محور دعايته الانتخابية هو الهجوم على أذرع الحكومة الأمريكية التى وصفها بمؤسسة واشنطن (the establishment) والتى يجب خلخلتها كما راى وعَبَّر عن هذا بشعار تجفيف المستنقع: drain the swamp؛ والمستنقع هو المؤسسية الأمريكية.
وخلافاً للوعظ الجاف فى الخطاب الجمهورى التقليدى، إستطاع ترمب، اثناء حملته الإنتخابية، جذب آلاف الحشود فى لقاءاته الإنتخابية بخطاب شعبوى يسيطر عليه حس فكاهى، وكان كأنه شخصية ديكنزية لغرابة خطابه الشعبوى الذى لم يألفه الناخبون من قبل والغير مقيد بأى مبادئ واضحة.
وجه ترمب جل نشاطه الإنتخابى نحو الكتلة الإقتراعية الصحيحة من الشعب: العمال، النقيض (antithesis) للحزبين الجمهورى والديمقراطى اللذان يشتركان فى الدفاع عن وتكريس الراسمالية؛ لكن يتميز الحزب الديمقراطى عن الجمهورى (الأكثر محافظة) بتملقه العمال ويستغل فى هذا النقابات العمالية والمهنية وفى طليعتها الاتحاد الفيدرالى الامريكى للعمل (AFL) الذى يضم ضمن عضويته اهم النقابات العمالية. فالقيادات النقابية تتشكل من أرستقراطية عمالية تتمتع بوضع مميز يفصلها عن قواعدها والدفاع عن مصالحهم إذ أنها مرتهنة للأولغاركية المالية التى تساندها فى معاركها ضد الجمهوريين الذين يدعون لتقليص العمل النقابى بالترويج للقوانين التى تحقق هذا الهدف؛ وهكذا ظل الحزب الديمقراطى يظفر بأصوات كتلة إقتراعية معتبرة من العمال الذين تحشدهم النقابات. وكان محور خطة ترمب لإزالة البطالة هى تخفيض الضرائب على المؤسسات الراسمالية.
جاءت مخاطبة ترمب للعمال فى الوقت الملائم إذ أن العمال ظلوا يفقدون منذ الثمانينيات كثيراً من المكاسب التى أحرزوها خلال النصف الأول من القرن العشرين وإنخاض أجورهم الحقيقية خلال الأربعة عقود الأخيرة نتيجة التراجع فى مضمار الإنتاج الصناعى؛ وقد أدى هذا الى فقدان العمال الثقة فى القيادات النقابية الموالية للديمقراطيين. وهكذا إستفاد ترمب من السخط العمالى تجاه الحزب الدبمقراطى وإستثمر هذا الوضع لصالحه بتركيز حملته الإنتخابية على الولايات التى شهدت تراجعاً فى التصنيع والتى تعرف بولايات حزام الصدأ (rust belt states)، وأشهر هذه الولايات تلك التى تقع فى الشمال الشرقى للولايات المتحدة الامريكية، ووعوده للعمال برسم سياسات ترمى لتوفير فرص العمالة.
إن إهتمام ترمب البالغ بالعمال وقضاياهم وإعطائهم أولية التركيز عليهم ككتلة إنتخابية لم يكن أكثر من مداهنة بحكم طبيعة حزبه وتوجهاته، وسياسته هذه إنطوت على إنحراف عن الموقف الجمهورى اليمينى الخالد الذى لا يأبه لقضايا الطبقة العاملة. ولكن إندهاش أفراد حزب ترمب، الجمهوريين، من تزلفه المبالغ فيه للعمال تحول لغضبة عارمة عندما أفصح عن موقفه من التجارة العالمية. ففى إتجاه محاربة مشكلة البطالة، شملت خطة ترامب إلتزامه خلال الحملة الإنتخابية الإنسحاب من عدد من الإتفاقيات الدولية والترتيبات فى مجالات الإقتصاد والتجارة التى بزعمه أتت فى غير صالح أمريكا وخاصة فى مضمار العجز التجارى وفقدان العمالة ( outsourcing of jobs ). وكان إستهداف ترمب لمعاملات أمريكا التجارية مع الصين أحد أهم عناوين دعايته الإنتخابية.
دعى ترمب لوقف فقدان العمالة لصالح الصين الذى ظل إنخفاض الأجور فيها يجذب الشركات الأمريكية للإستثمار فيها خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ يقدر حجم العمالة التى فقدتها أمريكا خلال الفترة 2012-2016 فى هذا الصدد بأكثر من 4 مليون فرصة عمل. وهذا الموقف يتعارض مع سياسات الجمهوريين والديمقراطين لأن كليهما يقفان مع مبدأ التجارة الحرة التى تتيح للشركات الأمريكية الكبرى نقل نشاطها الإستثمارى حيث العمالة أرخص كمآل حتمى لراس المال المالى.
رغم إستقبال الإنتلجينسيا،ال pooh-bah، فى أجهزة الدولة ووسائل الاعلام الامريكية لترشيحه للرئاسة بالسخرية وصورته كبهلوان ليس موهلاً للمنصب، أحرز ترمب التفوق على منافسته هيلارى كلينتون فى الكلية الإنتخابية (electoral college) بينما حصلت هى على النسبة الأعلى من مجموع أصوات الناخبين.
إن فوز ترمب تم بالدعم الذى منحته له ولايات الصدأ المتعطشة لتنشيط النشاط الإقتصادى فيها. فترمب إستطاع كسب الناخبين من خلال دعوته لمراجعة سياسة الهجرة الأمريكية وهجومه المركز على سياسات الهوية المفضلة للديمقراطيين وتركيزه، بدلا من ذلك، على حلول للمسألة الإقتصادية. لكن ترمب طلب المستحيل من الإقتصاد السياسى ومن التاريخ. فمن وجهة نظر الإقتصاد السياسى فإن ميل معدل الربح للإنخفاض قانون طبيعى فى الراسمالية يفرضه زيادة رأس المال الثابت على حساب راس المال المتغير المتمثل في العمالة التى تحقق الرابح (وليس راس المال الثابت). أما من الناحية التاريخية، فإن ميل معدل الربح للإنخفاض يجعل بث الحياة فى الدورة الإقتصادية يعتمد كلياً على وثبة جديدة فى طريقة عمل الراسمالية (modus operandi). وهذا تمثل فى عصرنا الحالى فى تصدير رؤوس الاموال من الدول الكبرى للإستثمار الخارجى الذى غالباً ما يرافقه الإخضاع السياسى للدول الأخرى خاصة الفقيرة. وهكذا فإن دعوة ترمب لإبتداع أشكال لمعاقبة الشركات الأمريكية فى حالة نزوعها للإستثمار الخارجى جاء متعارضاً مع توجهات الطبقة الأولغاركية المالية الحاكمة وإعتمادها على تصدير روؤس الامال. وهذا بدوره يفسر المعارضة الشرسة لترمب حتى بعد فوزه التى تقودها ضده الإنتلجنسيا الجديدة فى مرافق الدولة ووسائل الإعلام، والحزب الديمقراطى وحتى بعض شرائح الحزب الجمهورى.
ورغم ان الرئيس المنتخب له الحق فى تشكيل إدارته بملء المناصب الحكومية الأمريكية بموظفين جدد، الا أن قبضة الموظفين أصحاب الوظائف الدائمة (careerists) على أجهزة الدولة وتوطينهم ثقافة التنفذ السلطوى أقوى من سباحة المعينين الجدد ضدها.
إن دونالد ترمب محاصر فى البيت الأبيض الأمريكى متعرضاً لحملة ضارية من الإنتلجنسيا هدفها إسقاطه بهدف أن تعود السيادة السياسية للأولغاركية المالية فى شكلها الصرف.
خارج السياق (نوعاً ما): نموذج للغطرسة الأمريكية
فى أمريكا يشترك الديمقراطيون مع الجمهوريين فى الحفاظ على نزعة الهيمنة على العالم عبر الحروب من أجل ديمومة الأولغاركية المالية المحلية، فالديمقراطيين صوتوا لقرار التدخل العسكرى فى العراق وهم الذين دمروا ليبيا نتيجة العمل بنصيحة من هيلارى كلينتون، فهى كوزيرة للخارجية الأمريكية هى التى اقنعت أوباما بجدوى التدخل عسكريا في ليبيا. وهى التى عندما نقلوا لها نبأ مقتل القذافى صاحت بلفظ الإندهاش (-وااو-waw) واضافت، معيدة صياغة المقولة الشهيرة ليوليوس قيصر " جئت ورأيت وهزمت"* * عندما إحتلت جيوشه إقليم الغاليون (Gauls)، قائلة "جئنا ورأينا وهو مات". وكان موقف مقرفا من هيلارى.
"I came, I saw, I conquered!"* *
- نتناول فى مقال قادم إفلاس الليبرالية فى الدولة الكندية وتبعاته.
محمود محمد ياسين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.