*الحديث عن قومية وحيدة الجيش في واقعنا الراهن هو قفز فوق مراحل تأسيس الدولة الوطنية الحديثة و ظهور الجيش فى معادلة الحكم أمر لا مفر منه، ما لم تنتهى ثنائيات مجموعات الأغلبية والأقلية في مقالنا السابق، سردنا عددا من الوقائع التاريخية التي تؤكد على دور الجيش، أو تورطه، في حسم الصراعات السياسية في مصر والسودان. فأشرنا إلى دور الجيش الحاسم في مصر في يوليو 1952 وفي 25 يناير 2011، وفي 30 يونيو 2012. وكذلك دوره الحاسم في السودان في 17 نوفمبر 1958، وفي 21 أكتوبر 1964، وفي 25 مايو 1969، وفي 6 أبريل 1985، وفي 30 يونيو 1989، وما تخلل ذلك من محاولات إنقلابية وتحركات عسكرية عديدة لم يكتب لها النجاح. وقلنا أن هذه الوقائع، وغيرها، تطرح عددا من الأسئلة الهامة والجوهرية، والتي في نظرنا تتضمن السؤالين المحوريين التاليين: الأول، دور الجيش في الصراعات السياسية، هل هو ظاهرة موضوعية لا فكاك منها، أم هو مجرد تورط وإقحام للجيش في مجال ليس مجاله؟. والسؤال الثاني هو: تحرك الجيش بهدف حسم الصراعات السياسية، هل هو في كل الأحوال مجرد إنقلاب عسكري تآمري، أم هو، وفي حال توفر ظروف معينة ومحددة، يمكن أن يكون غير ذلك؟. بالنسبة للسؤال الأول: أعتقد من الضروري أن نميز بين واقعين مختلفين: واقع بلداننا التي لا زالت تخطو خطواتها الأولى نحو بناء الدولة الوطنية ونحو تجذير الممارسة الديمقراطية وتحقيق الإستقرار السياسي القائم على إنجاز مشروع قومي يحقق عدالة المشاركة في السلطة وفي توزيع الموارد والثورة، وواقع البلدان المتقدمة التي حسمت أمر بناء الدولة وأمر الممارسة السياسية الديمقراطية، كما في بلدان الغرب. فالتطور السياسي في بلدان الغرب دفع بالمؤسسة العسكرية لكي تظل مهامها تنحصر في تلك المهام المعروفة للجيوش، أي الدفاع عن الحدود وعن الوطن، وليس لها أي مهام داخل الوطن إلا لمساعدة الأجهزة الشرطية والمدنية في أوقات إنفجار المهددات الطبيعية مثل كوارث الزلازل والبراكين والفيضانات..الخ. أي أن جيوش هذه البلدان تنحاز تماما لإستمرار وبقاء الدولة وفق العقد الاجتماعي المتفق علية على مر مئات السنين، ولكنها في نفس الوقت تخضع للقرار السياسي للحزب الحاكم، ما دام هذا القرار لا يمس بنية وتركيبة الدولة. وحتى عندما يتجرأ الحزب الحاكم ويمس قواعد اللعبة الديمقراطية المتفق عليها، يحتكم الناس إلى السلطة القضائية، ولا يهرعون لحسم الأمر بالانقلاب العسكري. لذلك، كان طبيعيا أن يقوم الحزب الفائز في الانتخابات بتغيير الوزراء والقيادات السياسية، ولكنه لا يمس قيادات الجيش، وكذلك الخدمة المدنية، من قريب أو بعيد. ونحن هنا لا نقول بأن أفراد جيوش تلك البلدان لا موقف لهم، أو أنهم ملائكة منزهون عن الميول والإنحيازات، ولكن طبيعة البنية السياسية والاجتماعية للدولة في هذه البلدان، والمرتبطة بممارسات الديمقراطية الليبرالية، تمكنت من إبعاد الجيوش بعيدا عن لعبة الحكومة والشعب. أما بالنسبة لبلدان العالم النامي، ونحن هنا نتحدث عن مصر والسودان، فالأمر جد مختلف. فالناظر إلى جيوش هذه البلدان كجهة قومية محايدة لا علاقة لها بما يدور من صراع سياسي وإجتماعي، هو شخص حالم ينظر إلى المفترض أو المثالي، لكن ليس للأمر الواقع الفعلي والملموس من واقع التجربة. وأعتقد أن الحديث عن قومية وحيدة الجيش في واقعنا الراهن في بلداننا، هو قفز فوق مراحل تأسيس الدولة الوطنية الحديثة. والتجربة الملموسة تقول أن ظهور الجيش فى معادلة الحكم في بلداننا أمر لا مفر منه، ما لم تنتهى ثنائيات مجموعات الأغلبية والأقلية، والقوى والضعيف، وما لم يتم التوافق على مشروع قومي أساسه القناعات بضرورة التوافق على بناء الدولة القومية التى تقف على مسافة واحدة من جمع المواطنين، غض النظر عن تواجدهم ضمن التشكيلات القومية الكبيرة أو الصغيرة، وغض النظر عن إنتمائهم أو تأييدهم لهذا الحزب أو ذاك. إن كل المحطات الحاسمة في التاريخ الحديث لكل من مصر والسودان، كما فصلناها في مقالنا السابق ولخصناها في الفقرة الأولى في مقالنا هذا، ذات علاقة مباشرة، ولا إنفصام لعراها، مع الجيش والمؤسسة العسكرية. ومن هنا إستنتاجنا، لا من منطلق التنظير المحض، بل من واقع التجربة المعاشة، أن الجيش في مصر والسودان، بالضرورة منحاز، وبالضرورة هو طرف اصيل فى معادلة الحكم. وكذلك إستنتاجنا الآخر، بضرورة أن تكون قناعة المؤسسة العسكرية راسخة فى الممارسة الديمقراطية، وألا يتم النظر إلى الديمقراطية وكأنها في تضاد مع الجيش أو كمهدد لوجوده وإمتيازاته. وأستدعى هنا تلك المناقشات العميقة بين أطراف الحركة السياسية السودانية عقب إنقلاب حزب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989، والتي توصلت إلى الصيغة ثلاثية الأضلاع لتكوين التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض، أي الأحزاب والنقابات والجيش. وتم الإشارة إلى تلك الصيغة بإعتبارها جديدة في التجربة السياسية السودانية، وتنبع من جملة من التناقضات الملازمة للممارسة السياسية في السودان منذ الاستقلال، نذكر منها، تلك التي تتجسد في ما عرف في الأدب السياسي السوداني بالحلقة الشريرة، أي انقلاب عسكري – انتفاضة – حكم ديمقراطي – انقلاب عسكري ...الخ، وتلك التناقضات المرتبطة بالممارسة الحزبية والبرلمانية، حيث الأحزاب والبرلمان مؤسسات سياسية حديثة باعتبارها نتاج الثورة الصناعية البرجوازية في أوروبا، لكن جوهرها في السودان مثقل بالطابع التقليدي المرتبط بالطائفة والقبيلة، وأيضا تلك التناقضات الناتجة من تهميش قوى مراكز الإنتاج الحديث ( القوى الحديثة ) وفى نفس الوقت تهميش قوى الأطراف ( مراكز التوتر القومي ). ومن الواضح، أن هذه التناقضات تتقاطع هنا وهناك مع دور كل ضلع من تلك الأضلاع الثلاثة في مسار التطور السياسي والاجتماعي للسودان. كما أن الصيغة ثلاثية الأضلاع تلك، تنبع أيضا من مسلمة أن إعادة بناء الدولة السودانية لا يمكن أن تتم إلاَ كنتاج لمحصلة جهود كافة القوى السياسية غض النظر عن منطلقاتها وحجمها ونفوذها، وكذلك جهود جماهير قطاع الإنتاج والقطاع العسكري والتي تثق في مؤسساتها النقابية والعسكرية في التعبير عن رؤاها وتطلعاتها أكثر من ثقتها في المؤسسة الحزبية، وهي قطاعات لا يمكن إنكار دورها الحاسم في حسم لحظات قمة الأزمة/ التغيير لصالح الوطن. (نواصل) الميدان