والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر التقدمي في الاسلام المعاصر
نشر في الراكوبة يوم 06 - 08 - 2017


الفكر التقدمي في الإسلام المعاصر
نظرة نقدية
بروفيسور كرستيان ترول Christian, Troll
مدير منبر المسيحية والاِسلام في الأكاديمية الكاثوليكية سابقاً.
(2-3)*
ترجمة د. حامد فضل الله
1 النطاق التاريخي للتفكير التقدمي
لقد ظهرت حركة التجديد في الفكر الإسلامي والنهضة الإسلامية منذ نهاية القرن الثامن عشر في زمن التبعية السياسية للدول الإسلامية إلى الغرب المستعمر. والآن يعيش المسلمون زمن الاستقلال السياسي ولكنهم ذاقوا مرارة الدكتاتورية والفساد في معظم البلدان الإسلامية. وبطبيعة الحال لم تتلاشى تماماً علاقات التبعية للغرب ولكنها أخذت أشكالاً أخرى. وعلاوة على ذلك يعيش بعض المسلمين كأقلية تتزايد نسبتهم في مجتمعات لا تدين بالدين الإسلامي.
وكما هو الحال بالنسبة للإسلاميين الأصوليين يمكن النظر إلى دعاة الفكر التقدمي إلى حد ما كنتاج لعملية الديمقراطية والدراسة الجامعية. وبعض هؤلاء المفكرين أساتذة متخصصون في العلوم الدينية، ولكن الغالبية ليست كذلك. ويمكن القول أن معظمهم درس العلوم الإنسانية، أما معظم الأصوليين فقد درسوا التكنولوجيا والعلوم الطبيعية. إن المفكرين التقدميين على قناعة بأنه لا يمكن الاكتفاء بتحديث المجتمعات الإسلامية في مجال العلوم الطبيعية والتقنية وفي الوقت نفسه عدم المساس بالنص المدون (بالألمانية Korpus) للتفسيرات الدينية التقليدية. إن فضل الرحمن الذي ندين له هنا في هذا التحليل للفكر التقدمي من خلال إشاراته الحاسمة يقول في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه "الإسلام" 1979 ما يلي:
"في الوقت الحالي يمكن القول بأن الفكر الإسلامي قد لفظ أنفاسه والعالم الإسلامي يمثل صحراء فكرية قاحلة لا تنهض من أعماقه أي أفكار ومحاولة الخروج من هذا الصمت القاتل يشبه فرفرة (ارتجاف) جناح. وهو مجتمع الجيل الناشئ (بداية ثلاثينيات القرن الماضي) الذي يتوسل له محمد إقبال بدعوته القائلة: أدعو الله أن يضع فكركم في عاصفة (جديدة) حيث لا توجد حياة في مياه بحاركم".
ولكن لماذا كانت الخمسون عاماً بعد وفاة إقبال مجدبةً؟ ويمكن أن تكون الإجابة هي: في السنوات الخمسين الماضية انشغل العالم الإسلامي بمعارك التحرر من الاستعمار الغربي وبعدها ببرامج إعادة البناء. وصحيح أيضاً بلا شك أنه عندما يكون الناس تحت ضغط غير عادي ويواجهون تحديات هائلة يصل إبداعهم إلى أبعاد غير مألوفة. ولكن كيف تكون إعادة البناء؟ عندما لا يلعب البناء الفكري والتجديد العقلاني إلا دوراً ضئيلاً أو حتى لا دور إطلاقاً (فضل الرحمن 1979 ص 263 – 264). كما أن الضغط الهائل الناتج من التحديات الجديدة وتسارع الدعوة للعلمانية والتي وصلت إلى درجة عالية في أوساط ومجتمعات ودول إسلامية دفعت برفع وتيرة الفكر التقدمي في كل مكان وبعض هذه الدول الإسلامية كانت قد عاشت تجربة (مثل حكم الملالي في إيران وطالبان في أفغانستان) وكما أن تجربة المعارك مع الحركات الإسلاموية ضد أنظمتهم الدكتاتورية والدفاع عنها لعب دوراً في تكريس الحالة الراهنة.
في الواقع يهتم كل المفكرين التقدميين بإعادة النظر في المكانة التي يجب أن يحتلها الدين مع التنامي المتزايد على الدوام لعلمنة العالم بالرغم من ما يبدو في الظاهر عكس ذلك، فقد اجتاحت العلمنة فجأةً العالم الإسلامي بدون تحضير ونضوج داخلي لشروطها. هذه العملية تضع الفكر الإسلامي مباشرةً أمام السؤال: كيف يمكن التوفيق بين الدين (الحقيقة الثابتة) وبين التحول؟
لقد طرح عبد الكريم سوروش (المولود عام 1945) هذا السؤال على نفسه منذ فترة طويلة وكانت إجابته هي: كل فروع العلم والمعرفة في حالة تحول مستمر، أي تغيير في منحى من نواحي العلم يقود بالضرورة إلى تعديلات في مجالات أخرى بما في ذلك الفقه الإسلامي. وهنا طور عبد الكريم سوروش تدريجياً "نظرية تمدد وتقلص المعرفة الدينية" وتوصل طبقاً لهذه النظرية إلى قناعةٍ بأنه في إطار التطور لا بد أن يظل الفقه الإسلامي في حالة تمدد مع الأخذ في الاعتبار مواكبة التطورات التي طرأت في مجالات دينية أخرى.
وطبقاً لدعاة التفكير التقدمي لا يمكن التصدي لمتطلبات الحداثة والوصول إلى القيم الإنسانية للعقيدة الإسلامية بدون القيام بعملية تفسير جديد موضوعي ومحايد للنصوص المقدسة. وهذا من شأنه أن يفضي إلى مواكبة التفسيرات للقضايا الإنسانية المطروحة، مثل حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وسوف يتم ذلك بضمير مستريح إزاء القرآن والسنة وجدل مع الفكر النقدي للحداثة.
2 بعض أفكار وحجج الفكر الجديد
لا يمكن في هذا الإطار أن نذكر جميع أفراد تيار التفكير الإسلامي الجديد أو اختيار الأسس الهامة لهذا الفكر، كما تتطلبه المساواة وسوف نختار بصورة اعتباطية بعض الحجج التي يسوقها أصحاب هذا التيار لبعض القضايا الأساسية التي تتفق مع سياق نقاشنا. ولا يجب أن يفهم البعض أن اختيارنا لبعض رموز هذا التيار يدل على علو مكانتهم الفكرية في ميدان الفكر التقدمي عن الآخرين.
3 ما هو الإسلام؟ تراث حضاري تدرجي
عالج أحمد كرا مصطفى „Ahmet Karamustafa" المحاضر بجامعة واشنطن في ميدان العلوم الإسلامية في مقالته "الإسلام: مشروع حضاري في حالة تقدم" السؤال الأساسي الذي يشغل دائماً المفكرين التقدميين وهو تحديد مفهوم الإسلام. ويمكن إيجاز إجابته الخطيرة العواقب كالآتي: إن مفهوم "الدين" بسبب عدم وضوحه وغموضه يمكن بالكاد تطبيقه عموماً على الإسلام والكاتب يوحي بصورة مضللة بأن الإسلام هو حقيقة واضحة محددة وأيضاً لا يمكن تطابق الإسلام مع الثقافات الإنسانية المختلفة وكذلك الثقافات المختلفة التي تعرف نفسها بأنها إسلامية لا يمكن تصنيفها هرمياً تراتبياً على أساس القرب أو البعد من إسلام متصور.
ولا يبقى سوى التعريف الشائع للإسلام بالممارسات المفروضة والتي نعرفها من خلال الأركان الخمسة. وهذا أيضاً موقف غير مقنع، إذ تبين النظرة النقدية الدقيقة أن الجزء الوحيد من الأركان الخمسة والذي لا يزال باقياً كرمز لكل المسلمين هو الشهادة وهي (بصيغة مختصرة) "أشهد أن لا إله إلا الله" [واشهد أن محمداً رسول الله – المترجم].
والذي لا يعترف بالشهادة لا يعتبر في الواقع مسلماً وهذا التعريف للإسلام من الشهادة له قيمة فقط هنا عندما يوضع باعتباره إطاراً حضارياً وبكلمات أخرى حتى نصل إلى الصيغة الإيجابية لنظرية كرا مصطفى: بالتأكيد يمتلك الإسلام في محوره بعض ممارسات وأفكار أساسية ولكن الأهم أدراك الروح الديناميكية التي تجعل المسلمين دائماً في ظروف تاريخية محددة يجمعون على هذه الممارسات وبؤرة الأفكار ويجب على المرء أن لا يضعها أيضاً في صيغة صارمة سواء كانت غير تاريخية أو مثالية متخيلة. وبكلمات أخرى "الإسلام مشروع حضاري تدرجي ويتطور من داخله تراث حضاري والذي ينتج من بوتقته إمكانية مشاريع اجتماعية وثقافية لا تحصى، للحياة الإنسانية على الأرض".
من هذا المنظور تنشأ حسب كرا مصطفى نتائج منها: إذا فهم الإسلام كمشروع حضاري يتجلى كظاهرة ديناميكية تتطور من داخله والتي لا يمكن بأي أسلوب تحديدها أو تجسيدها. وهذه الحقيقة أي الظاهرة التي يطغى عليها النداء الإسلاموي غير الواقعي والوهمي لتأسيس الإسلام الحقيقي أو لاتحاد سياسي أيد لوجي لكل المسلمين، يجب الاحتفاء بها.
إن الرؤية التي عرضت هنا عن الإسلام، تظهر الإسلام أنه حقيقي عالمي متطور وهو بوصفه تراثاً لا يحتاج أن يبتعد عن أي جنس أو لغة أو ثقافة. أو بقول أخر تتيح لنا هذه الرؤية تقدير واحترام الأبعاد المتعدية للثقافات والإثنيات والقوميات أو باختصار الأبعاد الإنسية (الإنسانية) للإسلام. وبجانب ذلك ينظر للإسلام كتراث متفاعل ومتداخل، فهو يضرب جذوره في الثقافات التي يتصل بها، فيشكلها ويصلحها، ولذا توجد ثقافات إسلامية أخرى أيضاً على الكرة الأرضية وكلها شريكة متساوية في بناء وتجديد التراث الإسلامي الحضاري.
4 إسلام النقد: إسلام عارٍ من التبرير (الاعتذار)
يشير إبراهيم موسى وهو وأحد من أهم أصحاب التيار التقدمي للفكر الإسلامي والمحاضر بجامعة ديوك في شمال كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية إلى الملامح الرئيسية للفكر التقدمي ويقارن بينه وبين فكر الحداثيين المسلمين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، الذين اعتبروا الحداثة حليفتهم وأعطوا العقلانية بصورة خاصة قيمة عالية، ومثلَ العقل لهم أهم معيار كسلاح قاطع في معركتهم مع الغرب، واستخدموه أيضاً في مكافحة الخرافات والعادات الشعبية المتدنية وكذلك توسموا من المعيار العقلاني التحرر من أية مرجعيات دينية خارجية، سواء كانت صوفية أو لاهوتية أو تعاليم شريعة، بالإضافة إلى ذلك اعتقدوا بإمكانية توصلهم مباشرة بواسطة الطرق العقلانية إلى الرسالة الأصلية للقرآن. ولكن لم يدرك هؤلاء المفكرون الوضوح النقدي للمعرفة الحديثة الذي أنجزته العلوم الإنسانية الحديثة. وبالكاد وجد بينهم علماء كانوا على إدراك واستعداد ومقدرة لتطبيق علم التاريخ النقدي وعلم الأدب النقدي وعلم الاجتماع وعلم النفس لتأويل القرآن والسنة على التاريخ والأنساق الاجتماعية وعلى فهم اللاهوت وعلم القانون.
لقد راودهم الخوف المشروع بأن القبول التام بالحداثة باعتبارها تقليداً فلسفياً ربما يؤدي إلى تفتيت الإسلام بوصفه عقيدة، كما عاشوا على قناعة بأن علم المعرفة ما قبل الحداثة المتأصلة في علم الكلام وعلم الفقه يستطيع أن يقاوم تدمير الحداثة أو بالأحرى يمكن أن يتوافق بصورة أفضل حتى مع علم المعرفة الحديثة.
إلا إن هذا التحايل، بالرغم من حسن النية، يتسم بالسذاجة، إذ أن غالبية هؤلاء المصلحين اعتبروا الحداثة وموروثها الفلسفي مجرد أداة لتشجيع وشرح تقاليد ومعرفة ما قبل الحداثة للدين. وهذا يوضح بأنهم لم يعرفوا أو تجاهلوا الحداثة في مداها الشامل.
إن الطريق إلى تحليل جديد ومقنع يتعدى الأوضاع المشار إليها، يستلزم قبل كل شيء، بحسب إبراهيم موسى تجنب خطأين تتصف بهما المدونات الحديثة.
أولاً: التجسيم (Reification). في مثل هذا الفكر تُختزل وتتحول التجارب والممارسات الذاتية إلى سلسلة من مشروعات وأفكار وأشياء. ولهذا ليس نادراً التصور المثالي للموروث القديم فيما يتعلق بالفترة الأولى لتاريخ المسلمين والقول بأن روح الإسلام تكمن في العدالة والمساواة والإنسانية، وهي بكونها قيماً منفردة أو مركبة مع بعضها البعض تُمثل طبيعة، جوهر الإسلام الذي من خلاله يُفهم أيضاً ما يأتي بعد ذلك ولكن فات عليهم اطلاعنا بدقة وعموماً متى وإلى أي مدى كانت هذه القيم واضحة بالفعل في السلوك والممارسات اليومية للمسلمين القدامى.
ثانياً: يجب تجاوز العقلية التبريرية المسيطرة الآن، حيث توجد عناصر بطريركية (أبوية) التركيب وسلوك حياتي وقناعات مصوغة في القرآن والسنة يتم تفسيرها بمنهج استبعادي وغير مقبول، ومن خلال عقدة النقص غير الصحيحة عن الحاضر والهروب أمام التاريخ والهروب من الفهم النقدي له.
إن أصحاب هذا المنهج في التفكير من المسلمين لا يؤمنون بتجربتهم الشخصية في الحاضر ويرفضون اتخاذ هذه التجربة الحية حافزاً لهم للعمل على التجديد والتحول والتلاؤم. وهذا له علاقة بالاعتقاد المرضي بتفوق الماضي وعدم قدرة أغلب المسلمين على جعل الحاضر الذي هو ثمرة النهضة والإنجازات الكبيرة في ميدان العلوم الإنسانية الحديثة، فرصة طيبة لتطوير الإسلام.
5 البحث عن القيم الخلقية التي يعارضها أصحاب السلطة
لقد قدم خالد أبو الفضل المحاضر بكلية القانون كاليفورنيا/لوس أنجلوس (UCLA) في كتابه الموسوم "التحدث باسم الله" (أبو الفضل 2003)، دراسة نقدية للأسس الأخلاقية للنظام القانوني في الإسلام. وكما يقول اليوم فان هذا النظام القانوني للإسلام الذي قام على التفسير السلطوي للقرآن والحديث، أسفر عن عواقب وخيمة لقطاعات في المجتمع الإسلامي وخاصة بالنسبة للنساء. ويخشى أبو الفضل بأن هذه السلطوية للقانون الإسلامي أضاعت عملياً ليس فقط أي اندماج واحترام فحسب بل أيضاً التطبيق والديناميكية للقانون الإسلامي في العالم المعاصر. وبجانب التبرير للفاعلين النشطاء والدغمائية المشلولة (التعصب العقلي) لخبراء القانون الإسلامي المعاصر لم يبق الآن سواء القليل من التراث الثمين والشامل للقانون الإسلامي. فإذا كان هذا يمثل أساس المنهج الذي يعكس حياة دينية تلتمس الإلهي وكمشروع يدبر ويوازن جوهر قيم الشريعة والتطلع إلى حياة أخلاقية، إذاً يجب الإقرار حسب قول "أبو الفضل" بأن الشريعة قد انهارت بل اختفت عبر القرون الثلاثة الأخيرة وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين.
وبالنظر إلى آثار الأحكام الإسلامية المتعلقة بالنساء يصل أبو الفضل إلى نتيجة قاتلة وهو يُقيم أقواله النقدية من بين .. وكمثال الأحكام التي تصدرها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (C.R.L.O.) التابعة للمملكة العربية السعودية والمنوط بها تقديم الفتاوى الإسلامية ولها سلطانها القوي في نشر الفكر السلفي والفكر الوهابي (Salafabismus) في جميع أرجاء العالم. ومن هذه الفتاوى على سبيل المثال: تحريم زيارة المرأة لقبر زوجها وتحريم صلاتها بصوت مرتفع وتحريم قيادتها للسيارة وتحريم سفرها من دون محرم، بدعوى أن مثل هذه الأفعال تمثل بالضرورة إغراء غير محتمل للرجال وهذه الأمور تمثل لأبي الفضل إشكالية أخلاقية ويتساءل بلهجة خافتة: إذا كان الرجل بمثل هذا الضعف، فلماذا تدفع المرأة الثمن؟
ولأن النظام القانوني لا يعمل في فراغ أخلاقي، يجب على المسلمين طبقاً لأبي الفضل أن يفكروا بجدية في ذلك ويحددوا التصورات الأخلاقية للقانون الإسلامي الذي ينبغي الاسترشاد بها في زمننا هذا.
ما هو الأمر أو ماذا يتمخض عن مثل هذا النوع من الأحكام القانونية؟ وعندما يقال بأن مثل هذه الأحكام ليس لها أي علاقة بالدين وإنما هي نتاج يُمثل تماماً البطريركية الثقافية الاجتماعية للفضاءات المحيطة، وهذا يمكن الاتفاق عليه فقط، ولكن بمعنى أخر وبحدة غير متوقعه يضيف أبو الفضل: "أنه ليس من الأمانة الادعاء بأن هذه الأحكام لا يوجد لها سند في المصادر الإسلامية وكما وضحت هذه الدراسة فهناك سند لها في عدة سوابق وعادات. ولكن يمكن للمرء أن يبرهن بأسس موضوعية بأن هذه الأحكام لا تتفق مع الأخلاق الإسلامية". (أبو الفضل 2003، ص 270)
إذا كان الإسلام رسالة كونية كما يحاجج أبو الفضل، فإذاً يجب أن يكون خطابه عن أسئلة الأخلاق والعدالة ذا بصيرة وعقلانية خارج الحدود الضيقة لثقافة قانونية خاصة في محيط ثقافي محدد. وأبو الفضل لا يمثل فكرة وضع قانون كوني عام ولا إلغاء أي خصوصية ثقافية ولكن من ينادي بالعمل في خدمة الله لابُد أن ينادي بالعمل في خدمة العدالة، ومن ينادي بخدمة العدالة لابُد من أن يعمل على تحقيق قيم العدل والأخلاق والقيم الإنسانية.
6 الضرورة الملحة لإصلاح القانون الإسلامي وبخاصة في ما يتعلق بحق حرية العقيدة الدينية
إن المفكر السوداني المُؤثر والمقيم حالياً في الولايات المتحدة عبد الله أحمد النعيم يشعر بوصفه مسلماً بأنه عاجز عن قبول قانون الردة بوصفه جانباً من قانون الإسلام اليوم. لو اعتبر الرأي الشائع عن الردة سليماً اليوم، لجاز إعدام المسلم في دولة إسلامية معينة لتعبيره عن آراء ترى الغالبية العظمى من سكانها إنها ترقى إلى مستوى الردة. وعلى سبيل المثال، فأنه من بعض المنظورات السُنية، تشكل أراء كثيرين من مسلمي الشيعة ردة عن الإسلام، في حين تشكل آراء الكثيرين من مسلمي السُنة من بعض المنظورات الشيعية ردة عنه. ولو طبق اليوم قانون الشريعة الخاص بالردة لجاز الحكم بإعدام بعض مسلمي الشيعة في دولة سُنية والعكس أيضاً. ولا مبالغة في ذلك مطلقاً، فالنظرة الفاحصة للتاريخ وحتى زمننا هذا تثبت ذلك. ويضيف النعيم ما دام قانون الشريعة العام يعتبر في الواقع الشكل الإسلامي الوحيد الساري للقانون الإسلامي، فأن معظم المسلمين سيجدون صعوبة بالغة في الاعتراض جهراً على أي من مبادئه وقواعده، أو مقاومة دلالاتها العملية، مهما بدأت لهم هذه المبادئ والقواعد شائنة وغير مناسبة. إن الشريعة "صيغت" من فقهاء مسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى لظهور الإسلام، ورغم أن الشريعة مستقاة من المصادر الإلهية الأساسية للإسلام ، القرآن والسنة، فهي ليست إلهية، حيث أنها نتاج تفسير بشري لهذه المصادر. وعلاوة على ذلك فقد تمت هذه العملية طبقاً لتفسير بشري في سياق تاريخي معين، يختلف جذرياً عن السياق الذي نعيشه حالياً. لذلك فإنه بوسع المسلمين المعاصرين الاضطلاع بمهمة مماثلة من تفسير وتطبيق القرآن والسنة في السياق التاريخي الراهن حتى يخرجوا بقانون إسلامي بديل، يناسبهم تطبيقه اليوم. ويكتب النعيم: "إن قناعتي كمسلم بأن القانون العام في الشريعة لا يمثل قانون الإسلام الذي يطالب المسلمون المعاصرون بتطبيقه على أساس أن هذا التطبيق التزام ديني" (AN-NAIM، 1996، ص 187)1
وهو يقترح منهجية للإصلاح تقوم على قاعدة (نظرية) النشوء والارتقاء "evolutionary Principle" وأيضاً على الآراء الأساسية لأستاذه المفكر محمود محمد طه. ولكن يضيف النعيم: وسواء قبل المسلمون المعاصرون أو رفضوا هذا المنهاج المعين، فإن الحاجة إلى إصلاح جذري للقانون العام في الشريعة ستظل قائمة دون منازعة.
______________________________
* خلفية المقال: عقدت مؤسسة فريدرش ايبرت الألمانية منذ فترة منصرمة في برلين سلسلة من الندوات بالعنوان اعلاه. المشاركون من السودان نذكر منهم: د. عبدالله النعيم، د. عطا البطحاني، الأستاذ الحاج وراق، د. عائشة الكارب، السيدة عفاف أحمد عبد الرحمن محمد، الأستاذ طه إبراهيم ومجموعة من الشباب وطلاب من جامعة الخرطوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.