كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالفيديو.. جنود بالدعم السريع قاموا بقتل زوجة قائد ميداني يتبع لهم و"شفشفوا" أثاث منزله الذي قام بسرقته قبل أن يهلك    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    السودان يردّ على جامعة الدول العربية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    المريخ يحقق الرمونتادا أمام موسانزي ويتقدم في الترتيب    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    جنوب إفريقيا ومصر يحققان الفوز    مجلس التسيير يجتمع أمس ويصدر عددا من القرارات    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرانسيس دينق: من الوحدة الى الانفصال ..فشل مشروع اعادة بناء الهوية
نشر في الراكوبة يوم 24 - 08 - 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
ابراهيم علي ابراهيم المحامي
كتاب دينامية الهوية: اساس للتكامل الوطني في السودان لفرانسيس دينق الذي قام بتأليفه في اعقاب اتفاقية اديس ابابا للسلام 1972 التي اوقفت حرب الجنوب الاولى ومنحت الجنوب حكما ذاتياً، يعتبر من الكتب التي اثارت جدلاً ونالت اهتماماً واسعاً خاصة من قبل المهتمين بدراسة قضايا التنوع والوحدة في السودان. فرانسيس دينق شخصية جنوبية مرموقة تقلد وزارة الدولة في عهد النميري، كما عمل في أهم ثلاث مؤسسات بحثية سياسية في واشنطن، ومبعوثاُ خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة، ويعمل اللآن سفيراً ومبعوثاً دائماً لدولة جنوب السودان بالامم المتحدة.
قرأت الكتاب قبل سنوات طويلة، والآن فرغت من قراءته للمرة الثانية بعد ان عنّت لي فكرة مراجعة الافكار الواردة في الكتاب ومقارنتها بالمصير الذي آل اليه الجنوب والسودان ككل، من خلال رحلة فرانسيس دينق نفسه. والكتاب كما هو معروف يتناول موضوع الهوية من خلال تقديم وصف تاريخي سريع لمجريات الصراع السياسي والاجتماعي بين الشمال والجنوب من زوايا ثقافية وعاطفية. يدرس دينق هذا الصراع متخذاً منطقة أبيي وقبيلة دينكا نقوك نموذجاً للتعايش والصراع يتمنى تعميمه على كافة الجنوب.
فكرة الكتاب الاساسية التي تكمن في سطوره والتي لم يتطرق لها الكثير من الكتاب هي دعوة فرانسيس دينق الى تبديل هوية الجنوب بالطرق السلمية والصبر الطويل عبر استراتيجية غير مستفزة للمجموعات الاخرى. يقول دينق في كتابه بصفحة (8) " فاذا كان الهدف هو التأثير ثقافياً في مجموعة معينة، لتبديل هويتها، فان افضل النتائج يمكن تحقيقها عن طريق استراتيجية لا تهدد بنزع سلطة تلك المجموعة على شؤونها الخاصة، وفي الوقت نفسه تعزز رموز الهوية المعنية".
ويرى دينق ان هذه الطريقة السلمية "هي الطريقة التي اتبعت في شمال السودان حيث تمت اسلمته وتعريبه خلال عملية قامت بها الامبراطورية العربية الاسلامية اولا بغزو السودان، حيث تمكنت من السيطرة عليه من على البعد وفتحت قنوات الاتصال مع العالم العربي وامنت حرية حركة العرب المسلمين وحماية تجارتهم واستقرارهم في البلاد، وفي الوقت نفسه حافظت ظاهرياً على استقلال السودانيين." بالطبع هنالك عوامل اخرى مهمة –ليس مجالها هنا- تطرق لها المؤالف مثل السياسات الحديثة التي قام بتطبيقها المستعمر التركي والبريطاني على السواء لتشجيع عملية التعريب والاسلمة في السودان. ولكن لماذا فعل المستعمر ذلك؟ هنا توقف المؤلف وكثير من الكتاب دون ابداء الاسباب التي تقف وراء هذا الدعم.
يرى دينق مثل غيره من الكتاب ان عملية تعريب شمال السودان تمت عبر هجرات عربية للسودان قوامها "رجال عرب فقط" هاجروا الى السودان للاستقرار فيه. يقول دينق في صفحة 22 " وبما ان العرب لم يحضروا معهم زوجاتهم، والدين الاسلامي يحرم زواج المرأة المسلمة من غير المسلم، فقد كان التزاوج في اتجاه واحد فقط". للأسف هذا القول المطلق غير المثبت لم يجد حظه من الدراسة والبحث والتقصي، ورغم ذلك وجد طريقه الى الكتابات السودانية المهتمة بموضوع الهوية السودانية بشكل مريب، حيث اصبح يشكل ركيزة من ركائز بنائها. كذلك انسرب هذا القول الخطير من ايدي الباحثين والنقاد دون اثباته او تقصي دقته، ولم يتم تأصيل هذه المعلومة الغريبة بصورة علمية بل اصبحت تردد بصورة روتينية. لم يوضح لنا فرانسيس دينق او غيره أصل هذه المعلومة التاريخية او يوثق لها او يشرح لنا لماذا جاء العرب في مجموعات رجالية فقط للسودان. وقد ردد هذه المقولة من بعده صديقي الكاتب د. الباقر العفيف، وقد اثرت له هذه الشكوك في الصالون الذي استضفته فيه بواشنطن لمناقشة اطروحته "متاهة قوم سود ذو ثقافة بيضاء" قبل سنوات. والباقر العفيف لم يتوقف عند هذا الحد بل قال ان سر ازمة الهوية السودانية وتناقضاتها يكمن في قمعنا وعدم اعترافنا بأمنا الافريقية في دواخلنا واظهار ارتباطنا بالاب العربي وافتخارنا به دون الأم. وسنأتي لذلك في مقال لاحق.
تكمن نقطة ضعف هذه المقولة في ضعف سندها وانعدام سابقة لها، فالتاريخ البشري لم يحدثنا عن هجرات بشرية قوامها رجال فقط Men Exodus. التاريخ مليء بالهجرات البشرية وغير البشرية ايضاً بحثاً عن فرص حياة افضل، والمجتمعات تتكون من هجرات الشعوب. فالولايات المتحدة الامريكية أسسها المهاجرون وكانوا نساءً ورجالاً، ولو كانوا رجالا فقط لما استقام الأمر، وكذلك هجرات الشعوب الهسبانية الاستيطانية لأمريكا الجنوبية ايضا كانت من رجال ونساء. اضف الى ذلك هجرات العرب لاقصى شمال افريقيا واختلاطها بشعوب الامازيغ، والاختلاطات العجيبة بين شعوب مختلفة تمت في أرض لبنان. اختلطت هذه الشعوب المهاجرة بالشعوب المحلية ونتج عنها ما نراه اليوم من بشر. ولن تقف هجرات البشر رجالاً ونساءً عند هذا الحد. اذن على هؤلاء الكتاب تقديم الاثباتات والأدلة على ان الهجرات العربية للسودان كانت من رجال فقط لم يصطحبوا نسائهم معهم، والا اصبح نقدي هذا في محله مما يحتم علينا مراجعة هذه الكتابات حول هذه المسألة المحددة بصورة شاملة تعيد الى التأريخ السوداني صوابه المفقود.
على أية حال يرى فرانسيس دينق ان هوية شمال السودان قد تم تغييرها بواسطة العرب المهاجرين بطريقة سلمية، ويرغب في اتخاذها نموذجاً وتجربة في مرونة الهوية لتعميمها في الجنوب. لذا يعتقد دينق أن هوية أي شعب يمكن اعادة صياغتها بالطرق السلمية وبتوفير ضمانات وشروط محددة تلغي الخوف من المحو والطمس الثقافي او تهديده بالزوال. ويستدل على ذلك بالقول ان الشماليين قاوموا الغزو الاجنبي للعرب لبلادهم ولكن عندما تم ذلك عن طريق التجارة والهجرة السلمية قبلوا الأمر، حيث تم تعزيز الهوية العربية الاسلامية وادامتها بشكل مستقر عبر وراثة السلطة. ورغم ان فرانسيس وقع في تناقض حيث نصح أولاً بضرورة الابتعاد عن السلطة المحلية وتطمينها من اجل ضمان سير عملية التغيير بشكل سلمي حتى لا تواجه بالمقاومة الشرسة مثلما حدث في جنوب السودان، الا انه عاد و أكد على دور السلطة في تعزيز ذلك متعللاً بالطبيعة الذاتية المستقلة لعملية تعريب شمال السودان.
في وصف عملية وعناصر هذا التحول يقول دينق " يمكننا أن نلاحظ كيف تحول الزنوج الذين خضعوا لسلطة وهيمنة العرب بسرعة واضحة الى اعتناق الاسلام وتبني العروبة". كما يؤكد على ان عملية التعريب لم تنتشر بدرجة واحدة، حيث شهدت مناطق معينة تعريباً اكثر من غيرها، كما احتفظت بعض المناطق مثل الفور على ملامحهم وثقافاتهم الزنجية اكثر من القبائل الشمالية الاخرى (ص 23). " يثير وصف دينق للسكان المحللين في الشمال "النوبيين" بالزنوج مسألة أخرى مشكوك فيها ايضاً، ظللتُ ادرسها وافكر فيها لزمن طويل وذلك لمراجعة هذه العموميات التي تظلل الدراسات السودانية وتضر بها. فهل كان العنصر النوبي المحلي السائد في شمال السودان عنصراً زنجياً بصورة مشابهة للعنصر الزنجي الافريقي السائد في دارفور والجنوب ومناطق اخرى في السودان وسائر افريقيا؟ أصل هذه المعلومة يرجع الى بعض الدراسات الاجتماعية التأريخية القديمة التي ربطت ربطاً محكماً بين العنصر النوبي والأصول الزنجية، ولم تخف هذه الدرسات تأثرها بعامل اللون في الوصول الى هذه النتيجة كما هو ظاهر من رسائل المؤرخين التي اعتمدت عليها هذه الدراسات. ولكن الدراسات الاجتماعية الحديثة المسنودة بعلم الجينات الحديث شككت في مسألة زنوجة النوبيين، حيث قال بعض الكتاب الاجتماعيين المحدثين انها ليست يقينيةit's not that clear cut . بل ان كثير من الدراسات الحديثة قطعت بعدم زنوجة العنصر النوبي، وأثبتت ان النوبيين ينحدرون من عناصر قوقازية وشرق متوسطية وغيرها. اما قبائل البجا في شرق السودان فتنقسم الى مجموعات معظمها حامي وقليل منها سامي، ترجع اصولها الى آسيا، ولكن ما يهمنا أنها ليست ذات أصول زنجية ايضاً. اذا تم نفي زنوجة العنصر النوبي على هذا النحو الذي بيناه، تكون المعادلة القديمة قد اختلت تماماً، وتحتاج لمراجعة شاملة. وهنا نؤكد ان معظم هذه الدراسات جاءت لاحقة لهذا الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، مما يعفي المؤلف من المسؤولية، ولكن يلزمنا مراجعة من تم نشره بحق السودان والسودانيين على ضوء هذه الحقائق الجديدة.
وهكذا تتضح رغبة فرانسيس دينق الكامنة في سطور الكتاب في امكانية تغيير واستبدال هوية جنوب السودان، حيث ينصح قائلاً في صفحة 118 اذا كان " تحول الشمال تم من خلال عملية تدريجية هادئة فان تحول الجنوب ايضا ممكن اذا ما توفرت الاستراتيجيات المناسبة". ولكنه يلقي باللوم على الاساليب العسكرية والعنيفة التي اتبعها الشماليون في ذلك: "ان فشل تعريب الجنوب واستيعابه نتيجة لمقاومة الجنوبيين للاساليب العدوانية التي تمت بها هذه العملية" صفحة 103 من الكتاب. كل هذا يؤكد ان فرانسيس دينق لا يمانع من تغيير هوية الجنوب الى العربية، ومسألة الهوية عنده ليست مبدئية كما لدى الكثير من القادة الجنوبيين الوطنيين الذين خبرناهم وتعرفنا عليهم وعلى أفكارهم. وان لم يكن دينق راغباً في تغيير هوية الجنوب واستبدالها فلماذا يقدم النصح للشماليين الراغبين بأن عليهم الصبر والمثابرة واتباع الطرق السلمية الاخرى لتغيير هوية الجنوب او بالأحرى تعريبه بنفس الطريقة التي حدثت للشمال على مر القرون؟ ان قضية الهوية الآن في السودان اصبحت قضية تطرف وتعصب مثل الايدلوجيا في سبعينات القرن الماضي ومثل القبلية في غابر الازمان تجيش لها الجيوش وتسير لها الفرسان.
نموذج نقوك:
يرى دينق ان ما حدث لدينكا نقوك مشابه لحد بعيد للنموذج السوداني ككل فيما يتعلق بصراع الهوية. يقول في كتابه " اما وسط نقوك فقد خضعوا لقدر من التعريب وعاشوا في وحدة وانسجام مع العرب نتيجة للتفاعل والتآخي العربي الافريقي. ومع تطور الصراع حول السلطة بين الشمال والجنوب وتحول المشكلة الى حرب اهلية بدأ نقوك في ربط هويتهم وانتمائهم مع الجنوب بينما ربط جيرانهم المسيرية الحمر أنفسهم ببقية الشمال" .
ان رحلة دينكا نقوك هي رحلة متأرجحة بين الجنوب والشمال، وبين العروبة والزنوجة، وبين الوحدة والانفصال. تماماً مثل رحلة مؤلف الكتاب فرانسيس دينق نفسه. ولا غرابة في ذلك لأن "دينكا نقوك يمثلون الحدود السياسيىة والثقافية والجغرافية للهوية السودانية ونقطة العبور للهوية الجنوبية الافريقية". يقول دينق "ان نقوك ظلوا في حالات كثيرة يربطون انفسهم وانتماءهم بالشمال ويستدل على ذلك بحادثة رفض اكول اروب الانضمام للدينكا في الجنوب عندما حاول الانجليز ذلك. وقد وقف نقوك في حالات كثيرة ضد ابناء جلدتهم الدينكا، وعندما خير نقوك في عام 1951 بين الانضمام لبحر الغزال او أعالي النيل، اختار الزعيم دينق ماجوك البقاء في الشمال" وذلك رغم ان ان الاستعمار كان يفضل بقائهم في الجنوب. وهكذا يتضح مدى ارتباط تأرجح نقوك في خياراتهم في الاتجاه شمالاً أوجنوباً بظروف البلاد حرباً وسلاماً بين الشمال والجنوب. يقول دينق: "وبعد ااشتداد اوار الحرب للمرة الثانية في منتصف الستينات حدد دينكا نقوك موقفهم بالارتباط بالحنوب واختيار الهوية الجنوبية بشكل واضح". وقد عمل هذا التارجح والتردد في موقفهم في وضعهم في موضع المتهم والمشكوك في ولائهم للحركة الثورية ومتهمين بالتعاون مع العدو الشمالي تارة ومع الثوار تارة اخرى. وهكذا متهمين من الجانبين. موقف لا يحسدون عليه. فهل من المؤمل ان يختار نقوك الانضمام للشمال بعد انفصال الجنوب ليعيشون جنباً الى جنب مع المسيرية كما فعلوا من قبل، خاصة اذا عم السلام بين الدولتين؟
انعكس هذا التأرجح في موقف نقوك الجغرافي والسياسي والثقافي على مواقف فرانسيس دينق الفكرية وآرائه السياسية بشكل واضح. وقد جلب له ذلك الكثير من المشقة خاصة في عهد الراحل القائد الجنوبي د. جون قرنق. فرانسيس لم ييأس من تجربة ظل يدرسها ويدعوا لها لعقدين من الزمان، ولم يفقد الامل في وحدة مستحيلة، لدرجة دعا فيها الى تغيير وانقلاب في الهوية السودانية من اجل هذه الوحدة الحلم. ورغم انه حاول جاهداَ من اجل هذه الوحدة، الا انه ظل متأرجحاً مثل اهله نقوك، وعاش في الحدود بين الهويتين ، تماماً مثل ما عاش في أبيي الحدودية بين الكيانين، ثم اختار الانفصال في بداية التسعينات هاجراً كل ما كان يدعو له، واتجه جنوباً مثل ما فعل اهله نقوك. ففي عام 1993 أعلن فرانسيس دينق فشل حلمه في وحدة مستحيلة، وفشل مشروعه في اعادة صياغة الهوية السودانية أو تعريب واستبدال هوية الجنوب في اعلان كأنه صحوة جديدة، حيث أصدر مع مجموعة أخرى من القيادات الجنوبية اعلان ادير من اجل منح حق تقرير المصير الانفصالي للجنوب. ليس هذا فحسب ولكنه ساهم من خلال مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن في صياغة الورقة المشهورة "دولة واحدة بنظامين" التي تم على أساسها تحديد شكل الفترة الانتقالية تمهيداً لتقرير المصير الانفصالي.
حسم فرانسيس دينق أمره وهجر مشروعه الساعي لاعادة بناء الهوية السودانية واتجه جنوباً، ولكن أمر نقوك لم يحسم بعد. يقول دينق " المهم ان الاستفتاء لم يتم حتى الآن والوضع الشاذ لمنطقة نقوك لا يزال كما هو". ولا يزال. وكأن قدر نقوك ان يظلوا في انتظار الاقدار السياسية للتقرير في مصيرهم. ورغم ان فرانسيس دينق كان يأمل في كتابه ان تظل منطقة نقوك نموذجاً وتجربة لبناء علاقات متطورة بين الجنوبيين والشماليين، أو بوتقة لتغيير الهوية بصورة سلمية، تكراراً لتجربة "التعريب السلمي" الذي حدث في الشمال على مر القرون، الا ان ذلك الحلم لم يتحقق وتحولت نقوك الى منطقة احتكاك والتهاب بين دولتين هما شمال وجنوب السودان.
فشل مشروع اعادة بناء الهوية:
بإخراجه لموضوع أزمة الهوية أنتج فرانسيس دينق النفط والوقود الذي كانت تحتاجه الحركة الشعبية وغيرها لاستخدامه في تجييش الجيوش وحشد النفوس وتهيئتها للقتال. في مقال سابق تم نشره عام 2003 قلنا فيه إن موضوع الهوية استخدم كعنصر حاشد في الحركة الشعبية ، وان تحقيق الهوية لدى الجيش الشعبي يقابل التحرر من المستعمر العربي. وتحقق اجندة الهوية أهدافها المرجوة بنيل الاستقلال التام. فالهوية عندهم تجند لها الآلاف وتحشد لها الجيوش. هكذا تحول حوار الهوية عند الحركة الشعبية "الاصل" الى حوار بالسلاح لأن الهوية تقابل التحرر، والتحرير لن يتم الا بالسلاح. ولكن ما زاد من حالة الانفصام السوداني، أن مثل هذا الحوار العنيف في الاقاليم والأطراف لم يقابله في الشمال الا حوار مترف داخل الصوالين و دور المثقفين في المدن، وأصبحت نقاشات الهوية أكثر متاهة، وأهدافها غير واضحة إن كان لها هدف، لدرجة أنها صبحت عامل تفرقة أكثر منها عامل وحدة. وهذا أقصى ما كان يتمناه البعض داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان "الاصل". ان مشروع اعادة بناء او تغيير الهوية هو الأكثر خطورة على وحدة السودان، فنظرة "افارقة السودان" الآن لموضوع الهوية تماثل نظرة الجنوبيين في السابق، متفقة معها ومجمعة على أنها مشروع تحرري كامل يطالب بإعادة السودانيين "لإفريقيتهم المسلوبة" وإعادة كرامة الأغلبية الإفريقية للحكم. وهذه خطورة ما بعدها خطورة على وحدة السودان لو كنتم تعلمون، لأن صراع الهويات ادمى وأمرّ كما قال المرحوم جمال محمد احمد.
تثبت رحلة فرانسيس دينق وتأرجحه بين الوحدة والانفصال، وفشل مشروعه الساعي لتغيير هوية الشعب السوداني، ان الدعوة لتغيير هوية شعب ما من أجل تحقيق رغبات سياسية هي دعوة مستحيلة ومحكومة بالفشل. فالدعوات التي بدأت تنطلق هنا وهناك لتغيير هوية الشعب السوداني او استبدالها بهوية اخرى منتقاة بعناية فائقة، هي دعوة ساذجة لا قيمة لها ويقصد بها المتاجرة السياسية وتحقيق مكاسب وسط قطاعات سكانية معينة، وتجييشها، وايجاد شرعية للحرب. ولنا في تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب اسوة حسنة، كما لنا في انفصال الجنوب مثالاً لا يزال حياً. فالحركة الشعبية "الاصل" حاربت الشمال لسنوات طويلة، من اجل تغيير هوية السودان، وتوحيده على هوية وأسس جديدة، وحاربت بجيش له عقيدة راسخة ضد عرب السودان، ومن بعد ذلك فاوضت على موضوع الهوية حيث تم ادراجه ضمن اجندة مؤتمر ابوجا 1993. ولن تستطيع اي حركة سودانية مسلحة فيما يتعلق بموضوع الهوية تحقيق نتيجة مغايرة لما حققته الحركة الشعبية لجنوب السودان بالسلاح في ظل هذا الصراع ما لم يتم الاتفاق على مدخل جديد ومغاير للعمل المعارض.
ان الدعوة لتغيير هوية الشعب السوداني هي دعوة ملتبسة ومضللة ومستحيلة الحدوث والتحقق كما بينا اعلاه، ويقصد بها الذين اطلقوها المتاجرة السياسية، حيث تستخدم هذه الدعوة والشعارات لتجييش الجيوش والمليشيات لاغراض سياسية مختلفة. ولم تحدث هذه الدعوة أي نجاح يذكر في شأن تبديل او تغيير الهوية السودانية كما اثبتت قضية جنوب السودان، ولن تفعل، ولكنها ظلت باستمرار تعتبر احد معوقات وحدة العمل المعارض، وعامل انقسام واضح بين فصائل المعارضة السودانية، ومثيرة للشكوك وانعدام الثقة.
من الحماقة معالجة أخطاء التأريخ المزمنة بحماقات اخرى تدعو الى اعادة صياغة الهوية السودانية التي رسخت لقرون طويلة واستبدالها بهوية أخرى منتقاة. كما أن الهوية "دينامية" ومتحركة، لذا تتسم بعدم الثبات، واستحالة ان يقوم أحد بتفصيلها أو تصميمها، كما رأينا في محاولات بعض القيادات السياسية المسلحة. ولن يستقيم العمل المعارض أوتتوفر بين فصائله المختلفة الثقة المطلوبة لتنسيق العمل المشترك لإحداث التغيير المطلوب في السودان الا اذا اتفقت جميع الفصائل على إبعاد موضوع الهوية عن الاجندة السياسية الحالية وعدم اتخاذها عقيدة للتربية السياسية او العسكرية، وذلك لخطورته على مستقبل بقاء الوطن.
السودان دولة متعددة الاعراق والاثنيات، وقوام هذا التعدد عنصران هما عرب السودان وأفارقته، وبينهما تداخل واختلاط كبير لدرجة يصعب معها أحياناً كثيرة التمييز بينهما. إن اية دعوة لتعلية هوية عرقية على الاخرى، او محاولة أي هوية لالغاء الأخرى واستئصالها من شأنه ان يقود الى حروب كما هو حادث الآن. فلن يستطيع أحد أن يلغي الآخر أو يهدده بالزوال أو الطرد من الوطن، كما لن تستطيع أي عرقية أن تزيل الأخرى من الوجود. هذا النوع من القتال من شأنه ان يؤدي الى زوال الدولة، في حين تبقى المجتمعات العرقية والاثنيات كما هي، كما حدث في الصومال، زالت الدولة وبقيت الاثنيات الصومالية كما هي دون دولة.
ليس هنالك أي فرصة للنجاح لأي فصيل سياسي مسلح يستند في حربه العادلة على عداء لعرب السودان أو تحميلهم وزر اخطاء مركز السلطة التأريخي، أو يقوم على تربية وتدريب جيوشه على هذه العقيدة. فعرب السودان مكوّن أساسي من مكونات الشعب الى جانب أفارقة السودان. يقول د. جون قرنق " كل السودانيين سواء كانوا عرباً أم افارقة، هم سودانيون في المقام الأول، وهذا المفهوم هو ما نريد تأسيسه وترسيخه". اذن علينا اتاحة الحرية والديمقراطية لجميع العرقيات والاثنيات لتعيش معاً وتتفاعل وتختلط وتعمل بمساواة تامة من أجل رفعة وطننا السودان. يقول د. قرنق " دعونا نخلق سودانا يقوم على حقائق واقعنا الملموس وعلى تنوعنا التاريخي والمعاصر".
وفي الآخر نختم بمنسي القول من كلام فرانسيس دينق نفسه في كتابه هذا الذي احتفى به كثير من الشماليين في حين لم يهتم به المثقفون الجنوبيون: "ليس هناك شرط أن تبقى الدولة على هوية ثقافية واحدة أو آحادية ولا ينبغي للدول الحديثة المتعددة أن تكون، بل ان ميزة التعدد والتنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان يضفي على الدولة ألوان قزح من هويات فرعية مختلفة يضفي عليها نكهة خاصة وتجعل فرص البقاء والابداع أكبر في إطار دولة موحدة بشرط عدم سيادة هوية فرعية على اخرى".
انتهى
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.