بالقرب من عيادة الطبيب خرجت من عيادة الطبيب الذي ارتاده لمعالجتي من مرض الربو الشعبي الذي أُعاني منه منذ صغري بصحبة والدتي، تقع هذه العيادة في أحد أحياء الخرطوم الذي تقطنه الطبقات البرجوازية، ويعد من الأحياء الراقية اجتماعياً. بالقرب من هذه العيادة يقع مقهى فاخر يرتاده البرجوازيون "أو من يدعون" وتقف أمامه أعداد كبيرة من السيارات الفارهة، الملفت للنظر هو أن مرتادي هذا المقهى من فئات عمرية معينة، يأتون في شكل مجموعات يرتدون ملابس غريبة لا تشبه المجتمع السوداني، مع العلم أنني لست من الذين يوصمون بالتذمت والانغلاق، شعرت أنني في أحد أحياء برمنغهام. بينما أنا أقف في الشارع انتظر والدتي لكي تحضر سيارتها التي لم نجد مكاناً يتسع لها مع الاكتظاظ الغريب للسيارات، لفتت انتباهي فتاة تقف تحت أحد أعمدة الكهرباء في الشارع وهي تقريباً في سن الخامسة عشر، وإن لم يكن أقل، ترتدي بنطالاً وبلوزة ضيقة تبدو على محياها علامات البراءة حتى أنني ظننت في اللحظة الأولى أنها بانتظار أحد ذويها. مشهد مثير الذي جعلني استبعد هذا التفكير هو شيء غريب حدث أمامي، حين وقفت سيارة فارهة ترجل منها شاب في الثلاثين من عمره، تبادلا النظرات وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد، فبادلته بابتسامة فيها شيء من الغنج والدلال، تحركت الصغيرة صوب الشاب ودخلا معاً ذلك المكان الذي ذكرته في السابق. أثارني الأمر جداً لدرجة أن فضولي أوشك على الخروج من عقلي، عندها جاءت والدتي التي استعجلتني في ركوب السيارة لكنني رفضت، استغربت وترجلت هي الأخرى، سردت لها الموقف بتفاصيله وطلبت منها الدخول الى ذلك المكان ولكنها رفضت بشدة حتى أقنعتها. (2) داخل المقهى دخلنا ولم يكن الذي ينتظرنا في الحسبان، عالم آخر غير الذي في الخارج، حتى ظننت أنني عبرت البوابة السحرية التي كنا نشاهدها في مسلسلات الأطفال، صالة كبيرة تناثرت فيها المناضد والكراسي الخيزرانية، جلس الجميع في شكل مجموعات غير عدد قليل من الثنائيات، فتيات دون سن العشرين من العمر يرتدين ملابس كأنهن عارضات أزياء في هوليود، يضعن مساحيق (المكياج) بكثرة مبالغ فيها. ارتكزت أمام كل واحدة منهن شيشة ذات ألوان مزركشة، يخرج الدخان من أنوفهن وأفواههن ببراعة مطلقة، مما يوضح أن الأمر اعتيادي، فغرت فاهي وصرت أنظر إليهن باندهاش غريب. لم يعرني أحد أي اهتمام ولم يكترثوا لنظرات الدهشة والفضول التي تصدر مني، بل واصل الجميع في شفط الدخان وإخراجه بتلك البراعة المذهلة، تجلس الفتيات في مجموعات منفردة ويجلس قبالتهن الشباب، يبدو أن الجميع لا يرغبون في الاختلاط مع بعضهم البعض لأسباب خفية. (3) تجارة الجسد جاء النادل يحمل ورقة وقلماً بعد أن جلسنا في إحدى المناضد في مقهى الاندهاش، سألنا عما نرغب فيه طلبنا عصير، أردف النادل سائلاً معه شيشة -بكل بساطة - كأنه تعود على هذا الطلب كثيراً من السيدات والفتيات، انزعجت والدتي لذلك، جاءنا العصير شرعنا في شربه. دقائق مرت دخلت المقهى مجموعة من الفتيات إتجهن الى ركن قصي يبدو أنهن اعتدن الجلوس فيه، مرت لحظات انتبهت أن هناك لغة خفية يتم استخدامها، بين إحداهن وشاب يجلس قبالتها نظرات وإيماءات بالرأس، تحرك الشاب من مكانه صوب مدخل المقهى لحقته الفتاة واختفياء في قلب الظلام. بدا الأمر يتضح لي قليلاً أن هذا المكان يُستغل من قبل الفتيات لعرض أجسادهن، ومن قبل الشباب كمصيد للنساء، قررت المكوث فترة أطول ولكني خفت من أن تداهم شرطة النظام العام هذا المكان ونذهب أنا ووالدتي المسكينة في داهية، ولكن يبدو أنها لا تأتي الى هذه الأماكن. مرت الدقائق وكثر المرتادون، لاحظت أنه كلما لبس الليل ثوبه كلما زاد عدد الوافدين من الجنسين، جلست فتاة عشرينية قبالتي لم ألحظ دخولها ترتدي اسكيرت قصير يظهر ساقيها اللذين يتمتعا بقدر من الجمال تشفط الشيشة وتحرك خرطوم الشيشة في شفتيها بطريقة يشوبها نوع من الإغراء للجالسين. تعالت الضحكات من إحدى الطاولات وإتجهت الانظار إليها لكنها لم تحرك ساكناً، ناداها أحد الجالسين باسمها ميمي يبدو أنه يعرفها تماماً، قدمت إليه ألقت التحية على الجالسين معه وجلست معهم، إتضح لي أن في الخرطوم عالم آخر غير الذي نعيش فيه، أبطاله بشر غيرنا تماماً، يجيدون الإتجار بآدميتهم بلا هوادة. رشان أوشي