أي كانت القراءة الراجحة التي تعبر عما أراده الرئيس البشير، فإن تصريحه الأخير يعكس الحال المتردية في الفهم والتطبيق الذي وصلت إليها القيادة السياسية في السودان، وهي التي أتت إلى السلطة تحت شعارات النهضة والصحوة الإسلاميين. بقلم: لؤي صافي تناقلت الصحف ووكالات الانباء تصريحا للرئيس السوداني بين فيه عزمه على تطبيق الشريعة الاسلامية حال انفصال جنوب السودان ذي الاغلبية المسيحية. وأكد الرئيس عمر البشير على أنه "إذا اختار الجنوب الانفصال سيعدل دستور السودان، وعندها لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي، وسيكون الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع." تصريح البشير يأتي قبل أسابيع من التصويت الشعبي الذي سيقرر خيار السودانيين الجنوبيين في الارتباط بدولة السودان الحالية أو استقلالهم عنها في دولة منفصلة. كلام البشير يبدو غريبا في سياق الحديث حول إمكانية انفصال الجنوب عن الدولة الأم. هل يقرأ التصريح على أنه بيان استباقي لذر الرماد في العيون وتخفيف صدمة الانفصال التي يمكن أن تهز البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي للمجتمع السوداني؟ أم هل يقرأ على أنه تهديد مبطن للجنوب المسيحي بأن استقلالهم يهدد مصالح إخوانهم المسيحيين في الشمال عموما، وفي أحياء الخرطوم على وجه الخصوص؟ أم لعله جاء معبرا عن شعور القيادة السياسية ذات الميول الإسلامية بعدم قدرتها على التزام قيم الاسلام وتعاليمه في مجتمع تعدد في الديانات والثقافات والاعراق؟ وأي كانت القراءة الراجحة التي تعبر عما أراده الرئيس البشير، فإن التصريح المذكور يعكس الحال المتردية في الفهم والتطبيق الذي وصلت إليها القيادة السياسية في السودان، وهي التي أتت إلى السلطة تحت شعارات النهضة والصحوة الإسلاميين. واضح أن التصور الاسلامي الذي يتحدث عنه الرئيس السوداني هو تصور محلي عرقي ضيق، يفتقد الرؤية الإنسانية العالمية التي حملها المسلمون الأوائل إلى الشعوب متعددة اللغات والألوان والأعراق والثقافات، فحررتهم من القيود التي فرضتها عليهم الانظمة الإمبراطورية الفاسدة، ووحدتهم ضمن حضارة منفتحة على الجميع، ساهم في بنائها المسيحي كما ساهم المسلم. ليس الهدف من إثارة الأسئلة حول غايات البشير من زج الإسلام في مشكلة الجنوب تحميله مسؤولية الحال التي وصل إليها السودان وجنوبه؛ فمسؤولية حالة الانقسام السياسي المؤسف التي تعصف بالسودان تبدأ بطبيعة الحال به شخصيا وبمساعديه ورجال دولته، لكنها تتسع لتلقي بظلالها الثقيلة على المنظومة السياسية العربية عموما. بل الغاية من الأسئلة إلقاء الضوء على التوظيف المؤسف لشعارات الإسلام ورموزه الذي يمارس اليوم من قبل العديد من قيادات العرب والمسلمين على حساب آفاق الإسلام الإنسانية وقيمه العالمية. من المفارقات أن الإسلام الذي جاء ليحرر الإنسان من استبداد الحاكمين بأمرهم، والذي رفض علماؤه في عصور ازدهاره أن تقوم الدولة بتقنينه وفرض تفسيرات فقهية وكلامية ضيقة على المجتمع المدني، تحول في دائرة السلطة إلى وسيلة قمع وتهديد. ومن المفارقات أن الشريعة التي ارتبطت بخيارات الأفراد والقضاء المحلي المستقل، والتي عملت على تقليص سلطات الدولة المركزية وتقييد صلاحياتها، اصبحت اليوم أداة لدى السلطات المركزية الحاكمة تستخدمها لتقييد الحريات وترهيب الشعوب المستضعفة وتداول السلطة والثروة العامة في دائرة النخبة الحاكمة. ومن المؤسف أن الشريعة التي وعد الرئيس البشير بتطبيقها في كلمته التي القاها في مدينة القضارف شرق السودان، وتناقلتها عنه وسائل الإعلام، ليست تلك التي تأمر بأداء الأمانة إلى أهلها وتولية الأصلح وإقامة العدل على أساس المساواة بين الناس ونشر العلم وتوفير فرص العمل، بل الشريعة المختزلة بالحدود التي غالبا ما تصيب الفقير والمحروم، وتخطئ القوي الممتنع بماله ومركزه الاجتماعي والسياسي. لذلك نراه يتهم المعترضين على تطبيق الحدود بالطريقة الفجة التي تداولتها أجهزة الإعلام مؤخرا ويشكك في دينهم قبل التشكيك برأيهم. كان على البشير تطبيق الإسلام التحرري الإنساني خلال الأعوام الخمسة التي مرت منذ توقيع اتفاقية السلام في عام 2005، والتي اعطت الجنوبيين الحق الانفصال عن الشمال إذا اختاروا ذلك بعد مرور سنوات خمس. كان عليه أن يعمل على بناء دولة القانون، التي يتساوى أمامها الجميع، وتتداول فيها السلطة والثروة، وتتكافأ فيها الفرص. ولو بذل جهدا في هذا الاتجاه لكفى نفسه مؤنة تحويل الإسلام إلى أداة ترهيب وترغيب. ولو فعل ذلك فلربما كان اليوم في غنى عن التهديد والوعيد بتطبيق شريعة أذهب اصحاب الحول والطول روحها وفؤادها وسماحتها، واكتفوا منها بباب الحدود، يقرؤنه دون فقه أو تأمل ويطبقونه دون رحمة أو تجمل. د. لؤي صافي استاذ زائر في جامعة جورج تاون وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أميركا.