مراقد الشهداء    وجمعة ود فور    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    كامل إدريس يدشن أعمال اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر    وزير رياضة الجزيرة يهنئ بفوز الأهلي مدني    مخاوف من فقدان آلاف الأطفال السودانيين في ليبيا فرض التعليم بسبب الإقامة    سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    ريجيكامب بين معركة العناد والثقة    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيصل الصحافي، والشاعر، والمثقف
نشر في الراكوبة يوم 12 - 11 - 2013

حينما طرقنا أبواب الصحف لنعمل في بدء النصف الثاني من الثمانينات وجدنا فيصل محمد صالح باسمه المعروف في عالم التحرير الصحفي. من الصحافيين الذين سبقوه، أو جايلوه، كان هناك توفيق صالح جاويش، هاشم كرار، وعثمان نمر، وفتح الرحمن النحاس، ومحمد مصطفى الحسن، ومحمد محمود راجي، وإلياس فتح الرحمن، وطلحة الشفيع، ومعاوية جمال الدين، ومرتضي الغالي، ونجيب نور الدين، ومحمد أحمد دسوقي، ومصطفى أبو العزائم، ومحمد لطيف، والمرحوم صلاح أبا يزيد، وآخرون. كانوا نجوما في صحافة الديموقراطية الأخيرة بحكم تجربتهم المعتبرة في صحيفتي "الصحافة" و"الأيام" اللتين دربتهم وقدمتهم لجيلنا كأساتذة في كتابة الخبر، والتحقيق، والاستطلاع، والعمود، والحوار، والكاريكاتير، وغير هذي من ضروب الصحافة.
من بين كل هؤلاء كنت أبحث عن إنسانية الذين يتلقونا برعايتهم، وعطفهم، ولطفهم، ويأخذوا بأيدنا كجيل جديد خرج من طلائع وكشافة مايو حبيب. كنا نستهدف الاقتراب من اساتذة أقرب لجيلنا في المهنة. أما جيل بشير محمد سعيد، وعبد الرحمن مختار، وفضل الله محمد، وصالح عرابي، والمحجوبين، فكنا نبحلق في هيآتهم، وهندامهم، ولا نقدر على الاقتراب منهم مطلقا. فقط نقرأ لهم، ونحن جوعى للمعرفة، وخالو الوفاض إزاء أسرار الصحافة، وصياغتها المدهشة التي تفننوا فيها. كنا وقتها ننظر إليهم بوصفهم هامات صحفية كبيرة، وحسبنا أن نأخذ التراتبية بمحمل الجد لنتعلم من تلاميذهم المجيدين قبل طرق أبوابهم. ولنتعرف من خلالهم على مهنة إن اتصفت بشئ أهم فهو التواضع أمام معارفها الكثيرة، والمتجددة، والمثيرة للذهن.
حقا، وجدت نفسي قريبا من الثلاثي فيصل ومرتضى ونجيب. وربما يعود ذلك إلى الصداقة العميقة التي جمعت بين هذا الثلاثي المرح، وتلاقيه المستمر، والعوامل المشتركة التي جمعته. فمرتضى معروف بهدوئه اللبق، وحرفه الحاذق، وسمته النبيل. ونجيب كنت قد رأيت فيه معلما في مجال الكتابة الفنية التي كنت استهويها. أما فيصل فكنت أرى فيه وجها صبوحا يدل على نقاء دواخله. يبتسم أمامك إن رآك لأول مرة. ويحسسك أنك تعرفه منذ زمن قديم. وما يزال إلى الآن بهذه الروح الوسيمة. وفي زحمة البحث عن موطئ قدم راسخ وسط موج الصحف التي زفها بحر الفترة الديموقراطية تمكنت أن أنشر معهم في صحيفة الخرطوم. هناك التقيت بنجيب، ومختار دفع الله، إذ يحرران فيها صفحة الفن بعد أن تركت الصحافة الرياضية. لا شك أنني وجدت ذاتي في تلك الصحافة الفنية التي جمعتني بأكابر أهل الثقافة والفن. حاورت مصطفى سند، ومصطفى سيد أحمد، وحسن خليفة العطبراوي، وفضيلي جماع، وعيسى الحلو، وغيرهم. وعلى مقربة من مكتب مختار كنت أسعى إلى الهرم الصحفي عمنا قيلي أحمد عمر في مجلة (الأشقاء) الأسبوعية. أجلس معه بتأدب فائق بينما تملأ رائحة الكدوس مكتبه. وكنت أكثر من أسئلتي له. وفي مرة سألته ببراءة:
*من هو الصحفي يا أستاذ؟
- أنت صحفي وما عارف الصحفي يعني شنو يا أبني
* أبدا يا أستاذ أريد فقط أن يطمئن قلبي.
- يا أبني أنا شايفك بتعمل حوارات مش بطالة في الجريدة.. مرة مع أديب..ومرة مع فنان، وبتكتب قبلها في الكورة. أنت عايز تكون صحفي أكتر من كده..كيف يعني؟!
*آي يا أستاذ..لكن، برضو عايز استزيد من خبرتك.
ولما تداعى الديالوج هكذا، قال لي:
أسمع يا أبني: الصحفي هو الذي يأخذ من كل فن بطرف. ومنذ ذلك اليوم وجدتني لا استقر على تخصص في مجال بعينه. أكتب عن صحافة، ورياضة، ونقابة عمر عبد التام. وأكشف تحيزي نحو عركي، وزيدان ومصطفى. ثم أثرثر حول قصيدة النثر، وأحيانا أترجم مادة أدبية من الانجليزية عن شينوا أشيبي. ومرات أقدم قراءة لكتاب يتناول أصوليات الضربة الاستباقية، والمحافظين الجدد، والسوق الحر. وحينا أقدم بحثا عن فن التشكيل، ثم أحاور البروف الراحل أحمد الطيب زين العابدين عن سودانيته التشكيلية. وحينا أعود لأواصل الحوارات مع النخبة الصامتة. وحينا أتناول قضايا المجتمع المدني. ومرات "يتاورني" جرح الصحافة الرياضية لأقدم بانوراما عن الراحل عبد المجيد عبد الرزاق. ولعلي في كل هذه المحاولات أجهل حقيقة إجادتي ما قال به الأستاذ قيلي. ولكن المهم أن ثلاثية (فيصل ونجيب ومرتضى) هي التي أسهمت، لاحقا، بقدر وافر في هذا التبعثر بين مناخ تناول صحفي وآخر.
-2-
نعم. فقد وجدت فيصل صحافيا صارما في التزامه. ويمارس الصحافة بجلباب السياسي الملتزم نحو قضايا شعبه، أو العكس. وهناك تألفه مهتما ومنحازا إلى منظمات المجتمع المدني التي تنادي بالديمقراطية. وفي الشعر فإن مصطفي سيد أحمد غنى له (سفر السكوت):
طوبى للرجال العصافير
كلما حط طائرهم فوق غصن..
غنوا بشجي الكلام..بديع الصور
وبؤسا لنا نحن الرجال الشجر
كلما جرفتنا شجون المنافي
تهاوت جذور الكلام..جفت ينابيعنا
وارهقتنا ليالي السفر
إذا كانت هذه مفرداته الشعرية الحداثية فما هي آفاق الفهم الذي جعله يفضل النهل من البيئة الشعرية الحداثية عوضا عن الارتباط بيئة القافية؟ وهكذا هو، ففي مجال الثقافة ضالع في حوارات الموسيقى وقضاياها المتشعبة ما بين الخماسي والسباعي التي اختلف حولها باكرا جمعة جابر مع د. مكي سيد أحمد. وفي الأكاديميا فإن الصحافي الحائز على جائزة جون ماكلنر يقدم بحوثا ناقدة لرؤى القائلين بصراع مستتر بين المركز والهامش. ومرات يتناول في عموده (أفق بعيد) سيرة التشكيلي عصام عبد الحفيظ، أو تجده يعلق على معرض للصلحي، أو سيف الدين اللعوتة، أو جمعان. أما صديقه الحميم نجيب نور الدين فهو من أكثر الذين استفدت منه في مجال الكتابة الفنية. فهو يمتاز بموضوعية فائقة، ومعرفة عميقة بأسرار أغنية أمدرمان. وربما يعود ذلك إلى إحساسه الراقي في التعامل مع العود الذي أجاده، فأحب (ملهمة) التاج مصطفى، والتي عدها في حديث إذاعي لبرنامج (صالة عرض) للأستاذ علم الدين حامد بأنها نقلة في ألحان وكلمات عبد الرحمن الريح. ونجيب مثل فيصل. صحافي بخلفية ذهنية سياسية كارهة لأفك الشمولية، وناقد في مجالات الثقافة. وله معارف ثرة عن التشكيل، والسينما المصرية،. وفوق كل ذلك فهو مقدم برنامج إذاعي ناجح. هذا بخلاف أنه متحدث لبق في شؤون الصحافة، ومدارسها، ولديه نظرات مميزة في الإخراج الصحفي.
أما ثالثهم فمرتضى الغالي. هذا الكشكول المعرفي الذي عرف بأنه من أميز من كتب العمود الصحفي، وهو درة الصحافة الوطنية التي لا تهادن الاستبداد. مرتضى لم يتجاوز العقد الثالث حين صار كاتبا يوميا بالصفحة الأخيرة في جريدة الأيام مع كبار كتابها، والذين منهم صالح بانقا الذي يوقع باسم ابن البان، وأبو آمنة حامد، وعلي المك، وغيرهم. عموده (مسألة) كان عزفا على أوتار التعقل، والحكمة، والبصارة، ذلك رغم صغر سنه آنذاك. إذ في تلك المساحة يقتصد مرتضى في حروف اللغة ليجللها بالمعاني، والمتعة، والمنطق. قبلها كان قد فاز على المستوى القومي بجائزة الشعر الذي يجيده. ولكن أخذته الصحافة بعيدا عن القصيد. وأي شاعر أضاعت!. أما معارفه حول الجاغريو، وود الفكي، والأمي، وود الرضي، وعوض شمبات، وفاطنة خميس، وزوجها ديمتري البازار، وسير أكابر فناني، وداعمي الحقيبة فهي مما لا تحصى، أو تعد. ولا يدانيه في هذه المعرفة إلا راهب الحقيبة عوض بابكر. ولم يكن مرتضى إلا مثل فيصل ونجيب في معرفتهما الدقيقة بفنون الصحافة. وقد نال مرتضى درجة الدكتوراه في هذا المجال، وصار أكاديميا بارزا في جامعة الخرطوم، وتخرج على يديه العديد من النابهين في هذا المجال. ومرتضى تتنوع همومه ومعارفه السياسية، والاكاديمية، والثقافية، والفنية، والاجتماعية، ليكمل دهشة الثلاثي التي لم تستفد منها الأجيال الجديدة بقدر كبير. ولنا أن نتخيل لو أنهم وآخرين وجدوا الآن في وطنهم وضعا لائقا بهم في الصحافة، أو في الكليات الإعلامية التي تنوعت، فما المعارف التي كان يمكن لهذا الجيل أن يجنيها منهم.؟. ذلك من ناحية تمرير خبراتهم الهائلة للجيل الجديد الذي لم يجد اليوم إلا بعض رؤساء تحرير، وخبرات صحفية قليلة، آثرت أن تقدم مسألة لقمة العيش على المبادئ المهنية، والوطنية، والأخلاقية.
-3-
تبعثر عقد الخرطوم بعد مجيئ الإنقاذ. وأغلقت الصحف أبوابها. ولم نلتق إلا في عام 1993 حينما صدرت الخرطوم في القاهرة، إذ هاجر فيصل إلى قاهرة المعز ليتولى مدير تحريرها هناك مع رئيس تحريرها الأستاذ فضل الله محمد. ثم التحقت بمكتب (الخرطوم) في الخرطوم للعمل تحت قيادة الاستاذ محمد محمود راجي لأراسل ثقافة الخرطوم وملحقها الرياضي. ولم يتول العام إلا وصارت الصحيفة ملتقى جامعا لمعظم كتاب، وأدباء، وشعراء، ومسرحيين، وفنانين وتشكيلين في الداخل، والدياسبورا. وربما فاقت الحوارات التي أرسلتها من الخرطوم المئة في ظرف عام واحد. ولما احتفلت الصحيفة بمناسبة عامها الأول حرر فيصل صفحة كاملة، وهي عبارة عن بانوراما لأميز الأعمال الصحفية المنشورة في ذلك العام. رصد فيها ما أحدثته الخرطوم من أثر في المهجر السوداني. وحين وصلت تلك النسخة إلى الخرطوم تفاجأت بأن الأستاذ فيصل وضعني في المانشيت، وأشار إلى أنني لم أترك مبدعا في الخرطوم دون محاورته للصحيفة. وشكرته على ذلك الانصاف النادر وسط الزملاء. وكانت (الخرطوم القاهرية) قد قامت على أكتاف صحافيين، وكتاب مجيدين، من مختلف مشارب البلاد. وأتاحت الصحيفة للمعارضة فرص طرح أفكارها، وبدت جسرا في أوساط السودانيين في الخليج، وأروبا، وأمريكا. وتلاقى هناك كبار الكتاب عبر صفحاتها لينتجوا التداول الفكري والثقافي لسياسة وثقافة السودان الراهنة والمستقبلية. وقد كانت الخرطوم وقتها القناة الاعلامية الوحيدة التي نقلت وجهة نظر قادة التجمع الوطني، وقدمت عملا مسؤولا في تلك الظروف التي حارب فيها النظام الإبداع، والمبدعين، وهجر القادة السياسيين، والكوادر الثقافية، والاعلامية، والنقابية والعسكرية، والفنية، والأكاديمية، إلخ. ولما وصلت إلى القاهرة بعد ضيق الحال لم أجد بجواري إلا فيصل وبعض الاصدقاء الذين أعانوني على ترتيب الغربة. وساعدني فيصل ومعه الاستاذ إبراهيم عبد القيوم في الحصول على العمل، إذ أشرفت على الصفحة الثقافية لصحيفة (الاتحادي الدولية) بعد أن غادرت الأستاذة سلمى الشيخ سلامة.
ولكن "الحي بلاقي". جاء فيصل إلى واشنطن قبل ثلاث أعوام وأكرمني بأن قضى ليلة ثم غادر فجرا مندسا في بطن الولايات المتحدة لمزاورة شقيقه هاشم، والوقوف على صحة زوجة صديقه الأستاذ فتحي الضو بمناسبة تأرجح صحتها، رحمها الله. بيد أنه هذه المرة جاء إلينا في مستهل الشتاء، مكللا بالنجاح وتشريف الصحافة السودانية بعد نيله الجائزة الدولية. في يوم تكريمه تدافعت كل قطاعات السودانيين نحو نادي الصحافة القومي في واشنطن. وامتلأت القاعة بحضور الصحافيين والمسؤولين الأميركيين. وألقى كلمة ثم تسلم الجائزة من برينستون لايمن وسط تصفيق زملائه الصحافيين السودانيين، والأميركيين، والأغلبية من المنتمين لمنظمات المجتمع المدني. والملاحظ أن عدد الناشطين والاصدقاء تجاوزوا عدد الصحافيين في ذلك اليوم. وذلك إن دل على شئ فإنما على علاقات فيصل المتينة بكل شرائح المجتمع، وبمختلف أعمارهم. وصداقات فيصل، في الواقع، ممتدة بلا حدود. تجده بجانب أصدقائه الصحافيين متواصلا مع عدد هائل من ناشطي منظمات المجتمع المدني التي يشارك في ورشها،، وزملاء الدراسة، والحي، والفنانين، والسياسيين، والعسكريين القدامى، والرياضيين، والأكاديميين، وبعض الناس. والملاحظ أن حب الناس لفيصل، وحبه لهم، يتنوع بتنوع مشاربهم الجغرافية. فهو واسطة العقد في كل تجمع. وربما اسهمت روحه المرحة والبشوشة في التفاف الناس حوله ليسمعوا منه المفيد، وقفشاته التي يغلفها بروح الدعابة. وما كان على الديمقراطيين إلا ليشاركوا عرسه في واشنطن وليتعاطفوا معه في نضاله المشهدي داخل بلاده التي رفض مغادرتها، إذ تجاوز بصلابة كل إغراءات الهجرة التي تقدم له كلما حط طائره في عواصم الخليج، أو القاهرة، أو لندن، أو واشنطن.. ولكنه ظل أفضلنا جميعا حين آثرنا تركه هناك، ويممنا شطر الهجرة. بقي فيصل هناك ليتحسس آلام شعبه، ويكتب عن قضايا الناس، ويسهم في الوقوف بجانب الجيل الجديد من الصحافيين عبر التدريب من خلال (طيبة برس)، والجامعة. ومن خلال مشاركاته المثمرة في الندوات الثقافية، واللقاءات التلفزيونية، وكتابته عبر عموده الصحفي الذي يمرر من خلاله كبسولات من المعرفة، والنقد، والوفاء للرموز، ولأصدقائه الذين أضافوا شيئا جميلا للمجتمع. وتجده يشارك مرة في نيروبي، أو القاهرة، أو الدوحة، أو بريطانيا، أو امريكا في مناسبات تتعلق بالشأن السوداني عموما.
في اقامته التي دامت لثلاثة ايام في منطقة واشنطن الكبرى احتفى زملاؤه، وأصدقاؤه به وبشريكة حياته الاستاذة سمية محمد عبد القادر الشيخ. جاء من الولايات البعيدة الأصدقاء والاقارب بحضور شقيقه الفنان التشكيلي هاشم محمد صالح، والأستاذ فتحي الضو، والاستاذ أحمد حسين آدم، والدكتور الواثق كمير، والاستاذة نجاة عبد السلام. جاءوا ليشهدوا تكريم اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة في ذلك اليوم الذي قدم لنا ندوة عن الحريات الصحفية. وبعدها كرمه الاتحاد ثم طائفة من مجتمع السودانيين هنا، وبعض المنظمات، وتم تكريم زوجته الاستاذة سمية التي ظلت بجانبه، تشد من أزره، وتتحمل مشاق حضوره الدائم في بلاده التي أحبها.
وتواصل التقدير. فالأستاذ لقمان محمد أحمد مدير مكتب البي بي سي في واشنطن أقام له مأدبة عشاء ضمت عددا من المبدعين تقدمهم الكابلي، والفنان عاطف أنيس، وفرقة أوتار النيل التي قدمت أعمالها الرائعة التي صاحبها فيه بالغناء الدكتور النور حمد، إذ أجاد العزف ماهر تاج السر، وفايز مليجي، وميرغني الزين، ومجدي العاقب. واستمر ذلك الاحتفاء الأسري إلى فجر اليوم الثاني. كذلك احتفى به الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان في منزله وسط حضور لشخصيات سودانية من المنطقة. وكذلك احتفى به الأستاذ محمد علي صالح عميد الصحافيين السودانيين في أمريكا بحضور عدد كبير من الزملاء، كما احتفت به التشكيلية محاسن أحمد، وعدد من شباب المنطقة. ولقد أخفق كثير من أصدقاء فيصل في الاحتفاء الخاص به بعد أن تيقنوا من برنامجه المضغوط. ولكنهم عبروا له عن حبهم له، ولمواقفه الوطنية المشرفة. وهكذا واصل جولته في ريشموند، وفيلادلفيا، وولاية أخرى، ومنها آب إلى بسطامه. عذرا فيصل. فلا كرامة لصحافي شريف في بلاد تطارد المبدعين.
واشنطن
السابع من نوفمبر 2013
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.