النكتة السودانية الفكِهة تحكي عن مسطول رأى طيرة تدخل بشباك غرفته وتخرج من الشباك الآخر ، نظر إليها قائلاً : يعني عملتي شنو ؟. والبشير الذي دخل بشباك الانقلاب قبل (24) عاماً يريد أن يقفز هذه الأيام من الشباك الآخر ، فما اشبهه بتلك الطيرة وما أشبهنا بالمساطيل . (24) عاماً قضاها الرجل والغاً في الفساد والسرقة واللهو والعبث ، وتمكين أهله ورهطه ، والكذب على شعبه وقتله وتشريده وإذلال رجاله ونساءه ، وهدم القيم الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ، وإفقار بلاده وتقسيمها والتفريط في سيادتها وبيعها . حتى أن إبراهيم غندور وبعد تنصيبه مستشاراً للبشير ، لم يجد في كل تاريخ رئيسه المتسخ والمليئ بالعار ما يمدحه به غير عار آخر ، قال غندور أن رئيسه تلقى عرضا من حاكم عربي بتأجير أراضي السودان لمائة عام ، لكنه رفض العرض – ما لم يقله غندور أن البشير رفض العرض لأنه لا يحب الإيجار ( بيع وللاّ بلاش) ، (يا فيها يا نطفيها) وهكذا حاله دائماً . يا ترى ما الذي دعا الحاكم العربي (حاكم قطر) لتقديم مثل هذا العرض المسيئ، لولا معرفته بمهانة ورخص وذل عمر البشير ! و ( إن الهوان حمار البيت يألفه .. والحر ينكره والفيل والأسد). الفيل والأسد والضبع والقط والفأر و (المرفعين) و (أم أربعة وأربعين) يعرفون معنى الكرامة والشرف وعزة النفس ويرفضون الهوان ، وعمر البشير لا يعرفه ويتمرغ فيه . شخصياً أجد نفسي داعماً لأي حل سلمي يضمن خروج هذه العصابة من الحكم نهائياً ، رغم أنه يسوئني كما يسوء الملايين من الضحايا أن نرى المجرم يفلت بجريمته في صفقة أو مقايضة أشبه بالمقاصة السياسية ، مقايضة تعتبر هي نفسها جريمة يجب أن توضع ضمن الجرائم الكثيرة التي ترتكب يومياً بين الشهقة والزفرة. الصفقة وبحسب التسريبات ، تشمل ضمن ما تشمل تنحي البشير مقابل جلوس بكري مكانه! صفقة يمكن أن نطلق عليها صفقة ( العوير مقابل البشير) أو سمها إن شئت صفقة ( الغباء مقابل الكذب) ، فما الذي يجعلنا نقبل بهذا الحد الأدنى (والواطئ) من التسويات السياسية ، حتى نوافق على بكري بديلاً للبشير ؟ لماذا لا (يغور) البشير و (بكريه) معاً ؟ أم أننا نسير كما كانت تقول جدتي فاطمة ضرار رحمها الله : ( ماشين من حضرموت إلى الموت)، صفقة أشبه بمن يقبل بأبوجهل مقابل ذهاب أبوسفيان أيام الجاهلية ، مع أننا لو لو قارنا أفعالهما – آنذاك – بما فعله ويفعله البشير وبكري لتوجب علينا الإعتذار لسيادتهما وتقبيل رأس أبوجهل ولحية أبوسفيان : (أمسحوها في وشوشنا يا كفار قريش) ، فأبي جهل كما تقول كتب السيرة أنه حين كان واقفاً بالساعات يراقب بيت الرسول الأكرم سيدنا محمد (ص) كي يقتله ، غضب وزجر أحد مرافقيه عندما عرض عليه القفز إلى داخل بيت النبي (ص) بدلاُ من الانتظار ، ثم قال قولته الشهيرة : ( واللات والعزى لأن أقف هنا الدهر كله أفضل من أن تقول عني العرب أنني أفزعت بنات محمد) ، فالرجل وهو أحد قادة المُشركين تأبى عليه رجولته مروءته ونخوته وأخلاقه أن يدخل البيوت من غير أبوابها فيروع النساء ويفزع الأطفال ، بينما البشير وخلفه الطالح بكري ، ظللا ولا زالا ينتهكان حرمات المنازل ويروعان النساء اغتصاباً وتشريداً ، ويقتلا الأطفال والعجزة والمُسنين. كما تحكي لنا السيرة أيضاً ، عن أبي سفيان ، أنه عندما قابل قائد الروم (هرقل) ، وكان برفقة أصحابه ، سأله (هرقل) معلومات عن الرسول (ص) فرفض أن يتجنى ويكذب عليه قائلاً : ( والله لولا الحياء من أن يأثروا علىّ كذباً لكذبت على محمد ، ولكنى استحى أن أكذب). أبوسفيان هو ألد الإسلام وقتها ، كان يستحى من الكذب علي سيدنا محمد (ص) خوف أن يقول الناس عنه إنه (كذاب) ، بينما البشير الذي يتشدق بأنه صاحب رسالة سامية وحامي بيضة الدين ، لا يستحي يكذب ويتحرى الكذب ، ليس أمام اصحابه وحسب بل أمام شعبه والعالم بأسره. المصيبة لا تكمن في القبول بصفقة الإحلال والإبدال الكارثية هذه ، بل تتجلى عندما تُطرح الأسئلة المهمة : ما هو مصير الدولة التي خطفها الحزب ، وما هو وضع (المتمكنين) في الخدمة المدنية دون أية قدرات ولا أدنى مؤهلات أكاديمية وأخلاقية ؟ ، وما هو مصير آلاف المليشيات الأمنية وعشرات الآلاف من رجال الأمن والجواسيس والعسس، وجماعات الأمن الشعبي والدفاع الشعبي، ...الخ ، لكن السؤال الأكثر أهمية هو : هل سيأتي (أبوجهل) الجديد مع فلول جيوشه المُشركة والكافرة بالتعددية والديمقراطية ، أم سيأتي وحده ؟ رسالة أخيرة للسيد الصادق المهدي : أن التاريخ سيدي الإمام وأنت قارئ حصيف وذكي ونهم ومجيد له – لا شك في ذلك ، فيه الكثير من الدروس والعبر، ولأني كنت شاهدتك وسمعتك من قبل ، وفي معرض ردّك على سؤال لمذيعة قناة الجزيرة بعد اتفاق (جيبوتي) الشهير الذي عقدته مع البشير ، عندما سألتك : كيف رضيتم بهذا الاتفاق ؟ فأمطرتها في سياق إجابتك بوابل من القصص التي استلهمتها من التاريخ ، وأرسلت إليها من الشعر بيتاً يجيب على سؤالها البسيط حين قلت : يقضى على المرء في أيام محنته / حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن ، فأين السودان الآن ، وأين جيبوتي، بل وأين أنتم حضرة الإمام ؟ لقد إزدادت محنتكم ومحن البلاد ، فليتك تسمع نصيحتنا هذه المرّة وتبتعد عن هذا الطريق ، طريق عمر البشير وبكري وساء أولئك رفيقا ، والولوغ في مخططهما الشرير . لكن دعني أتأسى بك سيدي الإمام فأقرأ عليك بيت شعر من ذات قصيدتك الجيبوتية ، بيت يسبق بيت الشعر الذي استدللت به في قناة (الجزيرة) لتبرير اتفاق (جيبوتي) ، وكأني بك تجاوزته حينها عمداً ، ولا بأس من تذكيركم به الآن : دع السياسة جنباً فهي مضنية / وانسى دواهي بلايا الدهر والمحن يقضى على المرء في أيام محنته / حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن . وبما أنك سيدي الإمام كنت جربت البيت الثاني ، فلماذا لا تجرب الذي قبله وها أنذا الآن أضعه بين يديك السياسيتين ، عسى أن يكون خيراً لك ولنا ولبلادنا . [email protected]