يبدأ البيز جيتار أغنية بناديها بنقرشة حلوة يقترب فيها من الطنبور وترد عليه الكمنجات ثم تنطلق لتحلق عالياً بأجنحة من ريش العصافير تحت غيوم كان الدوش قد واعد محبوته قربها.ثم يعود البيزجيتار ليزغرد هذه المرة كالعصاير علي نغم الكمنجات الهادي حتي يبدأ في الخفتان تمهيدا لصوت المغني. والذي ينطلق جهيرا: بنااااااااادييييها بناديييها وبعزم كل زول يرتاح ....علي ضحكة عيون فيها. بناااديها بنااااديها بنااااااادييييييهااااااا من هنا تتضح ملامح المنادي عليها.ليست أنثي من جنس البشر فليس من رجل واحد سيعزم أهل اﻷرض جميعا(كل زول)وليس كما يعتقد كثير من العرب أن زول تعني السوداني وإن إرتبطت بنا لكنها تعني مطلق اﻹنسان.نقول لايعقل أن يعزم كل الناس ليرتاحوا علي ضحكة عينيها.تلك لعمري ضحكة الثورة "بعينها" التي لا تعني إلا النصر علي أعدائها من أصحاب المصلحة الحقيقية في بقاء اﻷنظمة الرجعية والقمعية والمستبدة.ولن تعني الراحة فيهما إلا الراحة من شظف العيش والظلم والغبن بزوال الطغاة الغاشمين. والدوش سيأخذنا إلي هذا المعني فيما بعد. و يصدح وردي بالغناء: أنا بحلم إني في أكوان بترحل من مراسيها عصافير نبتت جنحات وطارت للغيوم بيها مسافر من فرح لي شوق ونازل لي حنان فيها بغني لمراكب جات وراها بلاد حتمشيها ...وأنا بحزن لسفن جايات ومابتلقي البلاقيها !! لماذا إنسحب الدوش للحلم ؟بعد إن حضر ضحكة عيون حبيبته ليعزم كل الناس للراحة ؟ ذلك ﻷنه مجرد إنسان لا يملك سوي الحلم لكن أي حلم ؟ وﻷن الدوش ليس حالما كسان سيمون أو فورييه الطوباويين بل حالم يعرف حدود الواقع وشروط تغييره فإنه ينطلق من الواقع إلي الحلم ثم الواقع مرة أخري في جدل لايقطعه الا الموت البيولوجي له كإنسان محكوم بقانونه كنوع.وبسقوط حد أو طرف التناقض اﻵخر الا وهو المستقبل الذي لن يتحقق تغيير الواقع وتجسيد الحلم الا فيه.لذلك فهو يحلم بمراكب ستجئ ولكنها ستمضي لتشمل بالتغيير بلاد أخري يسودها الظلم.أو محاولات تغيير ناقصة أو مبتو ة. ويحذر من حزنه لسفن ستأتي لكن لن يكون في إستقبالها أحد !! لافرق عندي في الدلالة الرمزية بين المراكب والسفن.وقد إستخدمهما الدوش لتفادي التكرار.بيد أنه سيغني للمراكب ويحزن للسفن.فاﻷولي عابرة رغم بشارة التغيير التي تحملها.وأما الثانية فهي المحاولات التي ستفشل في إحداث التغيير(ومابتلقي البلاقيها). وينساب النغم بكامل الأوركسترا لأن الخروج من الحلم إلي الواقع يبدو خيطاً رفيعاً قابل للأنكسار.حتي يغني وردي مرامي الدوش: ..ولما تغيب عن الميعاد بفتش ليها في التاريخ وأسأل عنها الأجداد وأسأل عنها المستقبل اللسّع سنينو بُعاد بفتش ليها في اللوحات محل الخاطر الماعاد وفي الأعياد.... في أحزان عيون الناس .. وفي الضٌل الوقف مازاد !! ووردي هنا يترك الأوركسترا تعمل عمل الخلفية لصوت الشاعر ليتلو الأبيات تلاوة .هو بذلك يفتح نافذة للشاعر علي اللحن ليؤكد أو ليضغط علي المعاني. وهي عبارة عن فسيفساء أو بانوراما البحث عن الحبيبة/الثورة أو التغيير للأفضل .... ولما تغيب عن الميعاد أن تكون الظروف الموضوعية للتغير ناضجة بيد أن الظروف الذاتية(غيابها) غير ذلك.أن تكون الجماهير ,صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير,عاجزة عن ذلك.وهو أقسي مايعانيه الثوريون الحقيقيون. ماذا يفعل حينئذ ؟ ينسحب للماضي لا ليجتره ولكن ليستلهم منه. ليحرّض بأحداث حدثت بالفعل علّه يرفع بذلك الهمة عالياً. ويسأل عنها الأجداد تأتي في ذات السياق لكن ليعرف الناس ماذا كانوا فاعلين ؟.والدوش يستخدم جدل الماضي والمستقبل بفعالية عالية حين يقفز مباشر للمستقبل "وسنينو البعاد" كأنه يريد أن يقول لنا :اذا لم تثوروا الآن فإنكم ستكون في حال أسوأ مئات المرات لأن "واقع الظلم " الذي تعيشونه الآن سيمتد ويصادر المستقبل وكل"سنينو البُعاد".بفتش ليها في اللوحات :محل الخاطر الما عاد .الدوش هنا لا يهيم في ملكوت منفصل عن الواقع لكنه يريد التأكيد علي دأبه وجدية بحثه عن وسائل التغيير وأدواته مهما كانت صعبة وبعيدة. وأحزان عيون الناس لأنها هي التي تمثل المعادل الموضوعي لما ينشدونه من فرح/تغيير للأفضل .ويبلغ الدوش ذراه حين يصل به البحث عنها حتي في الظل الذي يظل ساكناً ولا يزيد ! وكانت رعب نظام نميري عندما غناها وردي .ومضي تأويلها حدوداً بالغة الروعة حين قيل بأن بداية النظام كانت صوب الاشتراكية كان هو الظل الذي سكن _بغياب شمسها _حين تحول لليمين بعد ما سُمي بالمصالحة الوطنية ولم يزدد بعد ذلك شبراً واحداً حتي زمن الإطاحة به في 26 مارس 1985م. وينكسر النغم بعدها ليزداد صخب الكمنجات والبيزجيتار والساكسفون, أكثر مماكان عليه الأمر في المقدمة. غزل يبدو كجدل المركب والموج. فالموج عارم وقوي يدفع المركب ليقلبه .والمركب يراوغ الأمواج وينزلق فوقها, لا تحتها, وغايته أن يصل إلي الضفة. إنه غزل يضج: شهوة. ولذة .وخوف.وفرح.شهوة القتل التي في الموج. تماما كشهوته للحياة تلك التي يحملها طينه الثخين. ولذة خشب المركب حين يصطدم بطين الضفة يكاد يزغرد للنجاة. وخوف المركب من الغرق. وفرح الموج حين ينجح في قلبه رأساً علي عقب. غزل الحياة والموت. فوردي الذي سمع هذا النغم حتي قبل أن يولد. ثم ولد وترعرع وشب عن الطوق وبلغ ذروة الشباب في جزيرة تحيط بها الأمواج من كل حدب وصوب سيكون هذا الإيقاع رفيقه حتي النفس الأخير. ولكأنه هو هو إيقاع الدليب ذاته ! صاخباً كالنهر أيام الدميرة.ذلك لأنه فهم رسالة عمر الطيب الدوش :التظاهرات. يشبه إيقاعها تماماً. وينطلق بحجرته الماسية يغني: بنااااديييها وألاقييييها وأحس ياللقيا زي أحلام بتصدق يوم وألاقيها !! وأحلم في ليالي الصيف بساهر الليل وأحجّيها أدوبي ليها ماضيها وأطنّبر ليها جاييها وأرسل ليها غنوة شوق وأقيف مرات وألوليّها ويعود الدوش ,مرة أخري للحلم/المستقبل. هذه المرة في ليالي الصيف يساهر قربها ويحجّيها.والأحاجي ومنها مفردها :الحجوة.وتعني اللغز. الدوش ذلك الشاعر العبقري. لماذا إختار الألغاز. لأن فيها ما يشحذ العقل ويستفزه. الدوش لا يريد أن يسلي الناس. لا لا ليس هذا زمان التسلية. التسلية للمترفين.المتخمين.وللشعب أن يعلم الحقائق فمنها ينطلق موكب التغيير. ثم يأتي بالدوباي أو الدوبيت ليفك به طلاسم الماضي. فالماضي و وهو كل لحظة تقع, لا يمكن تغييره, لذا يتعين,لتغييره,معرفة كيف وقع. فبدون معرفة كيفية وقوعه لا يمكن معرفة الآلية التي يمتد بها في المستقبل ليصادره.والدوبيت كما يعرف الكثرين كلمة فارسية عربية. دو تعني إثنين.وبيت هي بيت العربية نفسها. والمعني العام هو شعر يتكون من بيتين بيتين.أو أربعة بيوت مقسمة إلي إثنين.ولقد بدأ بهما فن الغناء في السودان. فهو ضرب من الغناء يعتمد جمال صوت المغني ولا تصحبه أية آلة موسيقية. لهذا بالضبط لم يقل الدوش"أطنبر" ليها ماضيها .فهذا عكس سيرة الغناء التاريخية. الدوبيت فن الماضي.أما الطنبور(الآلة الشعبية الأقرب لتطور فن الغناء في السودان)فقد كان تاليا لفن الدويبت.ومنه سينطلق ليدوزن به "جاييها" أي مستقبلها. مرة أخري نحن إزاء جدل من نوع جديد.جدل الصوت البشري(ورمزه الدوبيت) والطنبور.وماينتج عنه من إبداع .وأرسل ليها غنوة شوق .فبعد إن كانت معه يساهر الليل ويحرضها علي تقديم إجابات لألغاز الفساد والغش والدجل.هاهو يبتعد عنها.أو تبتعد عنه هي فيرسل إليها غنوة شوق دليل اللهفة إلي اللقاء. ثم يعود مسرعاً. أو تعود هي إليه. وترتمي في حجره ل"يلوليها". وهو تعبير محلي صرف. لن يفهمه الا هذا الشعب علي وجه الدقة. والناس في السودان "تلولي" الأطفال أي تهدهدهم ليناموا.فهل يريد الدوش أي "ينوّم" الثورة ؟ لا يمكن فهم هذا التناقض الا في الإطار العام لمنطق الجدل أو الديالكتيك الذي يعتمده الدوش علي طول قصيدته/حلمه .فهي معه. وبعيده عنه. قريبه فيهدهدها.وبعييييييده :فيناااااديييييهااااا أخيرا: لقد كتب الدوش حلمه/حلم الملايين من أبناء هذا الشعب .وفهم محمد وردي المغزى فكسي المغزى لحنا ومغني . .فليتبارك الشعب أحسن "الخالعين" !! [email protected] بناديها - محمد وردي