إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين والدولة والثورة
نشر في الراكوبة يوم 25 - 06 - 2014

يتفق علماء الاجتماع والاقتصاد السياسي على أن مفهوم الدولة، ككيان سياسي وجغرافي، إلى بنيتين، البني التحتية وتشمل المؤسسات الخدمية والتنظيمية، والجيش والأمن أي ما يعرف بجهاز الدولة، والبني الفوقية أي المفاهيم والإجراءات والبرنامج السياسية المعتمد في إدارة ذلك الجهاز، بالتالي فإن تلك المفاهيم والإجراءات والقوانين المعرفة ب "البنى الفوقية" هي التي تمنح الدولة شكلها السياسي، وهذا الشكل إما أن يكون منسوباً لبشر وهو ما يصطلح عليه بالدولة العِلمانية (مشتقة من العِلم) أو العَلمانية (مشتقة من العالم) وهي تقوم على فصل الدين عن الدولة. وأما أن يكون منسوباً إلى قوةٍ فوق البشر وهي ما يطلق عليه الدولة الدينية. فما هي علاقة الدين بالدولة؟ وهل فصله عن الدولة يعني فصله عن الحياة؟، هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه العجالة.
تعد الدولة نتاج المجتمع عند درجة معينة من درجات تطوره، أو كما تقول الماركسية: (الدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية) حينما تتكشف تناقضات المجتمع وتتضارب مصالح كياناته وتتسع الهوة الطبقية بين أفراده وقد انقسموا إلى متضادات مستعصية والمجتمع عاجز عن الخلاص منها. وحتى لا تقوم هذه المتضادات، الطبقات ذات المصالح المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً، اقتضى الأمر وجود قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع لتلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». فالدولة هي القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه" ، ونستشف من ذلك أن البنى الفوقية أي المفاهيم والإجراءات والبرامج السياسية توضع من خلال الطبقة المهيمنة، وقديماً في بدايات ظهور الدولة ، حينما كان المجتمع منقسماً إلى طبقتي الأسياد والعبيد كانت المفاهيم والقوانين توضع بواسطة الأسياد، وبعد تطور المجتمع وبلوغه المرحلة الإقطاعية كان النبلاء هم من يسن القوانين، وبعد ثورة البخار وظهور الطبقة الرأسمالية بدأ الرأسماليون يضعون القوانين التي تراعي مصالحهم، وفي ظل المجتمعات الاشتراكية أصبح حزب الطبقة العاملة هو الذي يسن القوانين، أما الآن فقد صار التوجه العالمي بسبب التعقيدات الطبقية وتطور الوعي بالحقوق، وفي ظل القيم الليبرالية الحديثة توجه العالم على مختلف مشاربه نحو الديمقراطية التي تكفل الحريات وتحمي الأقليات وتهيئ المناخ الملائم لممارسة الديمقراطية لكل الطبقات المتناحرة. ووجد العالم ضالته لتحقيق ذلك في اطار العلمانية.
. العِلمانية والدولة العَلمانية:
العِلمانية كما أسس لها واضعها الفيلسوف البريطاني "جون لوك" لخصت وظيفة الدولة في رعاية مصالح المواطنين الدنيوية، حيث يتساوى فيها الجميع وبمختلف دياناتهم وإثنياتهم وتوجهاتهم السياسية وتكفل الحريات بما فيها حرية المعتقد.
لكن العلمانية، بمفهوم فصل الدين عن الدولة، لا تضمن بأية حالٍ صلاح الحكم حيث شهد العالم أشدَّ الفظائع تحت مظلة العلمانية كنظام شاوسيسكو في رومانيا وعبود والنميري قبل إدعائه الإمامة حيث صار أسوأ مما كان، فالأهم هو توفر عنصر الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات وحقوق المواطنة وإرساء القيم والمبادئ الإنسانية.
وهناك خلط متعمد بين العَلمانية (المشتقة من العَلم والعَالم) وبين العِلمانية (المشتقة من العِلم) من قبل قوى اليمين المتشدد في اطار المعاداة للعَلمانية ، من باب شيطنة الخصم، حيث يشار إليها كأنها فكرة متلازمة مع الكفر والالحاد مع كسر العين عمداً، حتى لا تعني فقط بإبعاد المقدس الديني عن الممارسات السياسية، بل فصل كلِّ القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الدولة، وقد قال الأستاذ الراحل محمد إبراهيم نقد :" اننا لا نتقيد بحرفية المصطلحات، او بما اذا كان مصطلح «علمانية» بكسر العين ام بفتحها، وأننا نعطي الأسبقية للديمقراطية كحقوق وحريات وكنظام حكم ومؤسسات، وأننا نعارض الدولة العلمانية عندما تصادر الديمقراطية،، مثل معارضتنا لدكتاتورية عبود، من جانب، ودخولنا، من الجانب الاخر، في صراع وصدام مع نظام مايو، سواء عندما بدأ يسارياً وعلمانياً، او عندما اعلن نميري قوانين سبتمبر عام 1983م ونصب نفسه اماما".
. الدين والدولة الدينية:
جاء الإسلام خاتمة الأديان كثورة ثقافية واجتماعية كبرى، هدف إلى تحقيق مقاصد الاستخلاف في الأرض بالإضافة إلى خلاص النفوس في الآخرة ، فقام بإرساء دعائم مجتمع جديد يقوم على العدل والشورى والأخاء والمساواة، وقد بين القرآن أن السلطة المطلقة والحكم لله وأن لا يعبد سواه، (.. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿40﴾ يوسف. (قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ۚ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴿57﴾ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الانعام. هذا المعنى اللفظي يوضح بإن الحكم لا يكون إلا لله بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية المطلقة من خصائص الألوهية، ونحن حينما ننادي بالعلمانية لا ننازع الله سبحانه في ذلك. لأن تلك الحاكمية الألهية تختلف عن ما نحن بصدده، فحكم الله إن شاء عجل به في الدنيا أو فصل فيه يوم الفصل، وكما جاء في تفسير أبن كثير للآية حينما خاطب الرسول (ص) المشركين" (ما عندي ما تستعجلون به) أي من العذاب، ( إن الحكم إلا للّه) أي إنما يرجع أمر ذلك إلى اللّه إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجّلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال: ( يقص الحق وهو خير الفاصلين) ، وهذا المعني من الوضوح بحيث لا يحتاج لإجتهاد، وقد أتفق في ذلك القرطبي والجلالين.
وكما أن هناك الحاكمية المطلقة والتي هي وشأن إلهي وهي إما مرجأة أو معجلة وفي ذلك تلتقي كل الأديان، هناك الحكم الجزئي أو السلطة السياسية الإجتماعية (في الواقع الإرادي للإنسان) الواقع الذي سخره الله للإنسان وأمره بإعماره فهو الذي نعنيه حينما نتحدث عن الحكم أو عن أداة الحكم أو عن تنظيم المجتمع أو بناء الدولة أو عن ممارسة السلطة السياسية أو الإجتماعية أو كيفية هذه الممارسة في الواقع الإنساني السياسي الاقتصادي الاجتماعي .. ألخ تحقيقاً لمقاصد الدين كما ذكر الأستاذ سالم الغمودي في الإسلام والدولة . وهذا الحكم الجزئي هو تخويل من الله سبحان وتعالى لعباده جميعاً لم يستثنِ منه أحد أو فئة أو إثنية ، أي مجتمع وأي دولة هي مكون إنساني وأي إنسان مستخلف مكلف بتعمير الأرض وهذا الإستخلاف يتطلب قيام سلطة لتنظيمه، والأنسان يشارك في طريقة أختيارها ، وقد حمل لنا التراث العربي الإسلامي مختلف أشكال السلطة من الخلافة إلى الإمارة إلى الجمهورية، كل نظام يعبر عن مرحلة التتطور الوطني الذي يمر به المجتمع، وحسب تقلبات الحياة وتوسع دائرة تعقيداتها وكلما إزدادت التناقضات صارت تلك النظم والتشكيلات أكثر تعقيداً، ويدعي دعاة الدولة الدينية بأن حكمهم هو حكم إلهي وفي ذلك تجني على الذات الأهية، فلو كان ذلك الحكم الجزئي كما يدعون لكان نص عليه القرآن الكريم (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) الأنعام (38) ولما جرى ما جرى في سقيفة بني ساعدة، ولما اختلف الصحابة واقتتلوا حول من يخلف ويحكم ، فهم لم يختلفوا حول الدين بل في الحكم ووسائل تداول السلطة وذلك أمر دنيوي بحت وهو جزئي وليس مطلق بأية حال من الأحوال.
. الدولة والثورة الوطنية الديمقراطية:
يتبنى الحزب الشيوعي السوداني في إطار مشروع بناء الدولة السودانية برنامج التطور الوطني الديمقراطي، وهو البرنامج الذي كان يفترض الشروع في إنجازه عقب الإستقلال مباشرة، وهو برنامج علماني لكنه الأكثر قرباً لتحقيق مقاصد الدين وتجسيد معاني الإستخلاف في الأرض بتعميرها، حيث يهدف لإحداث نهضة شاملة وتنمية حقيقية تشمل كافة المجالات بإستنهاض همم الشعب السوداني بقيادة السلطة الوطنية الديمقراطية التي تتسم بتركيبتها السياسية الاجتماعية التي تعبر عن تحالف عريض لكل القوي الاجتماعية المنضوية تحت الجبهة الوطنية الديمقراطية والتي تشمل العمال والمزارعين، المثقفين، والرأسمالية الوطنية المستثمرة في دائرة الإنتاج وامتداداتها ممثلين في تنظيماتهم السياسية واتحاداتهم ونقاباتهم ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. ويحكم تلك السلطة الوطنية الديمقراطية برنامجها المجاز بواسطة تحالف قواها الاجتماعية ممثلة في تنظيماتهم السياسية واتحاداتهم ونقاباتهم ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. وتعتمد السلطة الوطنية الديمقراطية على سياسات ومبادئ الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من خلال الديمقراطية البرلمانية المدعومة بالديمقراطية المباشرة التي تمارسها الجماهير عبر تنظيماتها، ومن خلال مختلف الآليات والقنوات المحكومة بالقانون واللوائح من اجل تعميق المشاركة الشعبية في العملية الديمقراطية وإتاحة الفرصة إمام أوسع القطاعات للتعبير عن رأيها بحرية ولممارسة حقوقها في المواطنة وصنع القرار. كما في مشروع البرنامج المقدم للمؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوداني- فهل في ذلك ما يصادم الدين؟ أم أنه جوهر الدين الذي كلفنا بإعمار الأرض.
كثير من المسلمين البسطاء المؤمنين والمتدينين الذين لا يبتغون إلا مرضاة المولى عزَّ وجلَّ في علاه، لهم تساؤلات مشروعة وطموحات مستحقة في مسألة دمج الدين والدولة، فهم يتساءلون في إن أحكام الشريعة فرضها الله فكيف لهم التمرد على أوامره؟ فهنا يجب أن نوضح أن الدستور العلماني المنشود لا يمنع أن تضمن في قوانينه تلك المبادئ الدينية التي تتفق مع العصر وهذا شيء طبيعي، حيث إنه في أكبر قلاع العلمانية في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، تتأثر حياة الناس بالقوانين الخاصة بالأسرة، كالإجهاض وزواج المثليين، أمور شتى تتأثر بمواقف الناس الدينية، ويصدرون حولها قوانين مبنية على الدين، وحتى التجارب العلمية في الاستنساخ البشري، والتعديلات الوراثية والبحوث حول الخلايا الجذعية، في معظم أقطار العالم تتأثر كذلك بالدين، لذا لا يوجد ما يمنع من تحقيق تطلعات الناس الدينية في الأحكام الشرعية، والتي لها علاقة مباشرة بحياتهم وقناعاتهم، ودستور 1956 المعدل في 1964 السوداني كان دستوراً علمانياً، لكنه حوى تشريعات عديدة تخص حياة المواطنين مصدرها ديني، لكن لا بد للحكم الديني حتى ينفذ أن يتفق مع معايير الحاضر إذا وجد بديل يؤدي لنفس الغاية، لكن بطريقة أكثر إنسانية بمعايير اليوم، فلنطبق البديل، فالهدف من الأحكام هو تحقيق العدالة، والعقوبات شرعت لزجر النّاس عن الجرائم، فلو كان التشريع يعوق تطبيق العدالة، وأن نجد التعليل بالمصلحة، وأن نأخذ بالتلابيب العلم وأحدث ما توصلت إليه التكنلوجيا في تحقيق أغراض تطبيق العدالة، والحد من الجريمة، إن الأمر لا يحتاج لأكثر من إعمال العقل لاستنباط أفضل الوسائل والتشريعات التي تحقق حلم الإنسان المسلم البسيط بأن يرى دينه سامقٌاً كالطود، وأحكامه منارةً تضيء بالعدالة، يشهد لها الخصوم قبل الأصدقاء بإنسانيتها وحكمتها ونزاهتها. ولنا القدوة الحسنة في سيدنا عمر بن الحطاب رضي الله عنه، كما جاء في الأثر، كيف أنه وازن بين ما هو ضروري وجوهري، وما هو مؤقت وغير ضروري، وكيف أنه يربط الجزئيات بالكليات، يردُّ الفروع إلى الأصول، كان هذا شأنه في عهد الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) ثمَ في عهد خليفته من بعده، ولم يخرج عن ذلك حين آل الأمر إليه، والمتتبع لفتاواه لا يُعجزه أن يجد التعليل بالمصلحة، والأخذ بسد الذرائع، ودفع المفاسد، وإيقاف العمل ببعض الأحكام لزوال عللها، أو لفقدان بعض شرائط تطبيقها. وكانت عبقريته تتجلى في الجمع بين فهم النص ومعرفة وفهم الواقع، ويُقصد بفهم الواقع هنا ما تجري عليه حياة الناس في مجالاتها المختلفة، من أنماطٍ في المعيشة، وما تستقر عليه من عاداتٍ وتقاليدٍ وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث، وكان سيدنا عمر يأخذ بالمصلحة أساساً في الاجتهاد، واختيار الأنفع، فإذا كان لا بد لتحقيق المصلحة من حدوث مفسدة، فكان يرتكب المفسدة الأخف ليدفع بها المفسدة الأعظم، والأمثلة على ذلك كثيرة كتطبيقه لسهم المؤلفة قلوبهم، وحد الزنا، وحد السرقة، ومنعه لنكاح الكتابيات (اجتهادات عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) دراسة أصولية- للباحث/ خالد محمد عبد الواحد حنفي المدرس المساعد بكلية الشريعة جامعة الأزهر – القاهرة)
كما أن على دعاة الدولة الدينية اليوم أن يضعوا في اعتبارهم أن أكثر من ثلث مسلمي العالم يقيمون في دول غير إسلامية، الغالبية فيها تدين بأديان أخرى، وأن المسلمين أقلية، مثل الهند والصين والفلبين وفرنسا وأمريكا، مصالحهم وحقوقهم يكفلها النظام العلماني القائم في تلك الدول، حيث المساواة في المواطنة والحقوق، هل ترغب الجماعات الإسلامية في أن تتم معاملتهم بالمثل كما هم يودون أن يعاملوا أصحاب المعتقدات الأخرى في دولتهم الدينية المنشودة ؟.
كما يجب ألا ننسى أن الفكر السلفي نفسه ما عاد يقبل بكثير من المعايير التي كانت من المسلمات في الماضي، مثل السبي، واستعباد المهزوم، وغنم الممتلكات إلخ ..، فهل يستطيع أولئك المنادون بتبني أسس الدولة الإسلامية الأولى ممارسة هذه الأفعال "الشرعية جداً" الآن؟ وإذا لم يكن متاحاً ذلك نتيجة لتطور وعي الناس واختلاف الزمن الذي لا يسمح لمقاتل أن يسلب خصمه دبابته أو طائرته، فلماذا يضعون الماضي كمعيار وحيد يجب الاهتداء به؟ عندما بنيت فكرة الولاء والبراء لم تكن هنالك دول ذات تكوين ديني هجين، الآن هنالك مسلمون بأعداد مقدرة وأساليب تدينهم، بمختلف طوائفهم، محترمة وأموالهم وأعراضهم مصانة مثل الهند التي بها أكثر من مئتي مليون مسلم، فما هي مرجعية هؤلاء في ممارسة حياتهم غير الخضوع للدستور والقانون الذي يعطيهم نفس الحقوق التي يعطيها للأغلبية الساحقة من مواطني هذا البلد. فلماذا لا يكون هذا النموذج الممتاز هو النموذج السائد عندنا كمسلمين.
إن للدين والعبادات غاية مقدسة، ووظيفة سامية، تتلخص في خلاص النفوس في الآخرة بالأعمال الصالحة في الدنيا، ووظيفة الدولة تتلخص في رعاية مصالح المواطنين الدنيوية، فالدولة مهما ادعت من تدين، ومهما وضع على رأسها من أئمة ورجال دين، ومهما بلغ حكامها من ورع وتدين، ومهما توسعت في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات الدينية، والمصارف والبنوك الإسلامية، وبكل ما تملك من سلاح وأجهزة شرطية، وتشريعات وقوانين دينية أو منسوبة للدين، لن تستطيع أن تضمن لمواطنيها نجاتهم في الآخرة.
إننا لو نظرنا لوضع الدين والتدين نجده أكثر تماسكاً، وأحكم رباطاً، والأوثق بين الناس في ظل الدولة العلمانية، وذلك لأن الدولة التي تملك القرار والقوة لن تكون طرفاً في أي صراع ينشأ بين طوائفه المختلفة، أما في ظل الدولة الدينية، فلن تكون إلا طرفاً في الصراع الطائفي مما يوقع الفتنة في المجتمع.
الدين صار غريباً، والمتدينون الحقيقيون أكثر غربةً، وقد ثبت من خلال التجربة السودانية، أن انحياز الدولة للإسلام السياسي شجع على النفاق والتدين الشكلي وانتشار الفساد والجريمة والتفكك الأخلاقي وانهيار قيم الفضيلة، فضلا عن أنه سبب رئيسي لتقسيم البلاد، ومازال يهدد ما تبقى من وحدة الدولة، ووحدة نسيجها الاجتماعي والتعايش السلمى بين مواطنيها. فقضية العَلمانية هي صياغة المستقبل، وهي الضمان ليتساوى الجميع في الحقوق والواجبات وحقوق المواطنة والقيم والمبادئ الإنسانية وإعادة الاعتبار للدين بتحولَه إلى سلطةٍ روحية خالصة، لا يستطيع السياسيّ التحكّم بها. والمحافظة على قيم التسامح والتعايش الديني بما يمكن أن يفجر طاقات الشعب الخلاقة في البناء والتطوير والتحديث للحاق بركب الحضارة.
الميدان
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.