أحمد مصطفى / سفير موريتانيا سابقا بالسودان ما زلت أذكر عبارات الفريق سلفاكير ميارديت نائب رئيس جمهورية السودان رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية، خلال زيارة المجاملة التي أديتها له بالخرطوم يوم كنت سفيرا لموريتانيا... قال الفريق ممازحا بعربية أهل جوبا "لا تكن كغيرك من الشناقطة الذين يطيب لهم المقام في الشمال، وقلما يجذبهم الجنوب... وأردف الفريق بأنه سمع عن عدد قليل عن الشناقطة التجار أقاموا ببعض مناطق الجنوب قادمين من دول إفريقية مجاورة وأمر بإكرام وفادتهم... لأننا نحتاجهم يقول سلفاكير واستفسر سلفاكير عن واقع موريتانيا وعن الديمقراطية وعن علاقاتها في ذلك الحين مع إسرائيل"، وبخصوص هذه العلاقة التي كان يوليها أهمية خاصة قال سلفاكير وهو يربت على كتفي "الدول لا عواطف لها، الدول لها مصالح... استعينوا على أموركم بالكتمان... فالكل يتعامل مع إسرائيل والعلاقات من أي نوع كانت ما هي إلا شكل من أشكال إدارة الصراع...". وبقدر ما كانت ملاطفات الرجل هادفة إلى إزاحة الكلفة وإشاعة جو من الألفة بيننا كانت أيضا تعبيرا عن قناعة لمستها لديه ولدى قادة الصف الأول في الحركة الشعبية بأن الجنوب سائر نحو انفصال حتمي، ولكنه رغم ذلك لن يتنكر للشمال ولن يتنكر للتاريخ والجغرافيا، بل سيكون في أمس الحاجة إلى العرب بأموالهم وعقولهم واحتضانهم. فالإنفصال لن يكون نهاية المطاف، بل ربما يكون بداية علاقات جديدة أكثر واقعية مع شمال السودان وعبره مع العالم العربي. حقائق لا يمكن تجاوزها من يقرأ الحقائق على الأرض يدرك خصوصية الروابط وتشعبها بين الشمال والجنوب على كافة المستويات، فالنفط يقع في مناطق التماس بين الجنوب والشمال خاصة منطقة أبيي التي سينظم استفتاء مصيرها لاحقا لاستفتاء الجنوب والتي نص البروتوكول الخاص بها الذي لم يطبق بعد، كما نصت تفاهمات لجنة رسم معالم حدودها على أن 39% من حقول نفطها باقية ضمن الشمال يضاف إلى ذلك أن كل أنابيب النفط متجهة نحو الشمال نحو بورسودان على البحر الأحمر ومناطق التخزين في الشمال ومناطق التكرير هي الأخرى في شمال السودان، فتدفق نفط الجنوب عبر الشمال يمثل الخيار الاقتصادي الأنجع لتوفر شبكة الأنابيب في مناطق آمنة، ثم إن البدائل الأخرى كميناء جيبوتي وميناء مونباصا بعيدة، ولا تتوفر شبكة لضخ النفط نحوها، وإن توفرت فكلفتها ستكون باهظة وستمر عبر مناطق لا توفر الأمن الكافي، وإذا أضفنا إلى موضوع الأنابيب موضوع التكرير وتواجد محطاته في الشمال وحاجات الجنوبيين الفورية للنفط المكرر لأدركنا أن النفط سيكون ورقة تكامل وتعاون بين جنوب السودان وشماله مع أرجحية كفة الشمال. وضع اجتماعي وقبلي هش سيكون تصويت الجنوبيين للانفصال نهاية مرحلة استطاعت فيها الحركة الشعبية تحقيق قدر من إجماع الجنوبيين ولو ظاهريا على خيار الانفصال، ومواجهة الشمال، أما وقد تم الاستفتاء وكشفت الأوراق، فإن المكاشفة لكي لا نقول المواجهة ستصبح جنوبية - جنوبية، وهنالك من البهارات ما يجعلها متفجرة كل حين. فعلى المستوى القبلي سيشتد التنافس بين الدينكا والنوير وسيجد الشولك ومجموعة القبائل الاستوائية أنفسهم أمام مواجهة هيمنة الدينكا المرفوضة محليا، وستشكل لمسيرية وغيرها من القبائل العاربة والمستعربة والنيلية والنوبية عمقا قبليا مؤثرا وصعب المراس. ويتوقع أن يتأجج الصراع السياسي بين المكونات الجنوبية (حوالي 20 حزبا سياسيا)، لم تعد لديها يافطات خارجية تدفعها لتوحيد المواقع ظاهريا ، بل ستتواجه داخليا، وستتصارع حول تقسيم كعكة الانفصال، وقد بدأت بالفعل هذه المواجهات، ولن يكون آخرها تمرد الجنرال آلتور الذي انفصل عن الجيش الشعبي بكتائب مسلحة والذي أضطر سلفاكير بدل معاقبته إلى مكافأته بتوقيع اتفاق تهدئة معه ودفع رواتب متمرديه. ولا يستبعد أن يكون خروجه بداية تمرد وخروج قادة جنوبيين آخرين مما سيخلق حالة من الفوضى قد تفضي إلى اقتتال يضعف الدولة الجديدة ويجعلها تحت رحمة جيرانها المباشرين. وعلى ذكر الجيران بدأ يطفو على السطح بشكل لافت تناقض المصالح اليوغاندية والكينية، فاليوغانديون بدعم إسرائيلي هم من دفعوا بقوة في اتجاه الإنفصال والكينيون هم من يتطلعون بدعم الأمريكيين إلى اقتناص ورشة بناء دولة ناشئة كثيرة الموارد وعاجزة عن تدبير شؤونها الاقتصادية والخدماتية، وربما الأمنية. وهنالك لاعبون آخرون فإسرائيل موجودة بسلاحها ومخابراتها وصناعاتها ولوبياتها، وقد عملت بنفس استيراتيجي طويل على تقليص خارطة الوطن العربي والوصول بطريقة ملتوية إلى منابع النيل، ومن خلالها إلى التحكم في موارد المياه الإفريقية الهائلة في مستهل عصر الماء الذي يتوقع أن تكون الغلبة فيه لمن يتحكم بمصادر المياه ويسخر التكنولوجيات المتقدمة لاستخراجها وتسويقها. الدور المصري والعربي: هواجس وإخفاقات أقل ما يقال إن المصريين لم يواكبوا مجريات الأحداث من خلال وضع تصور استيراتيجي لمتغيرات الأوضاع، رغم حيوية الموضوع بالنسبة لهم وتعلقه المباشر بمياه النيل وبحيات مصر التي كانت وستظل كما وصفها هيرودوت هبة النيل، وعدم وضوح الرؤى المصرية ألقى بظلال ثقيلة في الماضي على مسار الأحداث فاتهام السودان وبعض أجهزتها بالوقوف خلف مهاجمة موكب الرئيس حسني مبارك بأديس بابا وما نجم عنه من مواقف مصرية ضاغطة على الشمال أدى في ذلك الوقت إلى كشف ظهر الحكومة السودانية، وزادت مصر من ضغطها في مناطق حدودية أخرى كمنطقة حلائب المتنازع عليها، وقد تكون هذه الضغوط المصرية أدت من بين أمور أخرى إلى دفع الحكومة السودانية مكرهة في اتجاه توقيع اتفاقية السلام التي أدت إلى الإنفصال. وبين الأمس واليوم جرت مياه مصرية كثيرة تحت الجسور... وتحاول مصر جاهدة اللحاق بقطار الإنفصال الجنوبي، وقد سبقت الإنفصال بفتح قنصليات ومكاتب تجارية وبنت مستشفيات وجامعات واستقبلت آلاف الطلاب الجنوبيين ووعدت بتدريب ضباط الجيش والشرطة، تقوم مصر بكل ذلك وعينها على منسوب المياه المتدفقة عبر النيل، فهنالك دولة جديدة تولد على مجرى النيل وتتحكم في أحد أهم روافده وهذا واقع يمس الأمن الاقتصادي والسياسي المصري في الصميم. وإلى جانب الدور المصري يتواجد العرب بصورة غير منظمة فالمقاولات اللبنانية موجودة، وبدأ القطريون والإماراتيون والسعوديون يتجهون بصورة محتشمة نحو الجنوب تفاديا لإحراج الخرطوم التي ظل خيار الوحدة خيارها المعلن. متغيرات ما بعد الإنفصال بعد انقشاع زبد نشوة الإنفصال يجد الفرقاء أنفسهم في مواجهة واقع جديد ومتغيرات جديدة، فالدول الغربية الراعية للانفصال كفرنسا والولاياتالمتحدة وابريطانيا ستحاول شركاتها النفطية إزاحة الهيمنة الصينية على قطاع النفط وسيندلع صراع شركات ساخن يتوقع أن يخوضه الصينيون بقوة انطلاقا من مواقعهم كمستغلين فعليين لنفط الجنوب وكقوة اقتصادية تحتاجها أوروبا لتمويل عجزها الهيكلي المتصاعد وتحتاجها الولاياتالمتحدة لشراء سندات خزينتها المتراكمة، لذلك يتوقع أن تكون إزاحة الصينيين صعبة وقد يقتصر الموضوع على منافستهم والدخول معهم في شراكات تصون مصالح الصينيين والغربيين بصورة لا تتحكم فيها حكومة جنوب السودان الناشئة المحتاجة للسيولة مهما كان مصدرها. وعلى المستوى الديني قد يتحول الصراع من بعده المسيحي الإسلامي الذي رعته الكنيسة المسيحية لقرون خلت إلى صراع تبشيري لتنصير السكان الوثنيين الجنوبيين الذين يقدرون ب40% من سكان الجنوب. كذلك يتوقع أن تنتشر شرارة تغيير الحدود الموروثة عن الاستعمار لتصل مناطق أخرى بإفريقيا ويصعب التكهن بإنعكاسات الإنفصال على صراعات متأججة تشهدها عشرات الدول الإفريقية (نيجيريا- الكونكو - السينغال.... إلخ)، وسيكون على الهيئات الإفريقية وخاصة الإتحاد الإفريقي أن تجري مراجعات مؤلمة لكل نصوصها ومواثيقها، وسيكون عليها أن تبذل جهدا خارقا لكبح نزعات انفصالية قبلية ومافيوية وأتنية تجتاح قارة لم توفق في تحقيق التنمية والإندماج. هل يمكن احتواء الآثار السلبية للانفصال؟ أمام العرب فرصة تاريخية لن تتكرر لتدارك الأمور من خلال احتواء الإنفصال بدعم السودان دعما كاملا والمبادرة إلى وضع خطة مارشال عربية اقتصادية وسياسية يكون هدفها دعم مقومات التكامل والتفاهم بين دولة شمال السودان ودولة الجنوب، فما فات في السياسة يدرك بالمصالح الاقتصادية والجنوب أرض بكر تسيرها دولة ناشئة تحتاج إلى كل الدعم لتلبية الحاجات وملء الفراغات التقنية والإدارية للحيلولة دون ارتماء الدولة الجديدة وسقوطها ثمرة يانعة في أيادي متربصة لا تريد الخير للعرب وعملت ما وسعها ذلك من أجل بلوغ يوم الإنفصال. فليعمل العرب وفي طليعتهم السودانيون والمصريون لكي لا يكون الإنفصال نهاية أو غواية، بل بداية جاذبة لبناء علاقات وشراكات قائمة على المصالح والمنافع المتبادلة، فالعالم يتشكل في كرتلات ومجموعات مصالح اقتصادية إقليمية، وجنوب السودان مجاله الحيوي والاقتصادي هو العالم العربي والإفريقي ومحكوم على هذين العالمين بالتكامل، وقدر السودان بشماله وجنوبه أن يكون بؤرة هذا التكامل وقلبه النابض، فلندعمه بمقومات التحليق بجناحين قويين نحو بر التكامل والتعايش والأمان.