برفيسور احمد مصطفى الحسين كتبت مقالا من قبل قلت فيه أن مشكلة انخفاض قيمة الجنيه السودانى بازاء الدولار ومن ثم العملات الخليجية وغير الخليجية الاخرى هى عرض لمرض وليست المرض نفسه، ولذلك يمكن تشبيه اي معالجة لهذه المشكلة تستهدف رفع قيمة الجنيه السودانى بازاء الدولار، باجراءات ادارية وقانونية، بمحاولة من يريد معالجة السرطان بالبنادول او غيرها من المسكنات. فاالسياسات البنادولية قد تسكن الام واعراض المرض مؤقتا بينما يستفحل فى أثناء فترة التسكين المرض الأصلى نفسه حتى يصبح عصيا على العلاج وينهار المريض نهائيا وينتقل الى رحمة مولاه. هذا هو حال المعالجات البنادولية التسكينية التى تتبعها الحكومة السودانية الحالية سعيا وراء مكاسب سياسية وبروبقاندا لا تغنى ولا تسمن جوع، اذ سرعان ما تعود الازمة المرضية وبصورة اعنف مما كانت. وقد درجت الحكومة دائما، وفى كل الازمات التى واجهتها كارتفاع الاسعار وانخفاض سعر العملة وكوارث السيول والأمطار وغيرها من الازمات التى مرت و تمر بها، الى توجيه اللوم للتجار العاملين فى تلك المجالات تهربا من مسؤليتها، او الى أيادى خارجية ومؤامرات غربية، حتى كأن ليس للحكومات الغربية من عمل غير التأمر على السودان وحكومته وشعبه. التجار لا ذنب لهم فى ازمات الحكومة، فهم يدفعهم طمعهم وجشعهم، (وهى بالمناسبة صفات يعتبرها منظروا نظام السوق الحر قيما ايجابية تساعد دينامية السوق ونموه، الى البحث عن الربح والمكسب)، ولا ترتفع اسعار سلعة او خدمة الا لسببين: اما انها محتكرة وبالتالى يسيطر المحتكر على اسعارها من خلال السيطرة على كمياتها المعروضة وأسعارها، او أن هناك ندرة فى المعروض منها مما يجعل الطلب عليها أكثر من عرضها فترتفع اسعارها. وتقوم الحكومة او متنقذوها، وليس الأيادى الخارجية، وعلى عكس ما تتطلبه وظيفتها ومسئولياتهم الوظيفية والاجتماعية والاقتصادية، بخلق أجواء الاحتكار والندرة تلك خدمة لمحسوبيهم من التجار والسماسرة والطفيليين العاملين والمتربحين من تلك المجالات. ولوم التجار على الأزمات غالبا ما ترافقه توعدات وتهديدات باصدار قوانين رادعة لا تصدر وان صدرت فانها لا تنفذ ويتم الالتفاف عليها وان نفذت فانها لن تفعل سوى توسيع نطاق السوق الاسود لأن التجار سيهربون بسلعهم ودولاراتهم اليه. اذن ماهو المرض الذى تشكل كل هذه الافات اعراضا ولسيت اسبابا له؟ المرض هو متلازمة غياب الاخلاق وسط النخبة الحاكمة واجهزنها والتى كان من نتيجتها عدم الثقة فيها، عدم الاستقرار السياسى، وغياب سيادة القانون، والفساد بكل اشكاله، والقمع، وتحلل النظام السياسى وعدم شفافيته، وهى الظواهر التى قادت بحق الى عدم الثقة فى الاقتصاد والحكومة وسياساتها وقوانينها، فهرب من ارضها اهلها باستثماراتهم الى الخارج. وتجنبها غير اهلها من المستثمرين حفاظا على اموالهم واعصابهم. وبعد أن أعيت مشكلة قيمة العملة الحكومة اتجهت كالعادة الى اموال المغتربين. ومن السياسات التى توجهت فى هذا الاتجاه التوجيه الذى اصدره رئيس الجموهورية فى خطاب وثبته الثانية بتاريخ 23/3/2014 بضرورة التحرك لتحرير سعر الصرف حتى يتم تبيض السوق الاسود وتحويل اموال المغتربين الى القنوات الرسمية. ولعمرى كأن بنك السودان يستطيع أن يفعل ذلك!!! وحقيقة الأمر أنه لو كان البنك يملك من موارد العملة الصعبة ما يستطيع ان يواجه بها متتطلبات تحرير سعر الصرف وتمكين قوى السوق من تحديده بشكل مستقل عنه لما احتجنا اصلا لسعر رسمى وسعر موازى. ويهدف توجيه الرئيس حقيقة الى تشجيع المغتربين على تحويل اموالهم عن طريق القنوات الرسمية لتوفير العملة الصعبة لمواجهة مستلزمات الحكومة لإدارة حروبها الأهلية. وفى نفس هذا الاتجاه جاء توجيه نائب الرئيس بتفعيل توجيهات الرئيس. فقد ورد عن الاستاذ سعيد أبو كمبال فى مقال له فى الركوبة بتاريخ 9/9، 2014 قوله (جاء فى الصحف السودانية ليوم الأربعاء العشرين من أغسطس 2014م أن النائب الأول لرئيس الجمهورية، الفريف أول ركن/ بكرى حسن صالح قد أصدر توجيهاً بأن تسلم الى السودانيين العاملين بالخارج (المغتربين) المبالغ التى يحولونها الى السودان ، أن تسلم إليهم بالعملات الأجنبية. ولتنفيذ ذلك التوجيه أصدر بنك السودان المركزى تعميماً فى الثامن والعشرين من أغسطس 2014م بعنوان تحاويل السودانيين العاملين بالخارج. وجاء فى التعميم :(أن يتم صرف المبالغ الواردة من الخارج ؛ عبر التحاويل المباشرة أو النقدية ؛بأضافتها لحساب المستفيد طرف المصرف الذي يتعامل معه، أوتحويلها لحسابه لدى أى مصرف آخر، أوتحويلها للخارج، أوصرفها نقداً بالعملات الأجنبية) وقد جاء فى التعميم ان القصد من تلك الاجراءات هو تشجيع السودانيين العاملين بالخارج على تحويل مدخراتهم عبر المصارف العاملة بالسودان). وقد برر الاستاذ سعيد ابو كمبال فى مقالته تلك احجام المغتربين عن تحويل اموالهم للسودان بسبب الفرق الكبير بين السعر الرسمى للعملات الاجنبية وخاصة الدولار وسعرها فى السوق الاسود. وفى رأئى ان هذا ليس هو السبب الحقيقى لاحجام المغتربين، وخاصة اصحاب الدخول العالية، عن تحويل اموالهم للسودان واستثمارها فى مشاريع اقتصادية منتجة، كما يفعل كل المغتربين من الجنسيات الاخرى، وانما السبب الحقيقى هو عدم ثقتهم فى سياسات الحكومة، وعدم الاستقرار السياسى وما يتبعه من اجواء امنية خانقة، وغياب سيادة القانون، وعدم استقلال القضاء وغيرها من العلل التى ادت الى انخفاض قيمة الدولار واحجام المغتربين عن تحويل اموالهم لبلدهم. فللمغتربين تجربة طويلة من المعاناة مع هذه الحكومة وسياساتها الحمقاء منذ نشأتها. فقد توجهت الحكومة فى بداية هيجتها للبنوك فارضة عليهم كشف حسابات عملائهم من العملات المحلية والصعبة، ثم غيرت العملة حتى تستطيع السيطرة على تلك الاموال مما افقد المواطنين ثقتهم فى الحكومة والبنوك على حد سواء. ثم جاءت باخرة قصص الفساد والاختلاسات فى البنوك التى تمر دون اى محاسبة تذكر فزادت الطين بلة. كما أنه فى بداية عهد الانقاذ توجهت الحكومة نحو المغتربين تستحلبهم باسم المساهمة الوطنية التى تتحول الى جيوب المتنفذين وسفراتهم وتمويل الحروب، وارهقتهم بالاتاوات ودمغ الشهيد والجريح وغيرها من الابداعات التى ابتدعتها لاستحلاب اموال المغتربين حتى امتنع غالبيتهم من السفر فى اجازاتهم الى السودان والاكتفاء بارسال اسرهم وأطفالهم فى الإجازات. وقد وصل عدم الثقة هذا نهايته القصوى فى هذه الايام لأسباب معلومة للجميع بدرجة تمكننى من التقرير انه اذا حررت الحكومة سعر الصرف ام لم تحرره، او أعلن منسبوها هجرتهم وتوبتهم الى الله او لم يعلنوها، فان المغتربين سيظلون على حالهم من التعامل مع السوق الموازى لتوصيل مصروفات معيشة أهلهم وتكاليف علاجهم وتوفير الخدمات الاخرى التى عجزت الحكومة عن توفيرها لهم. وصدق من قال "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وقد لدغ المغتربون من نفس الجحر مرات ومرات.