محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    حذاري أن يكون خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين هو أعلى سقف تفاوضي للجيش    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغنوشي: مفكر إسلامي أم سياسي حركي حديث؟ (1) ..
نشر في الراكوبة يوم 13 - 12 - 2014


الحلقة الأولى
أودُّ بعد أن هدأ ضجيج "سبوع" الشيخ(راشد الغنوشي)أن أساهم بمداخلة أو بعض الآراء حول الرجل، وفكره، وحزبه. وحين أخبرني الأخ (حامد فضل الله) بنبأ منح جائزة (ابن رشد) للفكر الحر لعام2014، ابديت اعتراضي واستغرابي ،ولكن حين طالعت أسماء لجنة التحكيم زال استغرابي واستمر احتجاجي وكتبت لحامد رسالة في الموضوع. ولكن للأسف يبدو أن الأخ حامد، اعتبر أن اعتراضي علي منح الجائزة للشيخ (راشد الغنوشي) هو جزء من كراهيتي "الغريزية" للإسلاميين والإسلامويين كما يروجون بخبثهم المعهود، للتقليل من قيمة النقد الذي يوجه لهم ويكتفون بشخصنة الأمور. وأكرر للمرة الألف ليس لديّ حزازات ومواقف شخصية مع أيّ كائن، ومشكلتي وصراعي حول الحقيقة وصدق المواقف. ولقد أفقدني ذلك الكثيرين ولكن لا استطيع ولا انوي التخلي عنه بعد هذا العمر. وإسلامويو السودان أقل مخلوقات الله نصيبا من الصدق واتساق المواقف. ولهذا أكثر من نقدهم واتشكك في قولهم وسلوكهم وأخلاقهم. ولذلك هذا المقال هو بمثابة تقديم أساس منطقي أو تسبيب أو(rationale)،اعتراضي علي منحه جائزة "للفكر الحر"، وكنت لا أمانع لو كانت للجائزة لمواقفه من الديمقراطية السياسية أو التعددية رغم إسلاميته. وفي الحالة التونسية هناك شخصيات عديدة جديرة بجائزة الفكر الحر ومن بين الإسلاميين أنفسهم، منهم زملاء له ومؤسسون ومجددون داخل الحركة الإسلامية، ولكنهم لم يجدوا شهرته رغم انتاجهم الفكري الغزير والمتيز، وبالمناسبة الغنوشي ليس غزير الانتاج الفكري (لا السياسوي) ولا حتي متوسطه. ومن هؤلاء علي سبيل المثال: صلاح الدين الجورشي، وأحميدة النيفر، صاحب كتاب:(الإنسان والقرآن وجها لوجه).بالإضافة لاكاديميين اجتهدوا في الفكر الإسلامي مع نشاط ديمقراطي: عبدالمجيد الشرفي وآمال قرامي.
الغنوشي: التكوين والتطور
لابد من دراسة مكونات شخصية أي مفكر أوسياسي، لأنه لا يظهر فجأة مكتمل التفكير، والنشاط، والرؤية. والغنوشي شخصية قلقة وهذا ما ساعده في البحث عن جديد ومتغير. والقلق نعمة حُرم منها كثير من الإسلاميين لأنهم محافظون ويفضلون ثبات الأشياء. كما أن كثيرا منهم يعمل جاهدا لكبت نعمة القلق، مفضلين إيمان العجائز.
ولد(الغنوشي)عام1941م في مدينة (الحامة)بالجنوب الشرقي لتونس، وتلقي تعليمه حتي الثانوي هناك ثم انتقل للقاهرة ثم دمشق في مطلع الستينيات. ويؤرخ لنفسه: "وكان جيلنا المشبع بالثقافة العربية الإسلامية، الضحية الكبرى التي تلقت صدمة الاستقلال واكتوت بنرانه، إذ حوصرنا في التعليم والإدارة، فتغربت البلاد وتمشرقنا ولم نجد سبيلا للتمرد علي غربتنا إلا بالهجرة إلي المشرق، إلي بلاد مصر والشام."(الشيخ راشد الغنوشي سيرة ذاتية بقلمه، صحيفة انوال المغربية 22 يونيو1992).وبالفعل توجه الي مصر والتحق بكلية الزراعة بجامعة القاهرة. ولكن تدهورت العلاقات المصرية-التونسية عقب دعوة (بورقيبة) للاعتراف بإسرائيل، انعكست علي الطلاب التوانسة وحرموا من مواصلة تعليمهم.
يكتب عالم الاجتماع التونسي(عبدالقادر الزغل) المهتم بتاريخ الحركة الإسلامية، عن هذه الفترة من حياة (الغنوشي) في القاهرة، بأنه كان شديد الإعجاب بالنموذج الألباني المستقل في شيوعيته، يكتب: "أثناء إقامته في القاهرة، كان للغنوشي فضول الاستماع إلي إذاعة ألبانيا الذي كان يذيع بالعربية باتجاه بلدان الشرق الأوسط. بل أنه راسل هذه الاذاعة الداعية إلي إيديولوجية متفردة، هي إيديولوجيا بمثابة المزيج بين ماركسية عالمثالثية ذات منحى دهري و انتظاري مع انتقاد ثابت لسياسة موسكو". ويقول(الزغل) أن الغنوشي كان ينوي مواصلة دراسته في البانيا. ولقد كاد الزعيم المقبل لحركة الاتجاه الإسلامي أن يتلقي دراسته في جامعة ماركسية لينينية، لولا الصدفة. فقد التقي الغنوشي حين كان يهم بشراء بطاقة سفره من إحدى وكالات السفر، بصديق تونسي كان عائدا من سوريا فنصحه بالتوجه إليها لأنها تحسن معاملة العرب.
اتجه بالفعل لسوريا وحصل من جامعة دمشق علي دبلوم في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. وكانت فترة فوران سياسي، ويقول أنه كان مهيئا جدا للاندماج في التيار العروبي الناصري فانخرط في الاتحاد الاشتراكي. ولكن هزيمة يونيو1967 غيرت من قناعاته العروبية، ويكتب(الزغل)أن الغنوشي أطلق لحيته علي "طريقة فيديل كاسترو" كما كان يقول هو نفسه،ولكن تعاطفه كان مع ثورات العالم الثالث التي لا تبعد كثيرا عن ثقافته الوطنية. (مقال: الاستراتيجيات الجديدة لحركة الاتجاه الإسلامي: مناورة أم تعبير عن الثقافة السياسية التونسية؟ في كتاب ندوة: الدين في المجتمع العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1990،ص347).
قصد الغنوشي باريس بعد تخرجه لمواصلة دراسته والتحضير للدكتوراة في الفلسفة الإسلامية. ويسجل أزمة قلقه الروحي، إذ بعد جولات في المدن والأرياف الغربية ،استقر بباريس ويكتب:" وكنت شاهدا خلال اقامتي بها للدراسة العليا علي قساوة الحياة وسرعتها الجنونية وفرديتها وماديتها ونفاقها". ولم يجد-كما يقول-في ذلك الجحيم من مرفأ للسلام والنجاة من العواصف، غير مسجد في بيت صغير في حي فقير من أحياء العمال. وأنشأ مع عدد من الطلبة المغاربة وطالب باكستاني، نواة للدعوة الإسلامية بمساعدة من جماعة التبليغ. ولكنه ترك الدراسة لأسباب عائلية في نهاية الستينيات، وعاد لتونس.
يلخص (الغنوشي) تجربته بعد العودة من الخارج:"...ولما رجعت إلي تونس، حضرت حلقات الشيخ بن ميلاذ والتقيت بالشيخ عبدالفتاح مورو، ثم انطلقنا في الحركة الإصلاحية، وقد ساعدني عملي في التعليم الثانوي علي الاتصال بالشباب وتوعيتهم، وكان عملنا يتركز علي التوعة العقائدية...نقدم فيها المفاهيم الغربية وتنقد وتقدم البديل الإسلامي".(نفس المصدر السابق).وجمع الغنوشي مرجعيات متناقضة. تشتمل علي سلفية الشيخ بن ميلاذ مع منظومة اشتراكية ناصرية وبعثية. واهتم بالكتابة وكان ينشر في مجلة(المعرفة) التونسية وجمع كتاباته في مؤلف بعنوان (مقالات) نشرته حركة (الاتجاه الإسلامي) في باريس عام1982.ونشر ما تبقي في كتاب آخر بعنوان: (حبل الله وبيوت العنكبوت)في عام 1986.ودخل في توفيقية فكرية وسياسية صعبة ولكنه شارك منذ نتصف السبعينيات في عضوية "جمعية الدعوة إلي المحافظة علي القرآن الكريم" حتي انعقاد المؤتمر التأسيسي لحركة "الاتجاه الإسلامي"عام1979(نفس عام زيارة الخرطوم)والتي انشق عنها أغلب رموزها وكونوا عام1983 تيار "الإسلاميين التقدميين. وكان من أهم أسباب الخروج، الاحتجاج علي تصاعد سلطة إمام الحركة، وبسبب التصلب الذي اظهره في مواقفه المذهبية. وسوف نفصّل في الخلاف في مقال قادم لأهمية ذلك في تقييم تفكير(الغنوشي).وحوكم عام1981 بالسجن عشر سنوات وأُطلق سراح في1984 واعتقل مرة أخرى عام 1987.
أظهر (الغنوشي) وحركته إعجابا وتأثرا كبيرين بالشيخ(حسن الترابي)،وكان هذا الميل واضحا بين كثير من الحركيين الإسلاميين العرب الرافضين لنفوذ التنظيم العالمي للإخوان بأغلبيته المصرية. وهنا يبرز سؤال: من أين وكيف اكتسب(الترابي)وتنظيمه هذه المكانة وحظي بهذا الإعجاب؟ ناب (عبدالله النفيسي) عن جميع الإسلاميين، بالرد والتبرير عندما قارن بين بناء (الترابي) للتنظيم مع بناء الإخوان في مصر. فهو لم ينسب للترابي وحزبه أيّ إضافة فكرية أو نظرية، أواجتهاد مميز، بل اكتفي بالمزايا التنظيمية والحركية. ويكتب:" والحقيقة من يتأمل موقف الحركة الإسلامية في السودان ممثلة ب(الجبهة القومية الإسلامية) بزعامة الترابي ويقارنها (الحركة الإسلامية في مصر) ممثلة ب(الاخوان المسلمين) بزعامة أبو النصر لا يملك إلا أن يصل لجملة من المستخلصات:
1- استطاعت الحركة في السودان أن تبلور تكتيك الانتقال من حركة صفوية حزبية تنظيمية مغلقة في البدايات ، إلي حركة جماهيرية جبهوية مفتوحة. وفي المقابل نجد أن جماعة (الإخوان المسلمين) في مصر لم تزل تتمسك بالصيغة الصفوية التنظيمية المغلقة.
2- استطاعت الحركة في السودان عبر صيغتها الجبهوية المرنة أن تستوعب الحالة الإسلامية في القطر وتوظفها لمنهاج الجبهة. بينما جماعة الإخوان في مصر كقوة محجوبة عن الشرعية لم تستطع القيام بذلك.
3- الخطاب السياسي والاجتماعي للحركة في السودان لا يقف عند حد البث العقائدي أو الديني المحض بل يوظف ذلك في القضية السياسية والاجتماعية.
4- استطاعت الحركة في السودان أن تؤسس علاقات واسعة مع الخارج.
5- اكتسبت الحركة السودانية قدرات تفاوضية مرنة.
6- أسست الجبهة في السودان حركة نسائية منظمة ومستقلة.(كتاب الحركة الإسلامية- رؤية مستقبلية. القاهرة، مكتبة مدبولي،1989:254).
ينسي (النفيسي) أن هذه الاختلافات ليس نتيجة أصالة إسلاميتها، ولكن بسبب سودانيتها. فقد ساعدت أجواء التسامح والحرية النسبية مقارنة بالدول العربية الأخرى بهذا التطور للإسلاميين السودانيين. وللمفارقة قاموا باجتثاث مظاهر هذا التسامح والحرية فور وصولهم للسلطة عام1989م.
يكتب(الجورشي)عن انطباعاتهم عن(الترابي)ولا يذهب بعيدا عما سبق: "كما كانت لبعض عناصر المجموعة جلسة مع حسن الترابي عند زيارته لتونس في أواخر السبعينيات، حيث استغربت انتقاده الشديد والساخر أحيانا من حركة الإخوان المسلمين، اضافة لمعالجته المختلفة للكثير من الجوانب الفكرية والتنظيمية والفقهية ".(2010:140).
كان (الغنوشي) يعوّل كثيرا علي دور (الترابي) والحركة الإسلامية السودانية، ليس بسبب قوتها الذاتية بل بتميز الظروف المحلية التي تعمل ضمنها. ويبدو لي أن الإسلاميين غير السودانيين، تآمروا مع زملائهم السودانيين علي أن يكون السودان "مختبرا" أو "حقل تجارب"، لأول تجربة لدولة إسلامية سنية معاصرة، باعتباره "الحلقة الضعيفة"- حسب نموذج روسيا عام1917م.أو أن يكون "الدولة القاعدة" حسب مشروع القوميين للوحدة وبالذات "نديم البيطار". ويظهر صواب هذا الاستنتاج في الدعم الإخواني والإسلاموي الهائلين للانقلاب من وفي الخارج، ومن البداية حُشد إعلام من الخارج لتأييد الانقلاب والدفاع عنه(نموذج محمد الهاشمي الحامدي والذي صار مليونيرا وصاحب قناة فضائية وصحيفة بل حزب ومرشح رئاسة من أموال دافع الضرائب السوداني التي صرفها نظام الجبهة علي كتائب الإعلام الإسلاموي، وعلي رأسها صحيفته المستقلة).وقد ختم(الغنوشي)محاضرته في موسم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في دورة1979-1980 بالقول:"... بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان التي نعقد عليها آمالا كبيرة بالنسبة لهذه المنطقة خاصة في أن تكون المضغة التي ينطلق من صلاحها صلاح الجسم كله(...)وإن المجتمع السوداني لا يزال مجتمعا بكرا.أما الحركة الإسلامية في السودان فلها من تجاربها وموقعها بالنسبة لافريقيا وآسيا وتاريخها الجهادي الطويل ووعى أفرادها وقادتها ما يرشحها-إذا أحسنت التعامل مع جيرانها-لأن تكون أول استجابة ناجحة للتحديات الكبرى المطروحة في المنطقة. لقد ابحرت سفينتكم أيها الاخوة فلا يلتفت منكم أحد إلي دنيا يصيبها أو شهوة يشبعها وأمضوا حيث تؤمرون بجهاد متواصل".(كتاب الحركة الإسلامية والتحديث،1984 ص ص41و42).
بالنسبة لي كانت هذه بدايات المؤامرة الإخوانية العالمية علي السودان، ولذلك تعمدت مواجهة (الغنوشي) مباشرة في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية في(الحمامات) بتونس نهاية اكتوبر 2012. وصعق الشيخ وتلاميذه حين قلت له: "أنتم الإسلامويون العرب عنصريون تطالبون بالحرية في تونس ومصر بينما تؤيدون انقلاب عسكري يضطهد شعبه في السودان وكأنهم غير جديرين بالحرية".
****
قدم الاستاذ(خالد موسي دفع الله)في مقالة بعنوان: "افول دولة الترابي وبداية عصر الغنوشي" (سودانايل6 ديسمبر2014) مقارنة غير دقيقة بين الشخصيتين، أفسدتها الايديولوجيا وعين الرضا، فأصدر عددا من الأحكام المجانية والعشوائية. ففي البداية يستخدم تصنيف (الجابري) ليقول عن (الترابي) أنه مشرقي جغرافيا ومغاربي فكريا، ويستمر في كرمه: "إلا أن منابع فكره (الترابي) أقرب إلي المغاربة لإعلائه العقل وشأن التدبر في الآفاق وتأثره بمنهج ابن خلدون وابن رشد في التفكير".حقيقة استعجب متي سينتهي الإسلاميون حتي العقلاء منهم إلي التوقف عن عبادة هذه الأيقونة أو العجل المقدس بعد كل الذي جره الترابي ب"عقله" الفاوستي علي السودان؟ فالترابي ليس مغاربيا ولا مشارقيا بل سودانيا قحا ومن الجزيرة بلاد القباب والأولياء، وابن قاضي شرعي.ويكتب: "يؤمن الترابي أن الديمقراطية يمكن أن تحدث نتاجا للثورة كما حدث في فرنسا". فعلا لقد تجلي هذا الإيمان في هندسة "الإنقاذ" ليأتي لنا المفكر بديمقراطية علي ظهر دبابة تنويعا علي العزف الفرنسي. ويمضي (خالد) مخففا ليقول أن(الترابي) يري "أن الغرب لايريد ولا يقبل ديمقراطية تلد إسلاما". وهذه معادلة معكوسة تماما، نحن نريد إسلاما يلد ديمقراطية حقيقية وليست أداتية أي وسيلة توصل إلي السلطة سلميا وتختصر في "الصندوء" أو "الصندوق". إذ لا يمكن استبعاد حريات التعبير والعقيدة والتفكير عن مضمون الديمقراطية كما يفعل الإسلاميون فهمهم.
يصر (خالد) في عناد تركي محير علي أن يختم مقاله بالقول: " العبرة أنه رغم فشل تجربة الترابي في السودان إلا أن مدرسته الفكرية والتجديدية هي التي تقود النجاح في تونس الآن. ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار".اتعليقي فقط هو: اللهم نسألك لطف القضاء.
الاختلاف بين (الترابي) و(الغنوشي) ليس فكريا ولا سياسيا بل أخلاقيا وسلوكيا. فالغنوشي يستحي ويخجل ولكن الترابي لا يستحي أبدا ومغرور، كما أن الغنوشي يحترم شعبه ويضع له اعتبارا،بينما (الترابي) يتعامل مع شعبه باحتقار ويتعمد إذلاله واهانته كما يتكرر كثيرا في تصريحاته المستفزة. الترابي فظ وغليظ الكبد وجاف، وفي هذه الصدد يمكن سؤال من عرفه عن قرب بالذات التيجاني عبدالقادر،وحسن مكي، والطيب زين العابدين، وارجعوا لقصته مع المرحوم (زين العابدين الركابي) عندما كان رئيس تحرير جريدة (الميثاق) في ستينيات القرن الماضي. بينما(الغنوشي)يمكن وصفه أحيانا باللطف وللفلسفة والتصوف مسحة في سلوكه.سأله مرة الصحفي(قصى صالح الدرويش): هل تحب الياسمين؟ فأجاب: نعم.. والقرنفل وكل ما جميل. (حوار ص190). وقد صدق (يوسف الكويليت) - نقتبس من (خالد): "يمثلان نموذجا للقيادة البراقماتية أو المكيافيلية حسب تعبيره رغم فوارق الثقافة والاقتصاد".
هناك سبب موضوعي للأفول وبداية عصر، فقد تميز الغنوشي بسبب اختلاف تطور تونس وليس تطوره الخاص فقط، وهذا أيضا قد يجيب علي سؤال ضمني: لماذا لم ينفرد بالسلطة؟ يكمن السبب في الفرق بين تطور تونس بورقيبية والحزب الاشتراكي الدستور؛ وبين سودان الازهري ولقاء السيدين، وعبود، والنميري، والبشير.كما أن النخبة التونسية تثاقفت مع الفكر الغربي من خلال اللغة الفرنسية، بينما النخبة السودانية اكتفت باكتساب اللغة دون التأثر بالفكر الغربي (لغة عمل وتخصصات فقط). وفي تونس حاول(بورقيبة) القيام بدور المستبد العادل التحديثي أو فرض التحديث، واستطاع بجرأة وبلا تردد التغلب علي مقاومة المحافظين والتقليديين. وفرض نظاما تعليميا حديثا رغم كل ابتزاز مراكز قوى جامع الزيتونة. كما شرّع قوانين مجلة الأحوال الشخصية في مساواة المرأة. وكان يبالغ في توصيل رسالته أحيانا فقد أفطر علي شاشة التلفزيون في رمضان ليعطي العمال رخصة الإفطار لو احسوا بالتعب. اختلف في الكثير مع بورقيبة ولكنه خلق واقعا وتاريخا لتونس لا يستطيع(الغنوشى)ولا غيره أن يلغيه أو يتجاوزه.
منطق جائزة (إبن رشد) وحسب اسمها،هي للمؤمنين والمدافعين عن الفكر الحر والحرية عموما في كل أشكالها. وفي ذكر المواقف مع الحرية وحقوق الانسان، يخاطب الأخ (حامد فضل الله) (الغنوشي): "دافعت عن خصومك السياسيين" ولكن لم يدافع عن الشعب السوداني المسلم بل كان يتجول بجواز سفر دبلوماسي،بينما كان النصاري حينها في منظمة العفو الدولية وجمعيات حقوق الإنسان الغربية يدينون "بيوت الاشباح" في الخرطوم. فهذا هو الكيل بمكيالين الذي يدينه الإسلاميون في موقف الغرب تجاه حقوق .ولكن (الغنوشي)اختار المبدأ الجاهلي(أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) فهو مطالب بتأييد أخيه الذي في السلطة ظالما أو مظلوما لكي لايفقد هذه السلطة. كنت أتمني لو اطلع الأخ(حامد)علي هذه المقابلة التي أجريت مع الغنوشي عام1991.فقد كان يرد نفس كلام النظام في تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان.فهو يقول أن عدد المساجين سياسيا في السودان49 سجينا وأن قادة المعارضة خرجوا من السودان بجوازات سفر دبلوماسية وأن(المهدي)ينتقد النظام في خطب الجمعة.وفي سؤال عن رأيه في الانقلابات يقول:" أنا في ظني لأن الصرا ع الحزبي أخذ من الاهمية ما غطي علي المصلحة الوطنية العليا". وعندما سأله الصحفي هل يبرر الانقلابات ،رد:"أنا لا أبرر الانقلابات العسكرية،ولكن أقول بأن هناك أمرا واقعا، لأن ديمقراطياتنا التي عُرفت كانت هشة".( حوارات قصي صالح الدرويش. الدار البيضاء، منشورات الفرقان،1993:173 ).
طلبت من الأخ (حامد) أن يبرز أي مذكرة أو بيان أو إعلان أبدي فيه (الغنوشي) مع معتقل أو معارض غير إسلامي؛ أو أي احتجاج علي إغلاق صحيفة أو منع صحفي عن الكتابة، وقع عليه أو ساعد في ترويجه، ليبرر وصف حامد له بالمدافع عن الحريات. وفي يونيو1977 تم إنشاء الرابطة التونسية لحقوق الانسان وهي الأولي من نوعها في إفريقيا. لم يكن للغنوشي والاتجاه الإسلامي أي دور. وفي نفس العام 21ديسمبر1977 اعتقل الغنوشي ودافعت عنه الرابطة حتي أُطلق سراحه مطلع عام1980،ومع ذلك لم ينشط فيها هو ولا حزبه. فقد كانت مثل هذه المنظمات تعتبر غربية الهوى ويسارية النشاط. وحتي المنظمة العربية لحقوق الانسان التي تكونت في ليماسول بقبرص لم يكن الغنوشي من المبادرين.
هذه هي مواقف صاحب جائزة الفكر الحر من الحريات عموما، وهو يري الحرية مشروطة بالهوية والتي هي الإسلام في تونس. ويقول: "فالحرية السياسية تفترض ،أو الديمقراطية تفترض مضمونا ثقافيا. فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية في أي بلد إلا بالحديث عن هوية، عن المضمون الثقافي الذي يتحرك في إطاره الجهاز الديمقرايطي". ومن الواضح أنه يتجه نحو تضييق الحرية وتحديد شروطها حسب رؤيته: "عندم نتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي، تنظيم المجتمع، فإن تنظيم المجتمع يقتضي أرضية ثقافية هي الإسلام(...) وبالتالي، فالإسلام هو الذي من حقه أن يحكم، ومن حق الإسلام الذي يملك فيه أغلبية أن يؤطر المجتمع المجتمع،أن يصوغ المجتمع".( قصى الدرويش، ص34).هذا هو الفرق في فهم الأغلبية، الحزب الفائز بالأغلبية لا يدعي حق تأطير وصياغة المجتمع، هناك سياسات قومية أو وطنية ثابتة نسبيا يتحرك داخلها كل حزب من أقصى اليسار حتي أقصى اليمين أو ما يسمي روح الأمة(ethos)،أي الإجماع الوطني حول رؤية مشتركة لخير الوطن وصالحه.
يقول له الصحفي أن هناك اختلافات في ثقافة الأغلبية، فهناك مسلمون يندرجون ضمن الاغلبية المسلمة ولكن قد لا يندرجون ضمن الاغلبية المناضلة من أجل الإسلام السياسي الحاكم؟ فيرد:" نحن نعيش في وضع استثنائي، نعيش في مرحلة تحول من مجتمع نخبته محكومة بالغرب ثقافة وسياسة واقتصادا إلي مجتمع علي وعي بشخصيته، إلي مجتمع إرادته مستقلة، سياسيا واقتصاديا".(ص35)ويشبه المجتمع بفندق "يتساكن" في أناس متنافرين، ولكن تأتي مرحلة يعي فيها هؤلاء المتساكنون "أنهم لم يجتمعوا بمحض صدفة وإنما هم هوية" .وبالتالي من يحكمهم ينبغي أن يحترم هذه الشخصية الثقافية "أما الذين يرفضون الانتماء لهذه الهوية (..) فهم غرباء". ولا تختلف لغة(الغنوشي) عن أيّ سلفي حين يتحدث عن اللإكار الجديدة المخالفة لرؤيته، فهو يعتبر الشيوعية رافضة للإسلام، أمّا العلمانية فهي "بضاعة أجنبية، بضاعة مسيحية نمت في مرحلة الغزو الفكري"(ص36).ولا شك أن (إبن رشد)قد تقلب في مرقده حين سمع فكر حامل جائزته تجاه الآخر المختلف.
(نواصل، الحلقة القادمة، فكر الغنوشي :التوفيقية الصعبة واحتضان المتناقضات)
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.