في حوارٍ معها منشور في موقع تطاوين الإلكتروني 25 مارس/آذار 2011، أشارت الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس إلى دور الترجمة في الانفتاح على ثقافات العالم وآدابه، قائلة «لولا الترجمة لما قرأنا لأعلام الأدب العالمي أمثال: ديستويفسكي وهمنغواي وفرجينيا وولف وعمر الخيام وغيرهم ممن بصموا تاريخ الإنسانية بأعمالهم الخالدة». التمثيل هنا دال على حضور هذه الأسماء في ذاكرتها، وفاعلية نصوصها وذاتها الإبداعية، وربما تجاربها الإنسانية بكيفيات معينة، في تشكيل ثقافتها الأدبية والمعرفية وتجربتها الإنسانية عامة، وما تسرّب إلى ما تبدعه من نصوص شعرية. من هذه الزاوية يمكن قارئ نص «اشتهاء» للشاعرة فاطمة الزهراء بنيس، أن يرى علاقةً ما بين هذا النص وأحد المشار إليهم من أولئك الأعلام، أعني الروائية الإنكليزية فرجينيا وولف «1882-1941» التي أصيبت بمرض الهوس الاكتئابي، ثم انتحرت مخافة أن يصيبها انهيار عقلي، إذ ارتدت معطفها وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أُوز القريب من منزلها. «انظر: محاورة متخيلة معها، في كتاب «جيوب مثقلة بالحجارة ورواية لم تكتب بعد» ترجمة فاطمة ناعوت، 2004». النص: اشتهاء اشتهيتُ موتي لأراني طليقة في قلب الله لا غياب يُؤرّق حواسي ولا شوق يدمع شراري اشتهيتُ موتي لأكتب على الهواء فداحتي لأفك غيمي من شمس كاذبة لأوقظ المعنى في رؤوس الأموات اشتهيتُ موتي لأنجو من شهوة تلاحقني من حرائق قلب تمادى في زيغه من ظلّ تجسّدني اشتهيتُ موتي لكني لم أتقن انسيابي في النهر لم أثقل جيبي بالحجارة إلى الحياة عاد بي مجدافي كأن الأرض لن تدور دون طوافي ينأى نص «اشتهاء» عن نهاية وولف، بمقدار تماسه معها، فهو ضاجّ بالحياة، وهو يعلن اشتهاءه الموت، إذ أن له أبعاداً رمزية تحرر الموت من الموت، وتفرده في فضاءات مفتوحة على الحياة واشتهاءاتها، واللغة فيه مضللة، فهي تعني عكس ما تقول، في اللازمة المتكررة «اشتهيت موتي»، التي تبدو أشبه بإيقاع ابتهالي نزّاع إلى حياة أكثر اكتمالاً، تمثل الذات الشاعرة فيها محور الكون والوجود. وذاك ملمح دال على مسالك صوفية ومجازات فلسفية، ليست من الطارئ على اشتغالات فاطمة الزهراء بنيس في تجربتها الشعرية، ولاسيما ديوانيها «بين ذراعي قمر» – 2008، و»طيف نبي» – 2011. ينبني النص على متوالية «اشتهيت موتي» لازمةً افتتاحية لمقاطعه الأربعة، فتفضي كل مرةٍ إلى دورة اشتهائية جديدة، تفيض مدداً على سابقتها، فالأولى «رؤية» تعلل ذلك الاشتهاء بأعلى درجات السمو في حياة متخيلة « طليقة في قلب الله». وهي حضورٌ ينتفي معه أي شكل للغياب، يؤرق الحواسّ، أو تقدح أشواقه شرار الدمع. ذاك، إذن، موتٌ باذخٌ تشتهيه الشاعرةُ، طليقةً في حضور أبدي! وتفضي نقلة النص في لازمة الاشتهاء الثانية إلى «كتابة»، و»انفكاك»، و»إيقاظ»، وهي دوال موصولة بفعل الرؤية في اللازمة الافتتاحية، المرتبط بالحرية العليا «طليقة» وفاعلية الحضور، فاشتهاء الموت تدوين علني للفداحة، وتحرير من زيف فاضح، وإيقاظ للعالم على معنى غائب، ليس للموت، وإنما للحياة. ويغدو اشتهاء الموت، في النقلة الثالثة «نجاةً» من «شهوة» ما، ملاحقة، و»حرائق» قلب تمادى في زيفه، و»ظل» يتجسد، وهي دوال موصولة بالموت الذي تتجلى «شهوته» بصور متعددة، وتشتعل «حرائقه» زيفاً، وتغدو الذات «ظلاً»، ينتحل صفة الجسد. فاشتهاء الموت، والحال هاته، نجاة من حياة مواتٍ لا تُشتهى. تلك النقلات الثلاث تفضي إلى رابعةٍ مغايرة، تكشف شغفاً عميقاً بالحياة، ظل ملتبساً في السابقات، فالقلق الوجودي العارم الذي دوّم القصيدة على لازمةٍ «اشتهيت موتي»، تركله الشاعرة، بكلمة حاسمة، متبوعة بجملتين سالبتين، على عكس جمل الاشتهاء السابقات، الموجبات الفعل، والذاهبات في تعليل الحلم والرغبة والتوق: «اشتهيت موتي/ لكنني لم أتقن انسيابي/ في النهر/لم أثقل جيبي بالحجارة». هنا تتعالق بنيس نصياً مع وولف، بآلية التحويل والنفي، في لحظة افتراق بين نهايتين: نهاية نص بنيس، ونهاية حياة وولف، إذ تسلب الشاعرة موتها فاعلية الاشتهاء، بتحول تركيبي مفارق، من جمل تعلل وتؤكد وتنفتح على محلوم به «لأراني، لأكتب، لأفكّ، لأوقظ، لأنجو»، إلى جُملٍ تتسق بالنفي مع فعل الاشتهاء الموصول زمنياً بالماضي «اشتهيت»: «لم أتقن، لم أثقل»، وعندئد، لا اتجاه في نهر الموت المشتهى إلا إلى الحياة، حيث السر الكوني الذي تفصح عنه الشاعرة في تماهيها الصوفي في موجوداته، وحيث لا حياة في الكون إلا بها، بفاعلية انتقال صيغة الفعل إلى توكيد الصيرورة شعرياً، بفيض مقدّس، يُعلي اشتهاء الحياة، بمجداف اللغة والرؤيا: «إلى الحياة/ عاد بي مجدافي/ كأن الأرض/ لن تدور دون طوافي». كاتب يمني سعيد الجريري القدس العربي